سيادة النزوع الموضوعي في التعامل مع الماضي والأحداث التاريخية بصراحة منهجية مدفوعة بالحرص والمسؤولية على كل مايخص الكورد وما يضمن الخير لحاضر هذا الشعب ومستقبله، تدعونا الى إستذكار الكثير من الأحداث والأيام، وبالذات العظيمة فيها، والتي تتوج الطاقات المخلصة والأفكار الحريصة والجهود النيرة التي قارعت الظلم والغدر وناضلت بشكل أو بآخر من أجل الدفاع عن كرامة الشعب وإستقلاله.
سقت بالمقدمة أعلاه لأتحدث عن ثورة أيلول التي :
* إستندت على مبادىء الحزب الديمقراطي الكوردستاني.
* وإستنارت بعقيدة البارزاني الخالد الذي ولد في بيت كوردستاني ذي زعامة وطنية وسياسية حملته إرثاً كبيراً فحافظ عليه بأكمل وجه، بل أضاف اليه وزناً ووهجاً.
* ونبتت على الأرض الوطنية والقومية.
* وأدركت الواقع ولم تغرق في النظرياتز
* ولم تنزلق نحو السلبيات على حساب المبادىء والمطامح.
* وعاشت الواقع بكل حقائقه وتفاعلت معه من خلال الرؤية الواعية وسعت لفهمه وتطويره. * * والتي حظيت بدعم كل الكورد وكل العراقيين الشرفاء .
في الحديث عن هذه الثورة لابد من الحديث عن الطرف الآخر الذي تهرب من إلتزاماته وعهوده، وإنتهج إزاء الكورد كل أساليب ووسائل حكام العراق وتركيا وإيران السابقين، وذلك بتأجيج بعض الكورد على البعض الآخر، وتسليح بعضه من أجل إستخدامه ضد بعضه الآخر. وإتهم الكورد بالعمالة للخارج، وجمع عدد من الغوغائيين أمام دار البارزاني ومقر البارتي في بغداد، ليهتفوا ضد الكورد وليقولوا ما لايصح قوله في مثل تلك الأيام، وليحاولوا إقتحام الداروالمقر والإعتداء على من فيهما، والذي رفض مقابلة الوفد الكوردي، وطلب منهم تقديم مذكرة بدلاً من المقابلة، ولكنه لم يجب عليها..
بعد تلك الأحداث، إستعد البارزاني الخالد الذي تجلت مواهبه السياسية والقيادية منذ مطلع شبابه، والذي إمتزج تاريخ الوطنية والسياسية بحياته وحياة عائلته الكريمة، لترك بغداد والعودة الى كوردستان. ولأنه كان يمتلك إرثاً نضالياً يتصف بالحزم والصرامة في أوقات الأزمات، ولأنه كان حريصاً على الوحدة الوطنية ومانعاً لتعميق الإنقسام الوطني، ومفكراً في ما بعد إندلاع القتال بين الكورد والحكومة أكثر من تفكيره بكسب المعركة، آثر التريث والإنتظار.
وفي المقابل توالت تراجعات الحكومة وتعددت إجراءاتها السلبية، وتجاهلت دور الحزب الديمقراطي الكوردستاني، الممثل الشرعي للكورد، وبدأت حملات واسعة لإعتقال أنصار الحزب، وإنحازت بشدة نحو رؤساء بعض العشائر الكوردية المعروفة بعدائها للبارزاني والبارتي ومنحتهم المال والسلاح والنفوذ، فإنتقموا من الفلاحين الكورد شر إنتقام. وأصبح التنكيل بالكورد في العراق نوعاً من أنواع الوطنية، وبلغ التوتر ذروته.
وخلال آخر لقاء بين البارزاني الخالد وممثل الحكومة العقيد حسن عبود آمر موقع الموصل، أخفقت المفاوضات، لأن الطائرات الحكومية قصفت بشكل مركز وشديد، المكان المقرر لعقد الاجتماع. بعدها قدم البارزاني الخالد مذكرة شديدة اللهجة الى الحكومة، تضمنت أحد عشر مطلباً. ورد عليها قاسم بإتهام الشركات النفطية بتحريض الكورد على الثورة ودعمهم. وإتجه الطرفان نحو نقطة اللاعودة .
وإنطلقت الشرارة الأولى للثورة في 11/أيلول/ 1961، وتلاحم فيها الكوردي المثقف مع الفلاح والعامل وعالم الدين والموظف. وفي بداية سريعة ومدة قياسية، إستطاع الثوار تطهير مناطق واسعة من العشائر التي سلحتها بغداد، ومن القوات العراقية النظامية التي كانت تتواجد في المنطقة.
ومثلما إكتمل الوعي والإدراك السياسي لدى الكورد، نمت عندهم الروح القتالية وظهرت في الأفق علامات ولادة جيش ثوري كوردستاني دائم ( البيشمركه)، ذي إعداد وتدريب وتربية سليمة. وكان الجيش العراقي نفسه المصدر الرئيسي لأسلحة البيشمركه، وسلك البارتي الذي لايعرف الإستسلام للأعداء طريق النضال والثورة، وشهدت كوردستان أعظم ثورة كوردية معاصرة تعتبر إنعطافة تاريخية في مسار الحركة التحررية التي رسمت المستقبل الكوردي بخيوط من ذهب. وكانت للثورة جولات دفاعية عن الذات والحقوق الكوردية، وجولات في الحوار، إذ كان قائد الثورة مؤمناً بأن الحوار جزء النضال. وكانت الهدن الهشة تنهار بسرعة جراء المشكلات المستعصية وعدم الوفاء بالوعود وعدم إحترام الإتفاقات.
إستمرت هذه الحالات حتى 11 آذار 1970، حيث الإتفاقية التاريخية التي أقرت للكورد حقوقهم القومية. ولكن هذه الإتفاقية لم تصمد أيضاً، وإندلع القتال مرة أخرى في 1974 بين الكورد والحكومة لتستمر حولاً كاملاً، وجاءت مؤامرة جزائر الشنيعة سنة 1975. مع ذلك لم يستكن البارتي، بل شدد من نضاله وقدم خيرة مناضليه فداءاً لمسيرته وتحقيق أمانيه حتى توج ذلك بثورة جديدة ( ثورة كولان ) التي تعتبر خير نموذج للثورة الحديثة ومنهلاً من مناهل النهوض الوطني والقومي.