بعد قيام الخلافة العباسية وإنتقال مركز الدولة إلى العراق، إزدهرت الأوضاع على مختلف الصعد الثقافية والعلمية والتجارية وغيرها، وبمثل هذا الإزدهار ووصول الحضارة العربية والإسلامية إلى ذروة مجدها وتجلياتها، فإنتعشت تبعاً لذلك أوضاع اليهود بشكل خاص وإزدهرت أعمالهم التجارية بإنفتاح أسواق جديدة وفرها إمتداد الدولة الإسلامية الى مناطق شاسعة في مشارق الأرض ومغاربها، وبعد تأسيس بغداد عام 149 للهجرة وتحولها عاصمة الدنيا كما وصفت يومها، إزدادت أهمية يهود العراق ومكانتهم الدينية حيث عقدت لهم الرئاسة على بقية اليهود في العالم، ممثلة برأس الجالوت في بغداد، وفي أيام الفتنة بين الأمين والمأمون التي إمتدت الى عام 813م، وفيها كانت بغداد تئن تحت وطأة الإقتتال وما تركه من تدمير ونهب وحرق لأسواقها ودورها التي عاثت بها الجيوش المتحاربة واللصوص فساداً، ومن جملة ما نهب وأحرق بالطبع محلات اليهود ومتاجرهم ودورهم، لكن أحوالهم عادت إلى الإستقرار والطمأنينة وبرز منهم الكثير من العلماء والأحبار مثل “الطبيب فرات بن شحقاتا” وحسواي بن إسحاق أيام المأمون ، وسعديا الغيومي وهارون بن يوسف أيام المعتضد الذي أسست في عهده أكاديمية “سورا” التلمودية، وأستمر حالهم على هذه الصورة حتى خلافة المتوكل عام 849م، الذي أمر بعد سنتين من توليه الخلافة، بوضع علامات خاصة على دور أهل الذمة ـ ومنهم اليهود ـ وألزمهم أن يرتدوا ملابس تميزهم عن المسلمين وتسوية قبورهم في الأرض كما عطل منصب رأس الجالوت، وقد نهج الخليفة “القادر بالله” على منواله وأضاف أمراً بإغلاق المدارس اليهودية، ولم يتغير حال يهود العراق إلا في عهد الخليفة المسترشد بالله الذي حكم بين عامي 1118 ـ 1135م حيث عادت أمورهم إلى سابق عهدها .
بعد إستيلاء مسعود بن ملكشاه على مقاليد السلطة في بغداد عام 1132م، وفي خلافة المستنجد بالله (1160 –1170)م، وصل عدد اليهود في بغداد وحدها إلى حوالي (40) ألف نسمة لديهم (28) كنيساً في جانبي الكرخ والرصافة (6) .
كان عام 1258م هو العام المشؤوم الذي طبع على ذاكرة العراقيين بأحرف من نار، ففي منتصف شهر المحرم 656هجرية، سقطت بغداد تحت سنابك خيل هولاكو وكانت الليلة التي أدخلت العرب في سبات ما زالوا يعانون من آثاره حتى اليوم، لقد دخلت بغداد عصر الإنحطاط وإجتاحتها فوضى وفساد طالا كل ما تبقى من معالم تلك الحضارة التي كانت يوماً محط أنظار الدنيا، وفي عهد مضطرب كهذا لا بد أن يشمل أذاه الجميع ومنهم يهود بغداد بطبيعة الحال، وقد إستمرت معاناتهم إلى حين إحتلال العراق من قبل العثمانيين ودخول السلطان سليمان القانوني بغداد سنة 1534م، حينها بدأوا بإستعادة أوضاعهم السابقة شيئاَ فشيئاً، لكن الأوضاع لم تستقر بهم بشكل تام إلا في عهد السلطان مراد الرابع الذي إسترجع بغداد من الصفويين عام 1637م، وفي هذه الفترة بلغت حالة اليهود أوج إزدهارها، لقد مددوا إنتشارهم نحو الكثير من المدن العراقية، ففي الشمال إتجهوا نحو الموصل وكركوك والسليمانية وأربيل وسواها ، وفي الجنوب كانت البصرة والعمارة والحلة والديوانية والناصرية محط رحالهم، ومن هناك بدأوا بترميم مزاراتهم وتنظيم مناسباتهم الدينية والإجتماعية، ومن المزارات التي رممت، مزار النبي ناحوم قرب الموصل ومزار حزقيال في بلدة الكفل القريبة من الحلة كذلك مقام النبي يوشع وغيره، ومن علائم إزدهارهم أن أحد أثريائهم ويدعى الخواجا يعقوب، تبرع للعثمانيين بملبغ كبير من المال لمساعدتهم في حربهم ضد الدولة الإيرانية.
