18 ديسمبر، 2024 11:28 م

التطور بين أحاديث عصر النص وتأليف العلماء.

التطور بين أحاديث عصر النص وتأليف العلماء.

لا ريب أن تأليف العلماء للكتب هو عبارة عن أحاديث مجتمعة تعبر عن موضوع واحد أو عدة مواضيع فيما تكون أحاديث المعصومين عليهم السلام عبارة عن أحاديث متفرقة جمعت في كتاب أو عدة كتب والنتيجة تكون واحدة لكن بهذا الفارق.
أن أحاديث المعصومين عليهم السلام بحسب من يرى أن المعصوم إنما ينقل ما ورد عن النبي صدقاً وعدلاً, وما ورد عن النبي هو وحي الهي {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم : 4] وبين من يرى أن المعصوم ليس فقط ينقل ما ورد عن النبي   وإنما بالإضافة إلى ذلك فهو يلهم الحكمة بالكامل سواء باكتساب العلم عن النبي – صلى الله عله واله – أو عن آباءه المعصومين عليهم السلام. إي بمعنى فهم قواعد الدين التي تفتح بوجه الإمام أبواب المعرفة في كل شؤون الحياة وتربية المجتمع, تلك المعرفة التي ينحدر عنها السيل ولا يرقى إليها الطير كما في حديث المروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام القائل (علمني رسول الله ألف باب ينفتح لي منه ألف باب) وهو نوع من العلم يسمى الإلهام الذي هو انقداح الفكرة في ذهن الإنسان التي تفتح له أفاق الحكمة, فما يعرف بالحكمة هو ليس إلا انتقال ذهن بن آدم من المقدمات إلى النتائج بشكل صحيح .
ولهذا ليس العالم من يصف الداء فقط إذ أن الوقوف على الداء يمكن أن يتحقق على يد ابسط إنسان فُيلحظ مثلا بالتجربة, إلا أن العالم الحقيقي هو من يعرف الداء ويصف الدواء, لكن شاءت الأقدار أن يضطهد هؤلاء في كل زمن وتبقى ما خطت أقلامهم حتى تسحق آلة الزمن منحرفي جيلهم وتبدل الأيامُ الوجوه عند ذلك يرتفع التعتيم وتشع تلك المؤلفات,
ويمكن تشخيص الفرق بين المعصوم وغيره فحديث المعصوم وبيانه يناسب مستوى جيله ويرتقي لما هو ابعد من الأجيال اللاحقة وكما قلنا لأنه نابع من القواعد الأساسية للدين المؤطرة بالمنهج القرآني لبيان قانون الحياة الدنيا في كل عصر {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء : 9] كذلك حديث المعصوم, مع فارق في الإعجاز والبلاغة ومطابقة الواقع فأحاديث المعصومين إنما هي فيوض ورشحات من كتاب الله العزيز وهدي النبي – صلى الله عليه واله -.
بعد هذا يمكن أن نفهم تأليف وحديث غير المعصوم انه يمثل حركة تكاملية في فهم الآيات والروايات للوصول لنفس الغرض من بعثة الأنبياء وهذه الحركة التكاملية باتجاه هذا الهدف السامي نستطيع أن نعبر عنها بأنها تعويض عن الخسارة الكبيرة التي لحقت بالمسلمين حين جعلوا من خلافة النبي ملكا عضوضاً يتصارعون عليه فأن فترة أثنا عشر إماماً لو أتيح لهم الأمر كانت كافية لان ترتقي بالمجتمع الإنساني إلى فهم القانون أو الدستور الصالح للحياة بحيث لا يتجرا أحد على خرق قوانينه التي تحفظ للإنسان إنسانيته وكرامته .
ولهذا اختلف منهج الأئمة عليهم السلام بعد أن استضعفوا وأزيحوا.فبدلاً من المنهج التطبيقي للعدل كما في دولة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام تحولوا إلى المنهج التنظيري لمبادئ الإسلام ورؤيته للحياة وشؤونها ببعدها العقائدي الذي جمع بين فكرة العدل والإيمان بعنوان المهدي. وبعد فترة الأئمة عليهم السلام بدأت الحركة الفكرية التكاملية لعلماء لغاية الوصل لدولة العدل أو دولة المهدي.
ولا اعني بالوصول هنا الوصول واللقاء الشخصي فالنبي الأمين بعظمته كان وسط مجتمع جاهل وصل إليه ابسط من عاش في ظروف البداوة, أنما اعني بالوصول هو التكامل المعرفي الذي يؤمن للإنسان أو المجتمع بصورة عامة الدخول في مشروع الإمام أو الدولة الفاضلة. عبر حركة تكاملية للفكر عبّرنا عنها بتعويض خسارة التطبيق, هذا الخسارة التي يمتد طول تعويضها لما يقرب من أربعة عشر قرنا
