يشـكل البحث الذي نحن بصدد مراجعته ، دراسة تاريخية لأوضاع الحجاز خلال القرن الثامن عشر الذي يعد من الحقب المهمة في تاريخ الجزيرة العربية ، نظراً لما يتمتع به الحجاز من مكانة دينية متميزة لدى العرب والمسلمين ولكونه اتسم بتنامي دور الإشراف السياسي مع نهاية القرن المذكـور .
وتـأتي أهمية البحث ، كونه يتناول دراسة مرحلة هامة من تاريخ الحجاز لم تبحث من قبل ضمن دراسة أكاديمية وهي مزدحمة بإحداث كثير متداخلة مما جعلها بحاجة إلى تأمل ودراسـة .
ومـن المعلوم أن الدراسات الحديثة التي اهتمت بتاريخ الحجاز تناولت بحث القرن التاسع عشر والسنوات اللاحقة التي شهدت قيام الدولة السعودية ، إذ أشبعت إحداثها بدراسات مستفيضة … لذلك بات من الضروري القيام بمحاولة متواضعة لتسليط الضوء على تاريخ الحجاز خلال القرن الثامن عشر والتي ستظل بحاجة إلى مزيد من الجهود الصادقة والحثيثـة لكشف جوانب من تاريخ هذا الجزء من الوطن العربـي .
لقـد توجهت أنظار العثمانيين نحو الحجاز لأسباب دينية وسياسية بالغة الأهمية ، في وقت غدت فيه الدولة العثمانية تشكل القوة الإسلامية الكبرى حينذاك ، ورغبة السلطان العثماني في حمل لقب خدم الحرمين الشريفين ، كونه يمثل الوريث الشرعي للسلطان المملوكي في السيادة على المنطقـة .
وعلـيه ، فالحجاز قد تميز من بين الولايات العثمانية الأخرى ، كالشام ومصر ، بخصوصية علاقته بالدولة العثمانية والقوى الأوروبية ، وذلك لتزايد دوره الديني والتجاري والسياسي أواخر القرن الثامن عشر في حين استطاع على الصعيد الداخلي أن يشق طريقه وسط ظروف غير طبيعية ، وان يثبت بالشواهد أن الحجاز ذو الإمكانات المحدودة تمكن من تجاوز كل ما يحيط به من مخاطر وتحديات بعزيمة وقـوة .
فـالمتتبع لتاريخ الحجاز خلال الثامن عشر يتضح له احتفاظ الأماكن المقدسة فيه بمكانتها الروحية لدى المسلمين واستمرار توافد الحجاج إليها من أنحاء المعمورة كافة لأداء فريضة الحج مع ما يتركه ذلك من مردودات ايجابية على وضع الحجاز الاقتصادي والسياسي الأمر الذي أفاد منه الإشراف لتعزيز نفوذ أسرهم التي باتت تستمد قوتها من نسبها الشرعي مع الرسول (ص) ورعايتها للحرمين الشريفين حتى أصبح لنظام الشرافة تقاليد خاصة يرتكز عليها حكم أمراء مكـة .
أصبـح الحجاز ولاية عثمانية مكونة من ثلاثة سناجق وهي مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة ، يتولى حكمها شريف مكة ، وتعين الدولة العثمانية والياً من قبلها على جدة يرتبط بوالي مصر العثماني . وفي الوقت نفسه كان للشريف وكيل له في إدارة جدة مما ترك نتائجه السلبية على وحدة الحجاز لانقسام السلطة بين حاكمين يحاول كل منهما عرقلة مساعي الآخر لأجل تحقيق مآربه الخاصة ، أن كان الباشا العثماني يتدخل في أمر تعيين أمراء مكة أو عزلهم على الرغم من انه كان يقدم أحيانا وعماً لهم لأجل تثبيت سلطتهم السياسيـة .
خضـع الحجاز لسلطة الإشراف منذ القرن العاشر الميلادي وأول من صار شريفاً على مكة هو الشريف أبو محمد جعفر الموسوي بعد قتله حاكمها المعين من قبل العزيز الفاطمي . وقد تمكن الشريف قتادة بن إدريس المقيم في جهات ينبع عام 1200م من الاستيلاء على مكة موطداً مركزه وأسرته ومكونا أمارة ظلت قائمة حتى تأسيس الدولة السعوديـة .
