23 نوفمبر، 2024 2:29 ص
Search
Close this search box.

كل الآخرين اسمهم علي

كل الآخرين اسمهم علي

لفاسبندر: المهاجرون منذ وقت مبكر

لا شك في أن كثراً من الألمان، ومن بين محبي السينما بخاصة، استذكروا خلال الشهور الفائتة، ولمناسبة السجالات التي دارت في بلادهم كما في أوروبا عموماً، من حول قضية تدفق اللاجئين، ذلك الفيلم الذي بات منذ سنوات يعتبر كلاسيكياً في التاريخ الراهن للسينما الألمانية، فيلم «كل الآخرين اسمهم علي» الذي كان واحداً من الأفلام التي استبقت زمنها في مجال توقفه الجريء والصادم عند ذاك، عند تلك المسألة. ولعل أهم ما في الفيلم أنه ابتعد الى أقصى ما يكون عن الأيديولوجيا في تحليله لمعضلة رأى المخرج من خلال فيلمه أنها ستكون في السنوات المقبلة معضلة اجتماعية وإنسانية بأكثر كثيراً مما ستكون معضلة سياسية. فإذا كان المهاجرون كما يرينا المخرج في الفيلم، يشكلون طرفاً أول في السجال، فإن الطرف الثاني ليس السلطات ولا حتى الأحزاب السياسية التي تحاول الإستفادة من القضية لتسجيل نقاط انتخابية، بل هو المجتمع نفسه الذي يقف بقوة ضد «أولئك الدخلاء» الذين «يأتون إلينا لتدمير حياتنا وانتزاع لقمة عيشنا».
> مخرج الفيلم كان راينر فرنر فاسبندر الذي كان في حينها (1974) يحقق فيلمه الثالث عشر مع أنه لم يكن بدأ الإخراج إلا منذ سنوات قليلة. لكنه سيُعرف بسرعة اشتغاله على أفلامه وبتضمينه تلك الأفلام أبعاداً فكرية واجتماعية تعلن غضباً عارماً ضد ما يحدث في بلاده بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية، كما سنرى بعد قليل. أما هنا فلنرجع الى الفيلم.

> تبدأ حكاية الفيلم في حانة شعبية يقصدها عادة عمال مهاجرون – أتراك وعرب – وبعض الألمان. ومن الواضح أن ثمة توتراً دائماً بين الفريقين. وذات مرة يحدث أن تلتقي هناك سيدة ألمانية ستينية بشاب مغاربي في ثلاثيناته. وإثر سجال حاد يدور في المقهى لا سيما بين مديرة الحانة والشاب المغربي علي الذي يبدو انه صديقها، يتعرف علي إلى السيدة الألمانية ويراقصها لينتهي بهما الأمر للإقامة في شقتها حيث يصبح عشيقها. لكن الجيران يحتجون ويصخبون ليس لدواعٍ أخلاقية، بل لدواعٍ عنصرية تغلفها الأخلاق، فلا يكون من العاشقين إلا أن يقترنا ما يزعج هذه المرة أبناء السيدة. لكن هذه وزوجها العربي يصمدان في وجه الجميع. ثم لتهدئة الأمر يقومان بزيارة المغرب وحين يعودان يفاجآن بأن المواقف تبدلت منهما. وذلك بالتحديد لأن الآخرين أدركوا في غيابهما كم هم في حاجة إليهما، أي الجيران، لأن علي يقوم ببعض شؤون البناية خدمة للجميع. وأبناء السيدة لأنهم اعتادوا أن يعهدوا اليها بحضانة أحفادها. وهنا إذ بتضاءل التناحر الاجتماعي من حول الزوجين، يجدان أنفسهما هذه المرة في مواجهة تناحر جديد هو الذي يقوم بينهما بعدما تهدأ الأمور مع الخارج…

> من الواضح أن هذا الفيلم الذي اقتبسه فاسبندر من فيلم للأميركي دوغلاس سيرك (وهو من أصل ألماني على أية حال) عنوانه «كل ما تسمح به السماء»، وحتى لو كان تحول الى الميلودراما في قسمه الأخير وحلّ المعضلة الاجتماعية من خلال تصويره رضوخ المجتمع لقبول الآخر ليس انطلاقاً من قناعة أخلاقية أو إنسانية، بل من حاجته إليه، يمكن أن يعتبر صرخة مبكرة في وجه الأنانيات والإنغلاق على الذات. ومن هنا كان استقباله بحفاوة في المهرجانات ومن قبل النقاد ومحبي السينما، ليمثل ذروة في نجاحات مخرجه الذي سينظر اليه منذ ذلك الحين كواحد من أنجح مبدعي الفورة السينمائية الألمانية وأكثرهم إثارة للسجالات.

> ولكن بعد ذلك بسنوات وعندما وضع فاسبندر حداً لحياته في شهر حزيران (يونيو) 1982، على ذلك الشكل المفاجئ والمريع، أدرك الكثيرون «السبب الغامض» الذي كان يدفعه إلى العمل كثيراً وبسرعة، حيث أنه طوال سنوات السبعين اعتبر واحداً من أكثر مخرجي السينما في العالم انتاجاً، وسرعة في العمل وتنقلاً وتنويعاً بين المواضيع والأساليب، وحسبنا لندرك هذا أن نتذكر أن فاسبندر حقق خلال الأعوام الثلاثة عشر التي تشكل كل مساره كمخرج، أربعين فيلماً معظمها للسينما وبعضها للتلفزة، اضافة إلى المسرحيات التي أخرجها والمقالات والدراسات التي كتبها.

