22 نوفمبر، 2024 8:15 م
Search
Close this search box.

عندما يتكلم الجندي المجهول – 23

عندما يتكلم الجندي المجهول – 23

الحلقة – 23 –
–. مهما إشتدت أزمة السكائر فأن سكائرهُ لاتنفذ أبدا. يعرف كيف يبرمج طريقة تدخينه. كان يقول لي دائماً ” يجب إيجاد خط ثانٍ وثالث فعندما ينتهي الخط ألأول يجب أن يكون هناك البديل”. إذا أردتُ الحديث عن هذا ألأنسان فأنني أحتاج إلى مئات الصفحات لتغطية ألأحداث التي مرت بنا سويه. في يومٍ ما وبينما كنتُ جالساً على سريرهِ بعد إنتهاء شاي مابعد الغداء صرخ ألأرشد العراقي بأنه يريد عشرون شخصاً للعمل خارج السجن حيث توجد شاحنه كبيرة محملة بأكياس الطحين خاصة بمعسكرات الأسرى. بسرعة البرق قفز صديقي ونادى على ألأرشد العراقي كي يسجل إسمي مع بقية الزملاء من الأسرى

. كان الطقس بارداً جداً والثلوج تغطي ألأرض برداءٍ ناصع البياض . . ( بالمناسبة هو لايستطيع العمل كعملٍ من هذا النوع لأنه مصاب بالصرع) . كان يقول لي عند البوابة الخارجية ” لاتخف إن الله معك. إجلب لنا قليلاً من الطحين وسأعمل لك حلاوة لذيذة كل صباح ..ألا تعلم أن الطحين هنا يعادل الذهب؟” . سرنا بشكل منتظم فوق ألأرض الثلجية . كنت أشعر بالبرودة تتسلل إلى أقدامي من خلال الشبشب البلاستيكي. أعاد لي موقع العمل أشجاناً وآلاماً نفسية لاتطاق فقد كان نفس المكان الذي عشتُ فيه قبل ثمانِ سنوات. كان المكان مرتفع يتكون من قاعة شاهقة ألأرتفاع والباب يرتفع عن ألارض أكثر من متر.

وقفت شاحنة ضخمة بالقرب من المدخل الرئيسي وهي محمله بأطنان من أكياس الطحين . صدرت التعليمات بأن يحمل كل شخص كيس طحين على ظهرهِ ويدخلهُ إلى القاعةِ الضخمة. كانت ألأكياس العشرة ألأولى قد أحدثت نعباً شديداً لي ولكن بعد ذلك شعرتُ أن جسدي قد تخدر وتحجر. بدأ العرق يتصبب من أجسادنا رغم قساوة البرد الثلجي. إضطر بعض الزملاء إلى خلع ملابسهم الخارجية والبقاء في الملابس الداخلية. كانت معركة حقيقية من أجل حفنه من الطحين. عندما تمت العملية وزعوا لنا ” كاستين من الطحين” لكل واحد إضافة إلى خمس سكائر لكل شخص. خمس سكائر فلتر كانت بالنسبةِ لي بمثابة الحصول على خمسة كيلوات من الذهب. عدنا إلى المعسكر وعادت ملابسنا معنا وكأنها صُبِغَتْ باللون ألأبيض. تجمع البؤساء من الزملاء قرب الباب الحديدي ينظرون إلينا بشفقة وحسد في نفس الوقت. بشفقه لأننا كنا مرهقين جداً وملابسنا قذره وبحسد لأننا نملك قليلاً من الطحين. إستقبلني أبا هوبي كما يستقبل ألأب إبنه العائد من إحدى الدول البعيدة بعد سنواتٍ طويلةٍ من ألأغتراب. أخذ من يدي الطحين وأخفاهُ في مكانٍ أمين. دون أن أطلب منه شيء حمل سطلاً من الماء البارد جداً وركض أمامي نحو الحمام وهو يصرخ ” إستعجل قبل ألأخرين ..سيحجزون الحمامات…لقد حجزتُ لك أحد الحمامات.” ركضتُ خلفه كما يركض طفلاً صغيراً خلف أبيه. كان وقع الماء البارد على جسدي كالسكين الحادة. بعد الحمام جلستُ على فراشهِ أرتجفُ من البرد….غطاني بواحدة من بطانيالته.