عـزم السلطان العثماني سليم الأول عقب استيلائه على مصر عام 1517م أن يجهز حملة عسكرية لاحتلاله الحجاز إلا انه عدل عن ذلك وأرسل خلعتين ثمينتين دليلاً على حسن نواياها تجاه شريف مكة بركات بن محمد مما كان حافزاً في دفع الأخير إلى إيفاد ابنه أبو نمى إلى القاهرة حاملاً معه مفاتيح مكة وهدايا ثمينة لمقابلة السلطان العثماني الذي استقبله السلطان سليم الأول وبالغ في أكرامه . وهو أمر أثمر عن أقراره بمشاركة أبيه في الحكم حتى وفاته وبعدها انفرد أبو نمى بالسلطة حيث بسط نفوذه على مدن الحجاز وقبائلـه .
وعلـى الرغم من محاولات العثمانيين الحد من سلطة الأشراف بوسائل غير مباشرة عن طريق نشر عساكرهم في مراكز المدن وتدخل والي جدة في شؤون البلاد ، إلا أن الإشراف الأقوياء كانوا يتجاهلون كل ذلك … فوطد ذلك من حكمهم على المناطق الداخلية من شبه الجزيرة العربية بعد قيامهم بعدة غارات ناجحة عليها لإخماد المعارضة فيها أو لكسب المال أحيانـا .
ومـن الظواهر البارزة التي تميز بها تاريخ الإشراف خلال هذه الحقبة ي استمرار التصارع الآسري بين آل زيد وآل بركات للاستحواذ على إمارة مكة إذ اتخذ ذلك النزاع طابعاً مسلحاً في اغلب الأوقات مما افقد الحجاز استقرارها ومهد الطريق للقوى الأخرى كالسلطان العثماني وولاته في مصر والشام وجدة للتدخل بشؤون الحجاز الداخلية حتى أن الأخيرين أقدموا وفي ظل ظروف معينة على عزل شريف مكة وتنصيب آخر بدلاً منه من نفس الإمارة الحاكمة أو من الأسرة المنافسة لها فتعَّرض بذلك نظام حكمهم إلى هزات سياسية هددته بالصميـم .
بـالمقابل تحلى اشرف الحجاز بروح المطاولة والمثابرة في منازلة خصومهم المحليين سواء من داخل أسرهم أو من القبائل المعارضة لسلطتهم حتى نجحوا في نهاية المطاف من تثبيت إقدامهم وترسيخ سلطتهم السياسية في السنوات اللاحقة كما ابدوا محاولات جادة لأبعاد نفوذهم عن السلطة العثمانية المركزية والقوى التابعة لها بالمنطقـة .
عـلى أن مكانه الحجاز الدينية والسياسية قد تعاظمت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر كونه أصبح موطئاً لارتياد الرحالة الأوروبيين الذين وفدوا الحجاز لإغراض تجارية وسياسية للإفادة من طريق البحر الأحمر وموانئه للوصول إلى الهند في وقت بذلت منه بريطانيا قصارى جهدها لتصفية النفوذ الفرنسي المنافس لها في المنطقة فيما تمتع أشراف الحجاز بمكانة مرموقة إبان الاحتلال الفرنسي لمصر عام 1798م إذ مارسوا نشاطاً دبلوماسياً مع أطراف الصراع كافة بغية الحفاظ على مصالحهم التجارية وتوفير الاستقرار لبلادهـم .
إن تحلـيل طبيعة العلاقة بين الإشراف والسلطة العثمانية في هذه الحقبة تظهر لنا أن الحجاز قد تمتع بقدر كبير من الحكم الذاتي وظل الإشراف يحكمون بأسم السلطان العثماني ويدينون بالولاء لنفوذه وإذا كان أمراء مكة قد أفادوا من القوة السياسية العثمانية لغرض الأمن والاستقرار المحلي والإقليمي وتأكيد نفوذهم في المنطقة فان العثمانيين قد أفادوا بدورهم من المكانة الدينية لإشراف الحجاز واستثمروها للاستحواذ على ولاء العالم الإسلامي وتعزيز المكانة الدينية والسياسية للدولة العثمانيـة .
* الجـذور التاريخـية لنظام الشرافـة .
تـدل كلمة الشريف في اللغة ، على الارتفاع والعلو ، وتطلق على الشخص الذي له أباء متقدمون في الشرف ، ثم صار الانتساب إلى آل بيت النبي محمد (ص) وأقربائه علاقة مميزة لهذا اللقب فيما اقتصرت التسمية في عهد الخلافة العباسية على أبناء الحسن أو أبناء الحسين وحدهـم .
وعـلى ذلك ، فأنها أطلقت على من كان من ذرية أولاد علي من فاطمة ابنة رسول الله (ص) وهما الحسن والحسين ومن كان غيرهما من أولاده ، فأنه يسمى علوياً ولا يسمى شريفاً . ولما كان الإشراف ينحدرون من تلك السلالة ومن قبيلة قريش نفسها ، فقد زادهم ذلك منزلة ورفعـة .
