في أحيان كثيرة نطلع على التحليلات السياسية لمراكز البحوث الأمريكية والاوربية وكبار الصحفيين والمحللين السياسيين بشكل خاص عما يحدث في العراق ونجدها فارغة المعنى وبعيدة عن الواقع العراقي بعد السماء عن الأرض، وربما رجل أمي من العراق يمكن أن يحلل ما يحدث في وطنه بموضوعية أكثر، وهذا أمر طبيعي فالذي يعيش الواقع تختلف رؤياه عمن يعيش بعيدا عنه آلاف الكيلومترات.
لعل ابرز شاهد على حديثنا هو ما قدمته مراكز البحوث والدراسات عن ضرورة اسقاط النظام العراقي السابق والتبشير بالتحولات الديمقراطية التي سيشهدها البلد بعد سقوط النظام، وتبين في المحصلة ان معظم التوصيات لغزو العراق كانت خاطئة ومدمرة للبلد، علاوة على الآلاف من القتلى والجرحى في قوات الغزو ونفقات الحرب التي بلغت مئات المليارات من الدولارات. لكن هذا لا يعني ان المعلومات التي تقدمها مراكز البحوث لصانعي القرار السياسي في الولايات المتحدة وأوربا عديمة الفائدة وإننا ننتقص من كفائتها في التحليل والإستنتاج، فهي جديرة بالإهتمام عندما تنقل لنا سياسة الدول الأجنبية، وتحلل سياساتها تجاه العراق مثلا لأنهم أدرى من غيرهم بما يجول في ساحتهم من رؤى ونوايا سياسية تخص العراق وغيره.
لذا يمكن القول ان ابن البلد هو الأدرى بواقعه وما يعيشه من مشاكل وأسبابها، سيما ان الإعلام الرسمي المحلي غالبا ما يغض النظر عن تلك المشاكل ويقزمها، فالإعلام في العراق مطية للحكومة، وفشل فشلا ذريعا في تغطية الواقع العراقي، ونقل الصورة بشكلها الصحيح الى الخارج، أنظر مع كل الميليشيات العراقية الموالية لإيران والتي تعيث فسادا في البلد لم يتطرق الإعلام العراقي الى خطرها وإنها تمثل الدولة العميقة، وقد صرح رئيس الوزراء حيدر العبادي بلا حياء” هناك مائة مليشيا خارج سيطرة الدولة”، ناهيك عن الميليشيات المنضوية تحت جناح ما يسمى بالحشد الشعبي.
بعد الحادث الذي تعرض له الحرس الثوري الإيراني في مدينة الأحواز العربية المحتلة خلال إستعراضه العسكري، وما نجم عنه من قتلى وجرحى، حاول الإعلام الإيراني أن يلصق التهمة ـ قبل التحري عنها ومعرفة تفاصيلها وإلقاء القبض على من فر من منفذي العملية ـ بالمملكة العربية السعودية، دون أن تتوفر أية دلائل سوى الإعتماد على تصريح ولي العهد السعودي قبل حوالي عام بأنه سينقل المعركة الى عمق ايران، ولو أعتبرنا هذا الكلام دليل على وقوف السعودية وراء العملية فهذا يعني ان كل نشاطات المعارضة الإيرانية على الساحة الإيرانية متهمة بها السعودية! وهذا أمر محال، كما ان هناك عشرات التصريحات الإيرانية تهدد السعودية بشكل سافر، ولو أخذنا بنفس قاعدة الإتهام فإن نظام الملالي سيكون مسؤولا عن جميع العمليات الإرهابية التي حدثت في السعودية، وهذا الأمر محال أيضا.
كان الرد السعودي كالعادة هادئا، فقد ذكر مصدر في وزارة الخارجية السعودية ” إن المملكة ترفض وتستنكر الاتهامات الباطلة التي أشار لها مسؤولون إيرانيون حيال دعم المملكة للأحداث التي وقعت في إيران يوم السبت”.
طبيعة الهجوم
في 22 أيلول الجاري فتحت مجموعة مسلحة النار خلال عرض عسكري على الحرس الثوري الإيراني في ذكرى الحرب العراقية الإيرانية، وأدى الحادث الى مقتل (12) فردا من الحرس الثوري الايراني من مجموع (25) شخصا قتلوا في الهجوم. وبعد الهجوم مباشرة أعلنت حركة النضال العربي لتحرير الأحواز مسؤوليتها عن العملية، وصرح الناطق بإسم الحركة (يعقوب حر التستري) إن ” منظمة المقاومة الوطنية الأحوازية، التي تضم عددا من الفصائل المسلحة، وتنضوي حركته تحت لوائها هي المسؤولة عن الهجوم”، علاوة على تبني تنظيم الدولة الإسلامية العملية أيضا. وسرعان ما غيرت الحكومة الإيرانية بوصلة القتلى فوصلت الى (29) قتيل من الحرس الثوري و(60) آخرين. وأعلن الحكومة الايرانية عن قتل إثنين من المنفذين وهروب إثنين آخرين، علما ان هناك طائرات صغيرة كانت تغطي ساحة الإحتفال بالإضافة الى الكثير من الكاميرات، بمعنى انه يمكن التوصل بسهوله الى المنفذين الهاربين وملاحقتهم ومعرفة هويتهم ومن يقف وراء العملية قبل إطلاق التهم جزافا.