كان ينظر إلي بأنكسار وحزن شديد وهو يردد ” المعذره يا أخي العزيز لقد أجبرتك للأشتراك بهذا العمل ، سمعتُ أنكم تعبتم جداً لاتهتم سيفرجها الله علينا”. جاء بعض ألأشخاص غير المدخنين وهم يحملون عددا كبيراً من السكائر التي خزنوها لمثلِ هذه الحالات وطلب أحدهم مني أن يقايضني بالطحين مقابل السكائر. أشرتُ اليه أن يتفاهم مع صديقي لأنه مسؤول المواد الغذائية. صرخ صديقي ” إبتعد من هنا وإلا كسرتُ رأسك لن نبيع هذا الطحين بأي ثمن” . في اليوم التالي عمل لنا – أبا هوبي – حلاوه- لابأس بها بعد أن عانى الشيء الكثير أثناء تحميص الطحين على النار المخصصة لصنع الشاي. كان أبا هوبي المنقذ الوحيد لي في أشياء كثيرة، مثلاً عندما أكون في حاجةٍ ماسة إلى قلم ودفتر فأنه يعمل المستحيل لتوفير ذلك. كان سنداً لي في قبر ألأحياء. عندما كان يُصاب بنوبة صرع فأن أبناء منطقتهِ يأتون إليَّ راكضين وهم يقولون ” صديقك جاءته الحاله” ، كنتُ أغسل ملابسه وأرفع القيء الذي يسقط عليه أو على المنشفه. كان الباقوون يتقززون من مشهد – القيء- ولكنني كنتُ أنظف المنشفه دون أن أهتم لذلك. كان يحترمني وكنتُ أحبه إلى أبعد الحدود. عندما كنتُ أكتب رواية بألأوراق المخصصة للطماطة أو أشياء أخرى فأنه يبذل جهداً كبيراً في تجليدها وإخراجها بأحسن حال. الحديث عن هذا ألأنسان يتطلب وقتاً طويلا .

—- التنبؤ اللاإرادي –

خلال فترة العيش في جحيم ألأيام كانت تحدث لي أشياء عجيبة . في البداية لم أهتم لها ولكن تواترها المستديم جعلني أؤمن بها إلى مالانهاية. في بداية ألأمر عندما كنت أحدث بعض الزملاء عنها كانوا يسخرون مني ويصفونني بالأنتماء إلى صفة العجائز في العصور القديمة. البراهين وألأثباتات التي قدمتها لهم جعلتهم يصدقون تلك الحالة بشكل لايقبل الشك. آمنتُ بأن تلك الحالة ماهي إلا إمتدادات غيبية ومن صنع الخالق سبحانه وتعالى . أحياناً تحدث أشياء لايمكن أن تخطر على ذهن أي إنسان وسوف أطلق على تلك الظاهرة الغريبة اسم – الحَكّة – ولاتضحك علي عزيزي القاريء كما سخر منها بعض الزملاء في أرض التيه فربما توجد لديك لكنك غير منتبه لوجودها . سأقص عليك حوادث كثيرة من هذا النوع من التنبؤات. كانت يدي اليمنى تحكني بشكل مباشر ودون سابق إنذار وحينما يحدث مثل هذا الشيء فأنني أستبشر خيراً مع ذاتي وأكون مرتاح بعض الشيء. أشعر أن الله سبحانه وتعالى سيرزقني بشيء مهما كان صغيراً وبالفعل لاينتهي النهار إلا وأكون قد حصلتُ على شيء . أما عندما تحكني باطن قدمي اليمنى أو اليسرى فأن شيئاً مزعجاً سيحدث بعد قليل أو أثناء فترة النهار . تكررت تلك الحالات مئات المرات ولم تخطيء مرة واحدة. لم أعد أحتمل هذه الحالة فتحدثت عنها الى الزميل – سطام- حينما كنتُ جالساً على سريره في القاعة الثانية . كنا ندرس إحدى الروايات العالمية باللغة الأنكليزية وهي – عناقيد الغضب – على حين غرَّه شعرتُ بحكة شديدة في باطن قدمي اليسرى قلت لصديقي ” ياستار ستحل بنا كارثة خلال 24 ساعة ” . نظر نحوي سطام وراح يضحك بشكل هستيري ساخراً مني ومن كلامي. عندما عاد الى طبيعته الأولى قال ” أستاذ أنت تذكرني بجدتي حينما كانت تحكي لنا حكايات خرافية عن السعلوة. ماهذا الهراء يا أستاذ؟ أنت رجل متعلم فلماذا تؤمن بهذه الخرافات؟ قلتُ له بهدوء ” حسنا..أتمنى أن تكون هذه المره خرافات على حد قولك وسأكون سعيد جداً لو كان ماتدعيه صواب, لكن منذ هذه اللحظة ولمدة 24 ساعة إذا حدث شيء يُعكر صفونا ستكون عندها مديناً لي بقدح حلو كبير من الشاي” .