حـظي نظام الشرافة بمكانة وأهمية في العالمين العربي والإسلامي فضـلاً عن تأثير في البيوت الهاشمية ، ومما يدل على ذلك هو ظهور نقابة الإشراف التي أنشأها العباسيون منذ القرن الثالث الهجري فـي بغداد وتطور فيما بعد حتى وجدت مثيلات لها فـــي كل مصر والشام ، وكـان من واجباتها الفحص / التدقيق عن انساب الإشراف وإصلاح أحوالهم وتدبير شؤونهم مما أدى إلى إجلال الناس واحترامهم لهم وبالتالي اتساع نفوذهم الديني والسياسي حتى أصبح نقيب الإشراف في استانبول لا يتقدم عليه عند السلطان العثماني إلا شيخ الإسـلام .
لقـد جرت العادة أن يتم اختيار الشريف لنص الشريف من قبل كبار الإشراف في الحجاز ثم يكتب إلى استانبول لأعداد الفرمان السلطاني لتثبيته بمنصبه في الإمارة التي في الغالب لا تتدخل في مسألة أمراء مكة فيما تبوأ الإشراف مكانة طيبة لدى الدولة العثمانية إلى حد أن منصب الشريف اخذ يأتي بالدرجة الثانية بعد الصدر الأعظم ، لذا فأن اتصال شريف مكة يكون مباشراً بـه .
وعـلى الرغم من أن نظام الشرافة قد أضفى على المنطقة نوعاً من الحكم الذاتي إلا انه كان مبعثاً لقيام نزاعات بين الإشراف أنفسهم على توليه منصب شريف مكة مستعينين أحيانا بأمراء الحاج الشامي أو المصري المعروفين بدورهم المؤثر في مسألة تعيين حكام الحجاز أو عزلهم لكسب تأييدهم في محاولاتهم تولي السلطة أو ترسيخ سلطتهم المتوارثـة .
ورغـبة من الإشراف في توريث لأبنائهم وأحفادهم فقد اتبعوا نظام المشاركة في الحكم هو شبيه بولاية العهد وتمثل ذلك في حرص معظمهم على أشراك أبنائهم في الحكم معهم حتى يضمنوا وصولهم إلى السلطة بعد استحصال موافقة الدولة العثمانية فيما ساد الاعتقاد لدى غالبية الإشراف بأن لهم حقا موروثا في إيرادات مكة فضلاً عن تزايد حاجة غيرهم من الإشراف من غير الحكام إلى موارد مالية لصرفها على الأتباع المؤيدين لهم الذين يعتمدون في عيشهم على ما يمنحه هؤلاء لهم من الاعطيات والنفقات .
ولـم تأل السلطة العثمانية جهداً في أبداء الاحترام والعون اللازم للإشراف ألا أن اهتمامها ظل محصوراً في رعاية المدينتين المقدستين مكة والمدينة المنورة وحماية الطرق المؤدية إليهما مما جعل قبضة الدولة العثمانية متراخية خاصة في مكة في حين تقوت سلطة الشريف الحاكم الذي نجح في إيجاد نفوذ كبير له بين سكان المدن والى حد مابين قبائل الحجاز فأصبح للإشراف القدرة على تعيين أي فرد يريدونه أحيانا بينهم لمنصب الشرافة والحصول على موافقة السلطة العثمانية دونما صعوبـة .
لقـد ارتأى المؤلف تقسيم بحثه إلى خمسة فصول مع مقدمة وخاتمة تسهيلاً لمفردات البحث واستيعاباً لموضوعاته … نظراً لكثرة أحداث الدراسة وتوارد معلومات متواترة بصددها وخلال مدة قصيرة نسبياً . فكل فصل جعله يتناول موضوعاً قائماً بذاته ولكنه يرتبط مع غيره من الإحداث يشكل منها قوام البحث وهيكله والإطار العام لـه .
تنـاول الفصل الأول في قسمه الأول جغرافية الحجاز ومدنه وسكانه وتم فيه أبراز أهمية موقعه الجغرافي كونه يمثل مركزاً مهماً لطرق التجارة بين الشام واليمن وتصاعد صلات الحجاز المختلفة بمصر والساحل الغربي للبحر الأحمر …. وغيرها . كما جرى الحديث عن قبائل الحجاز وسكانه موضحاً توزيعا الجغرافي ودورها السياسي في الإحداث المحليـة .
واشتـمل القسم الثاني على دراسة أوضاع الحجاز السياسية منذ تبعيته للسيادة العثمانية وحتى عام 1700م وتـبيان العلاقة بين أشراف الحجاز وكل من السلاطين العثمانيين وولاتهم في الشام ومصر وجدة والمدينة المنورة . إذ شهدت هذه الفترة محاولات جادة بذلها الإشراف لتأكيد نفوذهم عن السلطة العثمانية رغم اشتداد الخلافات فيما بينهم على الإمارة في وقت ظلوا فيه يبذلون الجهود الحثيثة لبسط سيطرتهم على مدن الحجاز وقبائلـه .