في بداية القرن الثامن عشر إبتليت بغداد بعدو آخر لا يقل فتكاُ وضراوة عن جيوش التتار، إنه وباء الكوليرا الذي حصد الآلاف من أبنائها، وكما في كل مرة فقد تشارك اليهود هذه المحنة مع بقية السكان، وكانت الحصيلة أن عدد اليهود في بغداد تناقص بسرعة كبيرة إلى بضعة آلاف، فمنهم من هرب للنجاة من الوباء ومنهم من وقع ضحيته، لكن الكتلة الأعظم منهم عادت للتجمع في بغداد وأسسوا أول مدرسة يهودية هي مدرسة “الإتحاد” وذلك أيام السلطان عبد الحميد، وعندما شُكل مجلس المبعوثين عام 1876م إنتخب “مناحيم دانيال” نائباً عن بغداد بصفته ممثلاً لليهود، وكان ولاة بغداد من العثمانيين يتعاطفون معهم ويستجيبون للكثير من مطالبهم، الحيف الوحيد ربما الذي وقع عليهم، كان في عهد الوالي نامق باشا وقائد شرطته سعد الدين بيك الذين مارسوا إضطهاداً وتمييزاً ضد اليهود .
عام 1917م دخل الجنرال “مود” بغداد منهياً آخر معاقل النفوذ العثماني ومدخلاً العراق في عهدة إستعمار جديد، وفي تلك الفترة من تاريخ العراق، كان اليهود قد أنتشروا في طول البلاد العراقية وعرضها، فمن الناصرية والبصرة والعمارة والكوت والديوانية والحلة جنوباً ، إلى محافظات الشمال كافة ثم الأقضية الغربية من العراق عانة وراوة وحديثة وسامراء وغيرها، وكان من المألوف أن تجد في المدن والبلدات العراقية تسميات من نوع “عكَد اليهود – خان اليهود” الخ، أما عن تعداد نفوسهم في بغداد سنة (1830) أيام الوالي داوود باشا، فبلغ ما يقرب من (7000) نسمة وفي مطلع القرن التاسع عشر إرتفع العدد إلى ما يلامس عتبة الـ (25000) أسرة، وفي بقية المحافظات العراقية سجلت في السليمانية (300) أسرة وفي الموصل (1000) نسمة .
عام 1924م وعلى أثر مشكلة الموصل، تألفت لجنة إحصاء دولية لمعرفة عدد السكان ونسبة توزيعهم، وكانت نتيجته فيما خصّ اليهود أنهم في الموصل (3575) نسمة أما في كل أنحاء العراق فوصل تعدادهم إلى (87448) ألف نسمة منتشرين على خمس عشرة محافظة، تمركز القسم الأعظم منهم في مدينة بغداد حيث بلغوا أكثر من (50000) ألفاً ، فيما لم يتعد الرقم في بعض المحافظات الأخرى – مثل كربلاء والنجف – الـ (170) شخصاً، وفي الإحصاء الرسمي الأول للسكان عام 1947م وصل العدد الإجمالي لليهود في مختلف أنحاء العراق إلى (117877) نسمة منهم (77524) إلف في بغداد وحدها، هذا عدا اليهود الأكراد الذين بلغت أعدادهم حدود الـ (000، 100) نسمة (10) .