قال بسرهة وبدون تردد ” ..نعم على الرحب والسعة ” . لم تنقضي إلا فترة وجيزة وإذا بسيل عارم من طوفان لاينتهي يزحف الى أرواحنا المرهقة ويتحول الهدوء النسبي الى أمواج من إضطرابات نفسية لاتنتهي . هجمت مجموعة كبيرة من الجند على قاعاتنا وراحوا يصرخون بصوت مرعب ” ..الجميع الى خارج القاعات . أخرجوا كل حاجياتكم الى الفاء الخارجي ..لايبقى أي شيء داخل القاات.” حلت بنا اللعنة وتمزقت أحلامنا مرة أخرى وضاع ماكنا قد حصلنا عليه من أوراق صغيرة وكبيرة وأقلام رصاص وجاف وضاعت جميع الكتب الأنكليزية التي حصلنا عليها بشق الأنفس وبعمليات تنسيق مختلفة وتحول وجه سطام الى صفحة من اللون الأسود والأحمر وثارت ثائرته وتحولت أعصابه الى كومة من الرماد. أخذوا منه كل شيء وأصبحت حالته النفسية مزرية جدا. شاهدته يصرخ في وجوه بعض الجند الذين وقفوا عند المدخل الرئيس وهم ينثرون أشياءً كثيرة من – كيسه – وكان يتوسل اليهم أن لايصادروا دفاتره التي كان قد اشتراها بغذائه وقوته. دخل المسكين القاعة يجر أذيال الحزن والأنكسار والأنشطار والتأزم الروحي. عند توزيع الشاي الليلي جاء يدعوني لتناول قدح من الشاي الحلو. هبطت من سريري وحملتُ قدحي معي. دون مقدمات قال ” ..الحق معك أستاذ. آمنتُ منذ هذه اللحظة بالشيء الذي ذكرته لي سابقاً . لم أعد أملك أي شيء لا قلم ولادفتر ولا أي شيء أتعلم من خلاله. أشعر بالأختناق ” . توالت الأحداث المشابهه عشرات الأحداث لا بل مئات الأحداث على غرار تلك الحادثة. أحيانا كنت أمزح معه وأقول له بأن قدمي اليسرى تحكني كثيرا فكان يصفر لونه وتضطرب أعصابه ويلح علي قائلاً ” بالله عليك هل هذا صحيح أم أنك تمزح معي ؟؟” عندما أشاهد اضطراب أعصابه أبادره بأنني أمزح معه. يعود اللون الطبيعي الى وجهه ويتنفس الصعداء من جديد. أما أبو فيروز فكان لايؤمن بهذه الخرافات مطلقا على حد قوله. في النهاية وبعد أن أثبتت له الأيام صدق ذلك الحدس بدأ يؤمن بهذا النوع من التصادف لدرجة أنه كان يسألني صباح كل يوم فيما إذا كانت قدمي قد حدث لها شيء أم لا.

حينما كنتُ أخبرهُ بوجود – حكة – غير طبيعية في قدمي يُسرع الى اغلاق دفاتره ويخفيها في مكان أمين ولايخرجها إلا في نهاية الدوام الرسمي. يوماً ما جاء الجندي المسؤول عن المكان وراح يصرخ بصوت قوي مرتفع ” إخرجوا الى الساحة الخارجية سيأتي ضابط الأمن لزيارتكم ” . خرجنا مذعورين يرتطم بعضنا بالبعض الآخر كأننا نُساق الى الموت. في اللحظة التي وقفنا فيها في الساحة الخارجية بطريقة منتظمة تحت أشعة الشمس الحارة ننتظر قدوم الزائر المجهول سألني – أبو فيروز – بتهكم ” ..ماذا تقول الآن ؟ هل حدث شيء لقدمك ؟ هل قالت لك سنخرج تحت أشعة الشمس ..” وراح يضحك بطريقته الساخرة حينما يستهجن شيء معين. نظرت غليه بأرهاق من كل شيء وشعرت لأول مرة أنني وقعت في فخ الكذب أمام ذلك الرجل . قلتُ له بهدوء ” …لحد هذه اللحظة لم أشعر بأي شيء حكة في قدمي ..من يدري ربما لن يزورنا أو ربما حدث عطل في أعصاب قدمي من شدة التعب …من يدري ..كل شيء جائز في هذا العالم المرعب….” . طال زمن انتظارنا واحرقت الشمس وجوهنا . من بعيد شاهدنا الجنود الحراس يتراكضون في اتجاهات مختلفة فقد شاهدوا ضابط الأمن يتقدم نحو باب معسكرنا . اصطف الجند بطريقة منتظمة استعداداً لأداء التحية وراحت قلوبنا تعزف الحان الخوف بشكل كبير . أي اشارة منه قد تحيل حياتنا الى جحيم لاينتهي. نظر نحوي ابو فيروز وهو يهمس لي ” ..ماذا تقول الآن؟” . أخبرته بأنه لاتوجد أي حركة أو حكة في قدمي . ضحك بصوت ساخر قائلاً ” الم اقل لكِ إنها خرافة وكلام عجائز ” . للتاريخ أقول بأن قلبي كان هادئا نوعا ما ولاأعرف سر ذلك الهدوء. توجه ضابط الأمن نحو معسكرنا وفي اللحظة التي وصل فيها الى باب معسكرنا وقف وراح يتحدث مع شخص آخر وإذا بهم جميعا يتجهون صوب المعسر القريب من معسكرنا ولم يدخل الينا أي شخص. بقينا ننتظر في الشمس المحرقة طيلة زيارته لذلك المعسكر القريب . حينما خرج من المعسكر الآخر وقفنا بأنتظام إستعداداً لأستقباله بَيْدَ أنه مرَّ من أمامنا دون أن يلتفت ناحيتنا. نظرت الى صديقي ابو فيروز بثقة مطلقة وأنا اردد بتهكم ” ..ماذا تقول الآن ؟ هههههه” . ردد بحيرة وذهول ” الواقع أن حالة قدمك شيء عجيب ” .