كالعادة تعددت الإتهامات حول من يقف وراء الحادث ولم تتوقف عند المنظمة الأحوازية، في البداية حمل (رمضان شريف) المتحدث بإسم الحرس الثوري الإيراني المملكة العربية السعودية مسؤولية الهجوم زاعما ان” الهجوم تم عبر عناصر من مجموعة الأهواز المدعومة من السعودية خلال العرض العسكري الذي يقدمه الجيش الإيراني، وأن هناك العديد من الأشخاص المدعوين إلى العرض، وأن الإرهابيين استهدفوا كلا من هؤلاء بالإضافة إلى القوات المسلحة”. في حين صرح وزير الخارجية الإيراني (جواد ظريف) في تغريدة له ” ان مجندين إرهابييوين، دربوا وسُلحوا ودفع لهم من قبل نظام أجنبي، هاجموا الأهواز، أطفال ومجندون وإعلاميون كانوا بين الضحايا، إيران تحمل رعاة الإرهاب بالمنطقة وساداتهم الأمريكيون مسؤولية هذا الهجوم، وسترد إيران بسرعة وحزم دفاعا عن أرواح الإيرانيين”.
إذن لم يتهم روحاني السعودية كما فعل الناطق بلسان الحرس الثوري. الإغرب منه انه بدلا من أن توجه الحكومة الإيرانية مذكرات إحتجاج الى الولايات المتحدة والسعودية كما زعمت، فإنها إستدعت سفراء هولندا والدنمارك وبريطانيا وحملتهم مسؤولية إيواء جماعات إيرانية معارضة تقف وراء الهجوم.
من الملاحظ ان العملية تزامنت مع أحداث مهمة لكن عملية الأحواز غطت عليها، منها:
1. قيام القوات الإيرانية بقصف مقرات الحزب الديمقراطي الكردستاني في شمال العراق، مخلفة ما يقارب (60) فردا ما بين قتيل وجريح، وقد إستنكر العالم هذه الهجوم الذي يمثل إنتهاكا صارخا لسيادة العراق.
2. تدهور الإقتصاد الإيراني بسبب العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة علاوة على البطالة والتضخم، فقد هبط سعر الريال الإيراني هذا الشهر هبوطا غير مسبوقا (182000) ريال مقابل الدولار الأمريكي، ومن المتوقع ان يزداد الهبوط بعد حزمة العقوبات القادمة في بداية شهر تشرين الأول القادم، والنظام بأمس الحاجة الى توجيه أنظار الشعب الإيراني الى زاوية أخرى بعيدة عن همومه الإقتصادية والمعيشية، ويعيد التلاحم بينه وبين الشعب الناقم على سياساته الداخلية والخارجية.
3. ان موعد الهجوم تزامن مع زيارة الرئيس الإيراني الى نيويورك لحضور أعمال الدورة (73) للجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو يعلم علم اليقين ان النيران ستمتد عليه من كل جانب سيما في ملف حقوق الإنسان ورعاية الإرهاب في المنطقة من خلال الميليشيات التابعه لنظامه، ولا توجد عنده ورقة للدفاع عن سياساته سوى ان نظامه بات يتعرض أيضا الى الإرهاب، وهي ورقة لا يمكن أن تقنع دول العالم بإستثناء العراق وسوريا ولبنان واليمن، اي الدول السائرة في فلك ولاية الفقيه.
في حديث خاص مع سياسي إيراني معارض في أوربا تناقشنا حول موضوع العملية ومن يقف ورائها، ففجائني بالقول ان النظام الإيراني هو الذي فبركها ليحمل روحاني معه الى نيويورك ورقة رابحة كما يظن، وعندما استغربت قوله، أضاف اليس من الغريب ان المهاجمين إستهدفوا المراتب من الحرس الذين كانوا يستعرضون أمام مقصورة الجنرالات وكبار المسؤولين، ولم يصب أي منهم بإذى؟ كما ان المدافعين كانوا يحمون أنفسهم في موقع منخفض وهذا يعني إن من الأسهل عليهم أن يصوبوا الى الإعلى ويستهدفوا الجنرالات الجالسين في المنصة العالية، وهذا أمر يعرفه العسكريون. وأنهى قوله انظر ان الشعب الإيراني تناسى همومه اليومية وتظافر مع حكومته بسبب الهجوم!
تساءلت هل يمكن ان يكون النظام بهذا المستوى من الهمجية مع شعبه؟
أجاب: كمواطن إيراني عشت أكثر من ثلاثين سنة في إيران اؤكد لك نعم، إنه يفعلها.
خطر على بالي فورا لماذا أعلن داعش وجبهة الأحواز المسؤولية عن الهجوم إذن؟
وكان الجواب سبق ان داعش فعلها مرارا خلال إدعاءات بأنه نفذ عمليات إرهابية في العراق وتبين كذبه، ومنها تفجير منطقة الكرادة. كما ان بيان جبهة الأحواز كان فقيرا في المعلومات، ولا يعطي أجوبة كافية على الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية. ونترك للقاريء الفاضل الحكم على الموضوع، فهي مجرد وجهات نظر.