ولقد استمرت الحركة الفكرية التكاملية في المذهب الأمامي بطريقة النقد والتحليل ومناقشة الآراء وقبول الصائبة ورفض غيرها مهما كان ميزة العالم وقيمة كاتبها حتى وصلنا إلى عصر الاجتهاد في تطور كبير في الآراء الفقهية والفلسفية والعرفانية وتفسير أحاديث الملاحم وعلم الهيئة بما يناسب تقدم المرحلة الزمنية .. وهنا في هذا العصر اجتاحت فلسفة ماركس أنجلز البلاد بإبعادها الثلاثة في الاقتصاد السياسي وتفسيرها للتاريخ مادياً وشيوعيتها العملية أو ما يعرف بالطور الأعلى في أخطر هجمة كادت تطيح بالرؤية الإسلامية للحياة, فتسللت إلى عواصم الثقافة الإسلامية ودخلت بشكلها الإلحادي الماركسي اللينيني فكانت بحاجة للرد عليها بشكل يناسبها منهجيتها من حيث جوهر الفكرة ومحتواها. فليس من المعقول أن تتحدث المادية بتلك النظريات عن الوجود وفق فلسفتها الخاصة فيما نقدم نحن آيات وروايات مجردة دون أن نضع لها تفسيرا يناسب نمط الفكرة أو الشبهة المطروحة كرد واف.
هكذا, ولهذا ألف السيد محمد باقر الصدر كتاب فلسفتنا كرد على الفكر المادي الإلحادي ليوقف ذلك الزحف على ذهنية المسلم . ولكن بالرغم من انه قدس سره فجر ثورة علمية كبيرة في مجال الفلسفة الإسلامية إلا أنها كانت مقرونة بأحداث خاصة في زمانها. وبعد أن تراجع المد الماركسي بسقوط الاتحاد السوفيتي ودفنت كتب الشهيد السعيد . وحتى في بدايات تحول العراق إلى ما يعرف بالديمقراطية وبالرغم من طباعة مؤلفات السيد محمد باقر الصدر لكن من حيث الترويج الإعلامي كان يروج من خلالها لذكرى الشهيد كأي عالم  يموت ويترك أرثاً كبيراً مناسب لزمانه يعبر عن مقام وعبقرية مؤلفه لكن محتوى الكتب بقي حبيس أدارج المكاتب حيث الظروف الموضوعية واختلاف المد الخارجي الجديد القادم لا تساعد على طرح مثل هذه المواضيع حيث خفت بريق الماركسية الإلحادية فالتصدي لها إبان تلك الفترة يعتبر كالطعن في ميت.
ولهذا وقف محمد باقر الصدر قد سره كعلم في زمانه, ولكن الزمن لم يتوقف فالشبهات والطروحات ازدادت والمد الغربي الجديد ليست الماركسية الإلحادية بأسوأ منه, فالرأسمالية ومفاهيم الديمقراطية المبتذلة بازدياد مطرد رافقها انتكاسة وتمايز طبقي وتنافس غير مشروع وصراعات غلفت بطابع ديني أدت إلى أن يستفيق الإلحاد من جديد مرتديا ثوب الحداثة وحرية التعبير والديمقراطية المبتذلة دفعت بالشباب باتجاه تلك الطروحات القادمة من الخارج.
وهنا ولما كانت الحركة التكاملية العلمية مستمرة فمن المؤكد أننا في أطار الحاجة للموقف المتشرعي تجاه كل تلك الحركات وحيث أن الكتاب العزيز وأحاديث المعصومين جاءت لتغطي كل العصور, سنبقى في هذا الأصل الثابت الذي مبدأه أن حلال محمد حلال وحرامه حرام الى يوم القيامة, ولما كانت مؤلفات وكتابات العلماء تكاملية وهذا هو المفهوم من عدم العصمة احتاج الأمر إلى تطوير تلك الطروحات التي كتبها محمد باقر الصدر قدس سره إلى ما يناسب المرحلة وتكاملها ولا يستطيع أن يقدم أو إن يطور أو يعدل على ما طرح الشهيد محمد باقر الصدر إلا عالم أجدر دراية وأعمق رؤية, لسببين الأول أن طبيعة التطوير أنما تتم عبر الأرقى وهذا في كل مجالات الحياة, الثاني أن الشبهات أصبحت أكثر تعقيدا من ذلك الزمن فبالتأكيد أن التصدي لها يحتاج إلى دراية أتم .
وفي الحقيقة أن السيد الأستاذ المحقق حين يضع طرحا جديدا عنوانه – الإسلام ما بين الديمقراطية الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية – كبيان وتوجيه وتعديل لما جاء في بحوث فلسفتنا للشهيد السيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه إنما يستنهض الفكر الإسلامي ورؤيته للحياة الدنيا بشكل يناسب المرحلة كرد على هذا السيل الجارف الذي اجتاح المجتمعات الإسلامية.
وفي الحقيقة استطيع أن أقول أن الأستاذ المحقق لم يهمل الرد على المد الغربي إنما تصدى له منذ البداية بالمنهج العقدي حيث كان توجه الشارع للإسلام المبطن بديمقراطية الغرب التي آلت نتائجها إلى ما نحن عليه فبين في كتاباته وبحوثه عبر كتابي بحث الدجال والسفياني والسلسلة الذهبية حقيقة الخداع ليثبت أن هذه المرحلة مرسومة في التخطيط الإسلامي والتنظير لدولة العدل وتصدى للتطرف الديني الذي كان السبب الأساس في نفور الشارع عبر محاضرات دولة المارقة منذ عهد الرسول إلى عصر الظهور و توحيد التيمية الجسمي الأسطوري عبر بحوث تاريخية قل نظيرها ثم بعد ذلك نترقب صدور بحوث تعديل وتوجيه لبحوث لفلسفتنا التي كتبها عملاق الفكر المعاصر الشهيد محمد باقر الصدر بما يجعلها أكثر ديناميكية بين المناسبة وموضوعها والتي تعبر عن مدى إحاطة المحقق الاستاذ لمحتوى ومتطلبات المرحلة.