لكن تلك الأعداد تناقصت بشكل كبير ومتسارع نتيجة للهجرة الكثيفة لليهود نحو الأراضي الفلسطينية بعد قيام “إسرائيل”، وكحصيلة لنشاط مكثف قامت به الحركة الصهيونية تخللته الكثير من الأحداث والمآسي، هجر (110) آلاف يهودي ضمنهم(80 ) ألف من اليهود الأكراد في عملية كبرى أطلق عليها أسم “عزرا ونحميا”، وقد كشفت إحصاءات (1957) عن ذلك التناقص الهائل لليهود العراقيين حيث لم يسجل سوى بقاء أعداد لا تتجاوز بضعة آلاف، ثم تناقصوا مرة أخرى إلى (3000) نسمة بعد عام (1967) إنحصر معظمهم في بغداد، ولم يطلّ عقد الثمانينات من القرن الماضي على العراق ، حتى أكملت تلك الأعداد الكبيرة من يهود العراق تلاشيها ولم يبق غير (500) فرد من الشيوخ والعجائز الذين منعتهم الظروف من اللحاق بمن هاجروا، أما اليوم فلا يكاد عدد اليهود في العراق يتجاوز ال (160) فرداً قابعين في بيوتهم دونما حركة أو نشاط يذكر.
الصهيونية ويهود العراق
“…. إلا أنني أرى من واجبي الآن أن أستعرض تاريخ غرس الصهيونية في العراق، والعوامل التي اعتمدتها لغاية تنوير المجلس العالي، وليتخذ منها عبرة في المستقبل عند توجيه سياستنا العراقية” هذا ما صرح به عضو مجلس الأعيان العراقي (عزرا مناحيم دانيا) أمام جلسة للمجلس المذكور عقدت في تموز 1948م وهي تشير إلى المقدار الذي بلغته النشاطات الصهيونية في العراق آنذاك، فلم يكن من الوارد ألا تهتم الحركة الصهيونية ببلد له كل هذه الأهمية في الموقع والدور السياسي والجغرافي كما في المعتقدات والموروث اليهودي، إضافة إلى المكانة والنفوذ الكبيرين الذي يتمتع به يهود العراق بأعداده الضخمة، والذي إمتد تأثيره الى معظم البلدان المجاورة وبلدان أخرى من العالم بفضل ثراء ونشاطات بعض عوائلهم ذات الأسماء المعروفة في عالمي السياسة والمال، كالياهوساسون الذي تولى وزارة المالية في أول حكومة عراقية تم تشكيلها، وخضوري، ودانيال، وحسقيل، وزلوت، وكباي (وكان منها أشهر طبيب عرفه العراق في ذلك الوقت، داوود كباي) وغيرهم .
وعليه فقد أرسلت الجمعية الصهيونية في فلسطين أول مندوب لها إلى العراق أواسط عام 1925م ،كان الغرض المعلن من ذلك هو إنشاء وكالة وناد ومدرسة لترويج الأفكار الصهيونية، وقد توجس يهود العراق من هذا الأمر فأجتمع وجهاؤهم وقرروا إرسال وفد إلى المندوب السامي البريطاني لمنع السماح بحصول ذلك، لكن جهودهم سارت بعكس ما يشتهون، فقد وافقت الحكومة العراقية وبتدخل مباشر من البريطانيين، على السماح بنشاط الوكالة الصهيونية وأجازت وزارة المعارف العراقية عمل المكتب الذي أفتتحته الوكالة المذكورة، ثم أعتمد وكيلها كمندوب وحيد أمام سلطات الهجرة في العراق وأصبح توقيعه ساري المفعول لمن أراد الحصول على جواز سفر من اليهود للهجرة إلى فلسطين، هذا في الوقت الذي عمت فيها التظاهرات والفعاليات الشعبية الشارع العراقي إستنكاراً لقدوم السير “الفرد مود”(*) أحد أقطاب الحركة الصهيونية إلى العراق عام 1928 حيث أعتبر تتويجاً لنشاطات مكتب الوكالة المذكور، ومن ثم تزايدت الإحتجاجات المناهضة لعمل الوكالة اليهودية وتصاعدت حدتها حتى في أوساط يهود العراق إلى أن إضطرت الحكومة لإغلاق المكتب عام 1934م .
لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد إستمرت نشاطات الأجهزة الصهيونية وقاموا بعمليات أمنية عنيفة تظافرت لإنجاحها العديد من العوامل ورافقها ما أرتكب ضد اليهود في أنحاء متفرقة من العراق، والقرارات السياسية التي إتختها حكومة توفيق السويدي عام 1950 بإسقاط الجنسية العراقية عن اليهود الراغبين بالهجرة والتي أتت تتويجاً لإجتماع بن غوريون ونوري السعيد في فيينا قبلها بسنتين، وكانت النتيجة من كل ذلك هروب تلك الأعداد الكبيرة نحو فلسطين وبلدان أخرى من العالم أهمها بريطانيا التي إجتمع فيها عدد لا باس به من اليهود العراقيين رفض بعضهم الذهاب الى “إسرائيل” مفضلين الإحتفاظ بعراقيتهم التي حرموا منها، وفيهم أسماء أدبية لامعة كسمير نقاش ومير بصري وسواهم . ورغم أن مفاعيل ذلك القانون قد تم الغائها بعد قيام الجمهورية عام 1958، إلا ان الأمور سارت في الطريق الذي رسمته الدوائر الصيونية ليهود العراق .
لم تنقطع نشاطات الأجهزة الصهيونية في العراق، فقد إتجهت نحو إحداث اختراقات تجسسية كان لها صدى كبير في الأوساط السياسية والعسكرية، ففي أواسط ستينيات القرن الماضي وقبيل حرب حزيران 1967 ببضعة أشهر، تمكن “الموساد” الإسرائيلي من تدبيرعملية خطف طائرة “ميغ 21” عراقية الى تل أبيب بواسطة طيارعراقي يدعي “منير روفا”، وكان ذلك الطراز من الطائرات هو الأحدث في منطقة الشرق الأوسط، ثم تبعها بعد ذلك وبأقل من ثلاث سنوات، إكتشاف أكبر شبكة تجسس تعمل لصالح إسرائيل يرأسها يهودي عراقي أسمه “عزرا ناجي زلخا” ضمت يهوداً وعراقيين من قطاعات مختلفة، وقد تم إعدام أعضاء تلك الشبكة على دفعتين وعلقت جثثهم أمام المارة في ساحة التحرير وسط بغداد .
أما أخطر ما قامت به الصهيونية من نشاطات داخل العراق واكثرها تأثيرها على حاضرذلك البلد و مستقبله، فقد تركزت في العقود الثلاثة الماضية التي شهدها العراق تحت حكم “صدام حسين” “وهو ما أعترف به الصهاينة أنفسهم، فقد جاء في تقرير أعده احد مراكز الدراسات الإستراتيجية في إسرائيل” أن العراقيين هم المسوؤلون عن دمار إسرائيل منذ آشور وبابل “ولأن العراق من البلدان القليلة في العالم التي تملك أهم ثروتين في هذا العصر “الماء والبترول” وهو قادر على صنع قوة عسكرية وحضارية مهمة فيما لو توافر له عاملان: حكومة جادة وعاقلة وفترة زمنية من الإستقرار ” ثم يتحدث التقرير عن شخصية “صدام” ومتى بدأ الإهتمام به من قبل الدوائر الصهيونية لما في شخصيته من صفات مساعدة في تنفيذ ما يخططون له فهو “ماكر وذو عقل جهنمي آلي، وهو طفل ساذج سهل الخداع” توضح طبيعة النظرة الصهيونية تجاه العراق والإستراتيجيات التي تكفل بقاء هذا البلد ممزقاُ ومدمراً لا يستطيع إلتقاط أنفاسه وبناء ذاته .
