أثار تصريح رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بشأن موقف العراق من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران، موجة واسعة من ردود الفعل الإيرانية الحادّة. وعلى الرغم من أن العبادي كان حذراً ومُحترساً إلى درجة كبيرة، بقوله: «من حيث المبدأ نحن ضد العقوبات في المنطقة (ويُفهم من كلامه أن الأمر يشمل تركيا أيضاً)… لكننا سنلتزم بها لحماية مصالح شعبنا».
ومع أن تصريح العبادي يندرج في خانة «النأي بالنفس»، لكن هناك من استخدمه ذريعة ليطالب العراق بدفع تعويضات عن الأضرار التي لحقت بإيران بسبب الحرب العراقية – الإيرانية، وحرب الخليج الثانية بعد غزو الكويت، وهي تقدّر بمليارات الدولارات، كما ذهبت إلى ذلك معصومة ابتكار نائبة الرئيس الإيراني.
أما مجتبى الحسيني، ممثل المرشد الإيراني علي خامنئي، الذي يقيم في النجف منذ العام 2015، فقد ندّد بموقف العبادي، واصفاً تصريحاته بأنها «لا مسؤولة» «ولا تنسجم مع الوفاء للمواقف المشرّفة للجمهورية الإسلامية الإيرانية»، بل اعتبر موقفه تعبيراً عن «انهزامه النفسي تجاه أمريكا التي ينخرط معها، ويخضع لها في مؤامراتها على جارة العراق، إيران»!.
وقد درج بعض رجال الدين الإيرانيين المقيمين في العراق، وهم «أجانب» بالطبع، حسب القانون الدولي، التدخّل على هذا النحو السافر بالشأن السياسي العراقي الداخلي منذ الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003. كل ذلك يحصل دون ردود فعل رسمية من جانب بغداد، سواء إزاء هذه التدخّلات التي تخصّ صميم السلطان الداخلي أم إزاء المطالبات غير المشروعة بالتعويضات من جانب مسؤولين إيرانيين.
وإذا كانت العقوبات ضد أي شعب مسألة لا إنسانية بغض النظر عن تصرّفات حكّامه، فلماذا كان الحصار المفروض على الشعب العراقي «محموداً» في حين أن الحصار على الشعب الإيراني «مذموم»؟ ونستطيع القول بثقة أيًّا كانت أسباب الحصار والعقوبات على الشعوب، فإنها لا تلحق الضرر بالأنظمة بقدر ما تفعل فعلها المميت في الشعوب، ولم يحدّثنا التاريخ أن حاكماً زهقت روحه بسبب الجوع، لكن الحصار بلا أدنى شك عرّض شعوباً للمجاعة، وأودى بحياة الآلاف والملايين من السكان المدنيين الأبرياء، وحدث خلال الحصار المفروض على العراق وفاة مليون و650 ألفاً من العراقيين، ولهذا فالموقف المبدئي وخارج سياسات الكيل بمكيالين أو الموقف ذو الطبيعة الازدواجية كان ولا يزال وسيبقى هو ضد فرض العقوبات على شعب بكامله بسبب سياسات حكّامه.
ونلاحظ حتى اليوم التشوّهات التي خلقتها إجراءات الحصار والعقوبات على المجتمع العراقي وعلى الشخصية العراقية، بما فيها الميل إلى العنف باستخداماته المختلفة تحت مبررات ومزاعم شتى، تارة طائفية أو مذهبية وأخرى إثنية، وثالثة بزعم الدفاع عن الهويّة والدين وغير ذلك.
لقد بلغت القرارات الدولية المفروضة على العراق بعد غزو الكويت في 2 أغسطس/آب 1990 وبعد حرب قوات التحالف الدولي ضده في 17 يناير /كانون الثاني/ 1991 نحو 75 قراراً، بما فيها القرارات التي صدرت بعد الاحتلال العام 2003، ولا يزال العراق حتى الآن يئن منها، بما فيها دفع التعويضات، ولذلك فإن موقف العبادي وغيره من الأطراف السياسية التي تتحفّظ على العقوبات على إيران وتركيا، حتى وإنْ كانت قراءاتها السابقة مخطئة ومتأخّرة، إلّا أنه يمكن النظر إليها اليوم من زاويتين: الأولى – لسبب مبدئي أساسه إن الحصار ضد الشعوب وليس ضد الحكام، والثانية – عدم توريط العراق بما لا طاقة له على تحمّله أعباء جديدة فوق ما عليه من أعباء، فضلاً عن ذلك، فالعراق لا يزال مكبّلاً باتفاقية «الإطار الاستراتيجي» مع الولايات المتحدة التي تفرض عليه التزامات سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية وغيرها، فقد حاول العبادي مراعاة ذلك وعدم الدخول في مجابهة غير متكافئة مع واشنطن، دون أن يعني الانخراط في مشروعها بشأن فرض العقوبات على المنطقة.
ولم تكن المواقف الإيرانية ضد تصريحات العبادي فحسب، بل إن بعض القوى العراقية لا تقلّ نقداً لها، حيث هدّدت بمهاجمة المصالح الأمريكية، إذا ما تمادت واشنطن في تطبيق الحصار على إيران. ولعلّ ذلك يثير تساؤلات جديدة حول مستقبل الدولة العراقية وما وصلته من حالة انشطار وتمزّق وتشظٍ. فهل المفروض تبنّي الموقف الإيراني برفض الحصار، وهو موقف لا يقوى عليه العراق، أم اعتماد الموقف الأمريكي في تنفيذ فرض العقوبات على طهران، وهو موقف لا إنساني قد لا يستطيع العبادي أو غيره المضي فيه دون دفع ثمن باهظ؟
ولعلّ هذا الأمر يعيدنا إلى أطروحة «القرار العراقي المستقل» التي يكثر الحديث عنها دون القدرة على تحقيقها، خصوصاً والبلد مجروح السيادة ومنقسم ويعاني إرهاباً وعنفاً وطائفية ومحاصصة وفساداً مالياً وإدارياً، ولا يزال مرتهناً، بما فيه تشكيل الحكومة الجديدة لإشارة من بريت ماكفورك الدبلوماسي الأمريكي، وإيعاز من قاسم سليماني قائد فيلق القدس، عرّابيّ الطبخة الجديدة. فمتى سيخرج العراق من المغطس؟