منذ منتصف أيار المنصرم، والعراقيون على صفيح انتظار لاهب بين متفائل -وهم قلة- وبين متيقن ومتأكد وواثق بما لايقبل أدنى شك، بأن الرياح ستأتي بما لاتشتهيه السفن، والأخيرون قطعا هم الأكثر، وهم السواد الأعظم من جمهرة سكان وادي الرافدين، في قرنهم الحادي والعشرين. وهم لم يأتوا بظنهم السوداوي هذا من فراغ، فطبقا للمثل: “الميت ميتي واعرفه شلون مشعول صفحة” يكونون على قدر عالٍ من الدراية بما ستلد لهم الليالي الحبلى بالهموم، وكفاهم من عقد ونصف العقد من السنين العجاف دروس ومواعظ.
إن الذي حصل في أيار سجله العراقيون بصفحات سود، بسواد رايات داعش، وهو ليس افتراءً منهم او جهلا بتقييمهم لما يدور حولهم من أحداث، لاسيما حين تكون جوهرية وتمس صلب حياتهم، ومستقبل بلدهم، فقد شهد ذاك الشهر عملية انتخابات للمرة الرابعة، بعد زوال نظام عُرف بأنه دكتاتوري، وقد جاء بعده نظام عُرف بأنه نظام ديمقراطي، ومن غير المنطقي أن يكون القديم خيرا من الجديد، والدكتاتوري أفضل من الديمقراطي. غير أن الواقع المرير أفرز غير هذه البديهيات، وتبين أن القديم والجديد سيان، وكذلك الدكتاتوري والديمقراطي متشابهان في العطاء، في حال استخدام الديمقراطية كوسيلة لغاية تشبه الدكتاتورية إلى حد كبير.
لن أبرح الحديث عما جرى في أيار، وإن غادرت الحديث عنه فسأحط رحلي عند ماحدث بعد ذلك بقليل، وقطعا ستأكل حديثي النيران الملتهبة في صناديق الناخبين، ولن تدع لي مفردة أبوح بها، ولا رأيا أدلي به، ولا موقفا أتخذه، فالنار كما هو معلوم تأكل الأخضر واليابس، ولعل الطريق السالك أمامي بعد هذا النكوص، هو السكوت والتفرج على ألاعيب الكبار -بل الكبار جدا- وهم يتقاذفون مصائر العباد ميمنة وميسرة، وليتهم اتفقوا على هذا وكفوا المؤمنين شر القتال، فقد تفاقمت الأنانية واستعرت نيران الخلافات، حيث تعالت صيحات الاتهام، وتتالت عمليات التسقيط، وتوالت التآلفات والتحالفات على قدم وساق في ماراثون الكتلة الكبيرة، ولعل الكتلة الكبيرة نائمة في قصر مرصود.. من يدخل حجرتها.. من يدنو من سور حديقتها.. من حاول فك ضفائرها مفقود مفقود مفقود.
وباستطلاع سريع لأي منظّر لآراء الشارع العراقي، وكذلك بقراءة مقالات الكتاب والمثقفين المشهود لهم بحبهم العراق وولائهم له، نرى الجميع يعلن استهجانه للآليات المتبعة بانتقاء الشخوص للمراكز القيادية في الدولة والحكومة، حيث يأمل الجميع ان القادم من التجارب، يكون أفضل بكثير مما سبقه، ولم يتبلور أملهم هذا إلا من خلال الوعود التي يطرحها مرشح هنا ومسؤول هناك، في تصريحاتهم التي يطلقونها بدعاياتهم الانتخابية، إذ يرسمون طريقا معبدا، مزروعا بالورود، ويزفون البشائر السارة التي ينتظرها المواطن على أحر من الجمر.
العراقيون اليوم ينتظرون مسؤولين يأخذون بأيديهم الى الطريق السليم والأمين في إدارة البلاد، وهم -العراقيون- يدركون جيدا من سيكون لهم عونا في هذا ومن سيكون “فرعون”. كما أنهم لم ينسوا الأسماء التي تسببت بتدني أداء مؤسسات البلاد خلال السنوات الماضية، كما قال جون كينيدي: “سامح أعداءك لكن لا تنسَ أسماءهم”. ولاأظن أحدا ينكر ركون المجلس التشريعي إلى سبات عميق، طيلة دوراته الثلاث، وقد خاض فيها اجتماعات خضعت لصراع عقيم، لم يفضِ إلا إلى انفراط عقد الرقابة، الأمر الذي تولد منه إهمال طال مؤسسات المجلس التنفيذي بشكل متعمد، وقد كان حريا بمجلس النواب كممثل للشعب، أن يتابع مؤسسات البلاد بعينين يقظتين باحتسابه أعلى سلطة تمثل الرقيب على أداء الوزراء في أعمال وزاراتهم.
الانتظار بعد كل هذه الحيثيات، لم يعد مفرحا، فبزوغ الكتلة الكبرى ليس دعوة لمراقبة الهلال، كما أن ليس كل رؤية شرعية، وليس كل رؤية شرعية معمولا بها، الخوف كل الخوف أن يعود هلال عيد العراقيين كالعرجون القديم.