المهن التي مارسها يهود العراق:
تذكر بعض المصادر أن اليهود إمتهنوا الزراعة في الحقول والبساتين في أولات أيامهم ماقبل الميلاد، لكنهم إنحسروا ليس عن الزراعة وحسب إنما عن الأرياف العراقية عموماً وثبتوا أقدامهم في المدن والبلدات الكبرى متخذين بشكل أساس من الصناعات الخدمية مهناً لهم، لذا كثر وجودهم في الصياغة والتجارة والصيرفة والسمسرة وما شابه ، كذلك في المهن الحرة كالطب والهندسة والمحاماة والتدريس وغيرها، وهذا هو دأبهم في كل البلدان التي وجدوا فيها، أما عن سبب ابتعادهم عن ممارسة الزراعة والرعي مثلاً رغم ما في موروثهم عن هذه المهن من جهة و طبيعة العراق الجغرافية التي تتيح لهم ذلك من جهة أخرى، فربما يعود الى عدم قدرتهم على منافسة القبائل التي هاجرت بأعداد كبيرة منذ ما قبل ظهور الإسلام واستمرت بهجراتها تلك الى أزمنة قريبة، وقد تصارعت القبائل على إمتلاك الأراضي الزراعية والمراعي ولهم في ذلك وقائع مشهودة، لذا وعلى امتداد مراحل زمنية متتالية بدأ اليهود بتكوين أنفسهم كجزء من المجتمع المدني الذي شكل حلقة وسيطة مع الريف الذي كان بدوره حلقة الوصل مع مجتمع البادية . وبصفتهم المدينية هذه، ساهم اليهود بأعمال سياسية واجتماعية بارزة، فقد إنخرطوا بفاعلية في تأسيس الكثير من الأحزاب العراقية ذات التوجه العلماني أو القومي، منها الحزب الشيوعي العراقي، وحركة رشيد عالي الكيلاني وغيرها، كذلك ساهموا في النقابات العمالية والمنتديات الثقافية والفكرية والإعلامية، وأنشأوا المراكز الطبية والصيدليات كمستشفى مير الياس ومستشفى ريمه خضوري للعيون ودار الشفاء وسواها .
خلاصة القول: إن اليهود عاشوا تاريخاً طويلاً في أرض الرافدين وشهدوا كافة الأحداث التي مرت بالعراق، رافقوا بغداد وهي ترفل بالمجد والإزدهار فتنعموا بخيراتها وغرفوا من هباتها وافرة العطاء، كما شهدوا نكباتها وحرائقها وحروبها وتألموا لمصابها ونابهم مما ناب أهلها من المصائب والويلات، وبعد حياة شهدت كل هذه التقلبات، نجحت الصهيونية في إقتلاع مجموعة بشرية كانت جزءاً من المكونات الإجتماعية لشعب العراق، فهل ينجح الإرهاب في اقتلاع مكون آخر ؟ .
(10) (*):بعد أحداث 11أيلول (سبتمبر) 2001( ضرب برجي التجارة العالمي في نيويوك ) ظهرت للمرة الاولى أسئلة ذات إحالات تاريخية من نوع : هل كان للحركة الصهيونية ان تنتصر وتأخذ شكلها الحالي فيما لو قيض لحركة الاصلاح الديني اليهودي في بدايات النصف الثاني من القرن الثامن عشر بقيادة موسى مندلسون وفكر الهسكلاه ( الحكمة ) ان تكون لها الغلبة في أوساط اليهود؟
كان مندلسون قد نادى بحصر اليهودية كدين في إطار الممارسات الأخلاقية حيث إتباع الشريعة هو مايحدد علاقة الإنسان بخالقه ، وهي شأن شخصي لاعلاقة للدولة به ، اما مسألة الوصول الى النعيم الإلهي أو السعادة الدنيوية ، فإنها حقّ لجميع البشر يسعون اليه اعتماداً على جهودهم الذاتية ، لذا فالقول بطريق خاصّة لشعب مختار ، هو مناف للعقل لأنه ينطوي على متميز متعال على الطبيعة ، وهكذا فلا اعتراف بحقائق أزلية خارج نطاق مايقبله العقل أو غير خاضع لتفسيراته ، كذلك دعى مندلسون الى اندماج اليهود في مجتمعاتهم والخروج من عقلية الغيتو والإنعزال ، كما جهد في محاولة المواءمة بين العقيدة اليهودية ومتطلبات عصر التنوير ، وطالب بتحرير اليهود من المضمون العرقي للموروث الديني الذي اختلط فيه ” الوعي بالتلفيق ” على حدّ تعبير ” غولد هايم ” .