أمـا الفصل الثاني فقد تضمن الجزء الأول منه عرضاً لنظام الشرافة وجذوره التاريخية وماهيته وابرز سماته فيما احتوى الجزء الثاني على عرض التطور التاريخي لنظام الشرافة خلال القرن الثامن عشر وتبيان الأمور التي صاغت بل تحكمت في علاقات الإشراف بالسلطة العثمانية مشيراً إلى ابرز التطورات التي طرأت على نظام حكمهم وتمتع أمراء مكة بمكانة طيبة عربياً وإسلاميا ودوليـاً .
وكـان مدار الفصل الثالث في جانبه الأول حول سياسة الإشراف الداخلية خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر ، إذ شغل التنازع فيما بينهم للاستئثار بالحكم حيزاً كبيراً من تاريخهم السياسي طيلة هذه المدة ورغبة كل منهم الاحتفاظ بالأمارة لأولاده مما أثار حفيظة الآخرين من أسرته واقاربة على أنهم بالمقابل أكدوا حضورهم السياسي في خوضهم معارك عدة ضد خصومهم المحليين . وتم الحديث في الجانب الثاني عن علاقات الإشراف بالسلطة العثمانية وولاتها في مصر والشام وجدة التي اتسمت بالتعاون تارة وبالعداوة تارة أخرى كنتيجة لرغبة كل طرف فرض سياساته وتحقيق أهدافـه .
ونـاقش الفصل الرابع في شطره الأول سياسة الإشراف الداخلية خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر واستمرار التصارع الأسري بين آل زيد وآل بركات للاستحواذ على السلطة الأمر الذي شجع القوى المجاورة على التدخل في تنصيب أو عزل هذا الشريف أو ذاك إلا أن ذلك لم يقف حائلاً دون منازلة الأخيرين لمعارضيهم من القبائل الأخرى وبخاصة قبيلة حرب التي أبدت مواقف رافضة لسلطة شريف مكة وفي الشطر الثاني أولت الدراسة اهتماماً بعلاقة الأشراف بالدولة العثمانية ومراكز قوتها ممثلاً بولاة مصر والشام ـ أمراء الحج فيها ـ فضلاً عن والي جدة وتدخل الأخيرين وفي ظل ظروف معينة بشؤون الحجاز الداخلية في وقت تزايد فيه اهتمام استانبول بالحرمين الشريفين للوقوف في وجه مطامع القوى الأوروبية التي أولت المنطقة عناية خاصة في النصف الثاني من القرن المـذكور .
واختـص الفصل الخامس في قسمه الأول على علاقات الحجاز بالقوى العربية كالعراق واليمن ونجد والمغرب حيث اخذ الصراع بين أمراء مكة والوهابين جانباً كبيراً من هذا الفصل ، فيما تنامت علاقات الإشراف بالعراق دينياً وثقافياً وسياسياً وتقوت صلات الحجاز بالمغرب وكذلك اليمن حتى بلغت ذروتها إبان الاحتلال الفرنسي لمصر عام 1798 . وجرى القسم الثاني استعراض علاقة القوى الأجنبية وفي مقدمتها شركة الهند الشرقية الانكليزية بالحجاز التي كانت في بدايتها ذات طبيعة تجارية تحولت بمرور الوقت إلى علاقات سياسية فضلاً عن الإشارة لمحاولات فرنسا الولوج إلى المنطقة بوسائل مختلفة في خضم اشتداد تنافسها مع بريطانيا للسيطرة على الطريق المؤدي إلى مناطق نفوذها في الهند نهاية القرن الثامن عشر كما استعرض الفصل العلاقة بين الحجاز وكل من فارس والشرق بشيء من التفصيـل .
اعتـمد المؤلف على مصادر بحث تميزت بتعدد نوعياتها وتباين اهتماماتها نظراً لاختلاف وجهات نظر كتابها ، كما أنها ضمت القديم والحديث والمعاصر بالنسبة للفترة الزمنية لموضوع البحث ، لذا اتخذ الباحث جانب الحذر والدقة في تناولها ومحاولة معالجتها بروح متأتية من خلال تمحيص النصوص ومقارنتها بغية الوصول إلى النتائج المرجوة واستخلاص الحقائق التاريخية بشأنهـا .
* الكتـاب ـ أشراف الحجاز في القرن الثامن عشر ، تأليف : صبري فالح الحمدي ، ط1 ، مؤسسة المختار ,القاهرة ، 2009 ، 199 صفحة .