لاتوجد حقيقة ثابتة في السياسية ، فالثابت فيها هو المتغير دائماً ، وفي إطار هذه الرؤية التكتيكية للعمل السياسي ، يبرز دور القائد السياسي كناظم ومؤطر ومتجاوب مع السياقات التكتيكية لمتغيرات العمل السياسي.
وتتمثل قوة وهيمنة القائد السياسي في القدرة الثاقبة والإستراتيجية لـ “تطويع” المتغيرات لصالح برامج كتلته أو حزبه أو تحالفاته الآنية منها والإستراتيجية في سياق ما يعرف بمفهوم الكتلة التأريخية كما لدى المفكر الايطالي غرامشي الذي عرّفها بما معناه “تحالف واسع في إطار قوى وتيارات سياسية واقتصادية وثقافية تدور في فلك طبقة أو فئة رئيسية مهيمنة بسبب نفوذها الاقتصادي أو الديني أو الثقافي لتحقيق أهداف آنوية أو ستراتيجية “.
ورغم إن المفهوم أوربي لكنه في معطيات العمل السياسي بالحالة العراقية يمكن أن يشتغل في مساحة مجتمع مفتت ومشوه سوسيولوجيا كالمجتمع العراقي ، الذي تهيمن فيه مسميات ماقبل الدولة مع بقايا الدولة ، التي سقطت في التاسع من نيسان 2003 هو مجتمع أنتجته الدكتاتورية والحصار والصراعات الطائفية وحروبها الموضعية والمشتتة والقابلة للإشتعال في أي لحظة .
من هذا المشهد ينبثق القائد الذي يستطيع أن يرى مالايراه غيره للسير في أفخاخ السياسة المتنوعة الصنع والمرجعيات التي يضج بها المشهد السياسي العراقي .
لقد إستطاع القادم الجديد ـ القديم للمشهد السياسي العراقي الشيخ خميس الخنجر أن يخوض في هذا المعترك وهو خارجه ، وهي ميزة نادرة للقيادة السياسية ، حين شكّل تحالف القائمة العراقية ، التحالف الذي فاز في إنتخابات 2010 ، لكن قوى الهيمنة لكتلة تأريخية طائفية ، إستطاعت أن تلوي عنق الدستور لتستبدل مفهوم الكتلة الفائزة بمفهوم الكتلة الأكبر تأريخياً !
وخاض الخنجر معترك المشهد السياسي من داخله في إنتخابات 2018 البرلمانية، ومن داخل بغداد التي كانت عصيّة عليه قبل سنوات بسبب حجم العداء الذي تعرّض له من أعداء تقليديين والأخوة الأعداء معاً !
خاض الخنجر بتحالف القرار العراقي ، المكون من حزب المشروع العربي في العراق وكتل سياسية اخرى ، إنتخابات 2018 ليحصد فيها 17 مقعداً ، كانت حصة المشروع العربي الذي يرأسه أميناً عاماً له الشيخ خميس الخنجر تسعة مقاعد ، وهو إنجاز بكل مقاييس العمل السياسي الإنتخابي ، مع الأخذ بنظر الإعتبار الفترة القياسية الزمنية القصيرة التي خاض فيها معترك العمل السياسي علنياً في مواجهة خصوم حيتانية بيدهم السلطة والثروة والسلاح ، فضلاً عن ماشاب الإنتخابات من عمليات تزوير واسعة بإعتراف الجميع دون استثناء أولاً ووضع المحافظات المحررة من الإرهاب والنازحين ثانياً .
ونقل الخنجر ميكانزم حراكه السياسي الإحترافي الى داخل البرلمان ليشكّل “المحور الوطني ” الذي زاد عدد نوابه على الخمسين نائباً ، والذي وقعت على عاتقه مهمة ترشيح رئيساً للبرلمان العراقي الذي هو وفق الأعراف السياسية في البلاد من حصة المكون السنّي..
في هذه اللحظة والمنعطف وفي إطار التفاهم والتنسيق لترشيح الأجدر بتمثيل المكوّن السني لرئاسة البرلمان ، برزت طموحات السيد أسامة النجيفي ليكون مرشحاً عن المحور رغم إنه لم يحصل إلا على مقعدين جاءا من خلال خوضه الإنتخابات مع تحالف القرار الإنتخابي ، وقال مراقبون للمشهد الإنتخابي وحجم وقوة الشخصيات ، إن السيد النجيفي ماكان بإمكانه الحصول على المقعدين لولا خوضه الإنتخابات من خلال تحالف القرار العراقي !