اما حركة الهسكلاه ( الحكمة ) التي بدأت في شرق أوروبا ، فقد عارضت التعصب والغيبيات ودعت اليهود الى التخلي عن العزلة والإنغلاق واكتساب عادات ومعارف الشعوب التي يعيشون معها ومشاركتها آمالها وتطلعاتها – وهو مايذكّر بدعوات الشيخ محمد مهدي شمس الدين للشيعة -.
هذه القطعة من التاريخ لاتخبر عن علاقة واضحة بمنفعة مباشرة جنتها الراسماليات الأوربية من دعمها للصهيونية في سعيها لإقامة إسرائيل ، ف(موسى هس) الذي كان أول من أشار صراحة الى ضرورة إقامة كيان إستيطاني في ” الأرض المقدسة ” لحراسة المصالح الغربية ، لم يجد حماسة لدى الفرنسيين حين تقدم لهم بمشروعه المذكور ، اما البريطانيون ، فقد توثقت العلاقة معهم بعد ذلك بوقت طويل ، أي بعد أوشكوا على الاستيلاء على تركة ” الرجل المريض ” الدولة العثمانية وتقاسمها مع الفرنسيين. – راجع : علي السعدي ” الصهيونية وقضايا العولمة ” السفير اللبنانية 12 تشرين أول 2001- العدد 9027.
مايهمّ الإشارة اليه هنا ، هو ان إقامة إسرائيل لم يكن مشروعاً مربحاً اقتصادياً لمن دعمه ، ولم يصبح يوماً كذلك ، وان المسألة بجوهرها كانت إلتزاماً ” أخلاقياً” أملته متغيرات فكرية ودينية – حركة الإصلاح البروتستانتية مثلاً – وهذا قد لايبتعد كثيراً عمّا أشار اليه ” بريجنسكي ” بعد أحداث 11أيلول عن ” الإلتزام الأخلاقي تجاه إسرائيل ” لذا لاغرابة في أن يتبدل المزاج الداعم لإسرائيل في الرأي العام الغربي ، حين تفقد إسرائيل قيمتها ” الأخلاقية ” بممارسات يصعب تبريرها.
المصادر:
1 – مغامرة العقل الأولى، دراسة في أسطورة سوريا ووادي الرافدين – فراس السواح
2- الأسطورة في بلاد الرافدين – عبد الحميد محمد
3- ما قبل الفلسفة – هنري فرانفورت
4 – مثيولوجيا العالم القديم – كريمر
5 – ملامح من التاريخ القديم ليهود العراق – د. أحمد سوسة
6 – يهود العراق – يعقوب كورية
سيرة وذكريات ” – د. عدنان الباججي
7-جريدة الزمان24/27/8/200
8- يهود العراق، الأصل هنا والفرع هناك – معين أحمد محمود – صحيفة الإتحاد – الإمارات – 2- 8 –2003
9- البلاد العربية، من ملاذ وحيد إلى عدو أوحد – نبيل السهلي – مركز جنين للدراسات
10 – تاريخ اليهود في العراق – معمر خليل (دراسة)
11 – حكايات الشطار والعيارين في التراث العربي – د محمد رجب النجار.