> لكن فاسبندر لم يكن مخرج «كميّة» فقط، بل كان مخرج «نوعية» أيضاً، إذ إنه لا يزال حتى اليوم، بعد عقد ونصف العقد على موته، يعتبر الأبرز بين مخرجي «المعجزة السينمائية الألمانية» إلى جانب شرودر، فندرز، سيبربرغ، هرتزوغ وشلوندورف. ولا تزال أفلام فاسبندر حتى اليوم محل إعجاب هواة السينما ودراسة وتحليل النقاد والمؤرخين.

> وفي جميع الأحوال يعتبر فاسبندر المخرج الألماني الذي عبّر أكثر من أي مخرج ألماني آخر، عن واقع العيش وواقع المجتمع والذهنيات في ألمانيا الغربية، خلال السبعينات، حتى وإن كان معظم سينماه يتّسم بالنزعة الميلودرامية على غرار «كل الآخرين اسمهم علي» – الذي يعرف في ألمانيا بـ «الخوف ينهش الروح» -. وكان فاسبندر يرى أن الأسلوب الميلودرامي هو الأسلوب المناسب أكثر من أي أسلوب آخر للتعبير عن واقع ألماني كان الكثيرون يرون فيه «معجزة» و «طفرة» فيما كان هو – على شاكلة كتّاب مثل غونتر غراس وهاينريش بول – يرى فيه وضعاً مأسوياً. ومن هنا دارت معظم أفلام فاسبندر حول «المعجزة الألمانية» التي يجري الحديث عنها لدى الحديث عن حقبة حكم كونراد اديناور، المستشار الألماني الذي كانت ألمانيا الغربية قد عرفت في عهده طفرة اقتصادية غريبة.

> كان فاسبندر يرى أن تلك الطفرة إنما قامت على أنقاض تدمير الروح الألمانية وتتفيه الذهنيات الألمانية. وهذا ما عبر عنه في معظم أفلامه حيث لا نرى سوى شخصيات محبطة عريضة عاجزة عن أي فعل إزاء مجتمع يعيش حياته الخاصة الميكانيكية المدمرة.

> منذ فليمه الأول «الحب أكثر برودة من الموت» الذي حققه في 1969 (بعد تجربتين قصيرتين حملتا أيضاً ملامح أساليبه المقبلة) حدّد فاسبندر العالم الذي ستتجول فيه سينماه، عالم المجرمين اليائسين وصغار اللصوص والهامشيين – بمن فيهم المهاجرون الذين سيخصّهم فاسبندر بـ «كل الآخرين اسمهم علي»، وهو العالم نفسه الذي سنراه ماثلاً في فيلمه الأخير «خناقة» (1982) المقتبس عن رواية لجان جينيه.

> والحقيقة أن ذلك اللقاء بين فاسبندر وجينيه لم يكن صدفة، إذ ثمة نقاط مشتركة كثيرة تجمع بين عوالم السينمائي وعوالم الكاتب: الهامشية، الثورة الدائمة، الضياع، الميلودراما، طغيان هاجس الموت وهاجس الدين في وقت واحد. ولكن في الوقت الذي أعطى جان جينيه بطولة كتبه ومسرحياته لرجال، أعطى فاسبندر المكانة الأولى لنساء لن يكون من السهل نسيان حضورهن في عمله بسرعة، نساء قامت بأدوارهن ممثلات رائعات ارتبطت اسمائهن باسم فاسبندر، من هانا شيغوليا، إلى انغريد كافن، إلى باربارا سوكوفا. وحمل عدد من الأفلام التي مثلن فيها تحت إخراجه اسماء نساء، ألمانيات بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى: «دموع بيترا فون كانت المريرة» (1972)، «نورا هلمر» (1973)، «مارتا» (1973)، «ايفي بريست» (1974)، «ماما كوستنر تذهب إلى السماء» (1975)، «زواج ماريا براون» (1978)، «ليلي مارلين» (1980)، «لولا، امرأة من ألمانيا» (1981)، و «سرّ فيرونيكا فوس» (1981)، ونحن إذ عددنا هذه الأفلام فإننا أحصينا أبرز وأنجح أفلام فاسبندر التي أعطته شهرة عالمية وقفزت بالسينما الألمانية إلى مكانة متقدمة في سينما العالم. غير أن هذه الأفلام لم تكن إلا بعض ما حققه ذلك الفنان الغزير الذي كان يركض على الدوام وكأنه عارف سلفاً أين ومتى ستكون نهايته، فعزم على أن يكثّف كل حياته وعمله وفكره في سنوات قليلة. أما وصية فاسبندر الفنية فمن الغريب ألا نعثر عليها في سينماه، بل في عمل تلفزيوني – في 13 حلقة – كان آخر ما حققه قبل فيلم «خناقة»، وكان العمل مقتبساً عن رواية ألفريد دوبلن الشهيرة «برلين الكسندربلاتز». ففي اشتغاله على تلك الرواية وضع فاسبندر كل أفكاره وغضبه حول ألمانيا وحول ضميرها المتعب، حول الهامشيين والمرأة والمجتمع المسدود وشذاذ الآفاق والأحلام المحبطة، أي أنه وضع كل ما كان يشغل منه البال والروح، وبدا واضحاً من بعدها أنه قال كل شيء ولم يعد لديه المزيد، فالتقى لقاءه الأخير بجان جينيه ثم وضع حداً لحياته المكثفة الغريبة.

نقلا عن الحياة

أحدث المقالات

أحدث المقالات