تواترت الأحداث وكل يوم تبرهن تلك الحالة على مزيد من البراهين العجيبة. ايقنتُ أن تلك الحالة مرتبطة بشيء لايعلمهُ إلا الله سبحانه وتعالى وليس للأنسان أي دخل فيها. سأذكر حادثة أخيرة حتى لا اكون قد تماديت في ذكر الحوادث. في أحد الأيام كنتُ جالساً بالقرب من الزميل – ملازم أول إبراهيم من البحرية – وكنا نتحدث عن مواضيع كثيرة وعلى حين غره شعرتُ بحكة شديدة في باطن قدمي اليمنى فقلتُ على الفور ” ..ياستار..ستحدث حالة مزعجة هذا اليوم ” . كان الزمن ليلاً, ضحك الزميل إبراهيم من كل قلبهِ وردد بسرعة وسخرية ” ..يبدو أنك متأثر بحكايات العجائز” . اجبته بكل هدوء ” أتمنى أن يكون كلامك صحيح ” . قبل أن أضع راسي على وسادتي الخالية من كل لحظة من لحظات الفرح والأمل بالعودة الى الوطن جاء الي إبراهيم وقد تغير لون وجهه وراح يؤشر لي بالهبوط من فراشي القريب من السقف. قفزتُ مسرعا لأرى ماذا يريد مني . همس في وجهي ” ..الآن آمنتُ بكل ماتشير له قدمك, لقد حدثت كارثة في القاعة الثانية . تخاصم علي مع رزاق وسالت دماء من الأطراف المتنازعة. منذ هذه اللحظة سأصدق أي شيء تقولهُ قدمك ” . عدتُ الى فراشي وقد سيطرت على روحي حالة غير طبيعية من كآبة حادة جداً ” . كانت تحدث أشياء عجيبة في قبور الأحياء تعكر صفو تواجدنا وتسلخ عنا حالة الهدوء النسبي التي نعيشها بين الحين والآخر. اسباب بسيطة لكن نتائجها كبيرة على الحالات النفسية التي يرزح تحت اعبائها اؤلئك المساكين أمثالي. من بين تلك الحالات هي حالة التناحر والتنافر بين مجموعة – البقاء- وهي المجموعة التي قررت البقاء في الدولة – المضيِّفة – والأنضمام الى صفوف المعارضة ضد الدولة التي ننتمي اليها. كانت تلك المجموع بقيادة كل من ” ….” و ” …….” والغريب أن كلا الشخصان وصلا الى بلدنا قبل أن نعود بطريقة رسمية – وسمعت أنهما التحقا الى صفوف المعارضة لكنهما هربا ورجعا الى البلد الذي ننتمي اليه. ملاحظة هامة ” ..شاهدتُ أحدهما – ولن أذكر أسمه كي لا اسبب له أي إحراج ربما هو في غنى عنه – شاهدته في أحد المطاعم الراقية في البصرة قبل السقوط بثلاثة أشهر وكنتُ ارافق التلفزيون الروسي في جولة الى كل مناطق البصرة . في اللحظة التي دخلنا فيها الى المطعم أنا وأعضاء الفريق الأعلامي سمعت شخص يصرخ بأعلى صوته علي وجاء يركض الي وإذا به ذلك الشخص الذي كان يمثل دوراً كبيرا في الورع وحفظ القرآن وبالتالي نجح في الوصول الى هدفه. تعانقنا وقبَّل بعضنا البعض بحرارة. كنت كأنني أسبح في حلم حقيقي. قال – الم اقل لك تعال معي وسنخرج يوما ما بطرية ذكية. عجيب هذا الزمن. أخبرته بأنني لايمكن أن العب دوراً مزدوجا مهما كانت الظروف . كان أشطر مني وأشجع لأنه وصل قبلي بسنوات. يستحق الأحترام. الحكاية معروفة لكل من عاش معي في زمن الضياع هناك خلف الحدود.

يتبع ….

أحدث المقالات