في السياسة رهانات غالبيتها أفخاخ يضعها أمامك الخصوم ، وفي هذه اللحظة من رسائل الأفخاخ وارتفاع سقف المراهنات على المناصب ، تبرز قدرة السياسي على القراءة الواعية والمدركة والمستشعرة أيضاً ، بعيداً عن الإلتزامات في أخلاقيات السياسة المتحركة ..
السيد النجيفي للأسف الشديد وقع في الفخّين معاً ، فخ الرهان الساذج للحصول على منصب رئاسة البرلمان بوجود اقوياء في تحالف المحور ، على مستويي لغة الأرقام والقبول من الشركاء المفترضين ، والفخ الثاني تمثل في الرسائل التي تلقاها شفاهاً من كتلة الإصلاح والإعمار ، وتحديداً من السيد عمار الحكيم ، رسائل فرشت له طريق المنصب بالورود ، لكنها ، لسوء حظ السيد النجيفي كانت وروداً بلا رائحة !
ذهب النجيفي لكتلة الإصلاح باحلامه ورهاناته ليوقع رئيساً لتحالف القرار ، وكان ذهابه وحيداً فريداً ، ضارباً عرض الحائط كل الإتفاقات مع تحالف المحور ، بل إنه فاجأ الجميع بخروجه هذا ، ليحقق هدفه وهدف الآخرين بتفتييت تحالف المحور وإرباك عمله وتفاهماته لترشيح رئيس البرلمان منه !
كان من حق النجيفي ان يحلم ويراهن ، لكن حلمه كان رومانسياً وهذا لايشتغل في مشهد سياسي شديد الواقعية ،ورهانه بقراءات قاصرة لطبيعة المشهد السياسي في البلاد وطبيعة القوى المحركّه فيه بما في ذلك في الساحة السنيّة التي كانت قراءتها مختلفة تماماً عن قراءة السيد النجيفي التي أطاحت به بـ 19 صوتاً مقابل 169 صوتاً لمرشح تحالف المحور السيد محمد الحلبوسي، الذي قاده ويقوده الشيخ خميس الخنجر !
وبإستنتاج بسيط فإن سقوط النجيفي في مهرجان التصويت على منصب رئيس البرلمان جاء بسببين :
الأول : الإطاحة به من ” الحلفاء ” الجدد فشرب من الكأس التي اراد أن يسقيها للحلفاء ” القدامى ” !
والثاني والأهم والأقوى هو السياق الذي قاد به الخنجر المحور الوطني والتفاهمات الواقعية التي خاضها من بين غابة الكتل السياسية في البرلمان ، ليصل إلى نتائج عززت قراءاته الواقعية لطبيعة المشهد السياسي والقوى الفاعلة فيه والقادرة على تحقيق الأهداف سواء في برنامج حزب المشروع العربي في العراق أو في برامج القوى والكتل المشكّلة لتحالف المحور الوطني .
إستطاع الخنجر ، رغم حجم الضغوط الموجه نحوه ، محليا وإقليمياً ودوليا ، من أن يعبر بحر الإنتخابات وأمواجه العالية ، من تحقيق الهدف والمضي لتحقيق بقية البرنامج على المستوى الوطني ومعالجة قضايا ومشكلات المحافظات المحررة بعودة النازحين والإعمار ومصير المفقودين والمغيّبين وإطلاق سراح الأبرياء وتنظيف تلك المحافظات من السلاح غير القانوني والخارج عن سيطرة الدولة ..
هذا ليس رهاناً خاسراً ولا حلماً سياسياً رومانسياً ، إنه جزء من برنامج الواقعية السياسية التي تقود إلى تحقيق النتائج ، ليس بأقل الخسائر ، بإفتراضات العمل السياسي الكلاسيكي ، وإنما للمضي قدماً بإتجاه الهدف الأكبر وهو ، إنقاذ البلاد من ازمتها المستعصية منذ خمسة عشر عاماً ، والإنطلاق نحو عراق مختلف قائم على مبدأ المواطنة كمعيار وحيد ، وقيام الدولة المدنية التي تحفظ الحقوق وتضع الجميع على دكّة واحدة هي دكّة : المواطن والمواطن فقط !