24 ديسمبر، 2024 2:00 ص

الفرق بين الديموقراطية التعددية والديموقراطية التوافقية

الفرق بين الديموقراطية التعددية والديموقراطية التوافقية

ان استخدام مصطلح (الديمقراطية التوافقية) يعني ان التوافقية هي واحدة من اشكال الديمقراطية وانها ظهرت حديثا بعد عملية تطور كبيرة حصلت للديمقراطية نتيجة قرون عديدة من تطبيقها فهل هي حقا كذلك، وهل نستطيع ان نسمي نظام الحكم الذي يعتمد على التوافقية والمطبق في عدد من الدول بانه ديمقراطي. ان هذا الامر يتطلب منا المقارنة بين اهم اسس وسمات هذين النظامين، الديمقراطية والتوافقية، للتحقق من كون التوافقية ديمقراطية ام لا. ونقدم في ادناه بعضا من الاختلافات بينهما بالاستفادة من دراسة التجربتين اللبنانية والعراقية وكما يلي :
1- يكون اصدار القرارات والقوانين والتشريعات الحكومية والبرلمانية في النظام الديمقراطي حسب ارادة الاكثرية سواء كانت القائمة الانتخابية الاكبر او الائتلاف البرلماني الاكبر اذ غالبا ما تكون بنسبة (50%+1) من عدد اعضاء الحكومة او البرلمان مما يجعل الكتل البرلمانية الاخرى غير مؤثرة في منع اصدار وتمرير هذه القرارات والتشريعات.
اما في التوافقية فان القرارات مقيدة بموافقة الاقليات حسب نظام التصويت المتبع فيها حيث يعمل بموافقة الثلثين ولايمكن الحصول على هذه النسبة الا بمشاركة غالبية الكتل البرلمانية مما يعطي الاقليات فرصة كبيرة للحصول على حق النقض على قرارات الاكثرية فلا توافق الا على ما يضمن مصالحها الخاصة وطموحات ممثليها مما يمهد للوصول الى حالة دكتاتورية الاقلية واستبدادها باستخدام هذا الحق وبذلك فان هذا الفيتو الممنوح بالتوافق للاقلية يكون سلاحا بيدها لفرض المزيد من التوافقية على الاغلبية مما يجبرها على الانصياع لراي الاقلية تحت ضغط هذا الفيتو وهذه النتيجة مخالفة للهدف الذي يريده دعاة التوافقية فهم يهربون من دكتاتورية الأكثرية الى دكتاتورية الأقلية.
وتسمى هذه الصلاحية او هذا الحق في لبنان من وجهة نظر الاكثرية الحكومية بـ (الثلث المعطل) ومن وجهة نظر المعارضة بـ (الثلث الضامن). وقد تضمن الدستور العراقي الكثير من المواد التي تشير الى وجوب الحصول على موافقة الثلثين ومواد اخرى تشير الى وجوب الحصول على اجماع مجلس رئاسة الجمهورية وكلا الامرين يحققان التوافقية ويضمنان للاقلية حق النقض على ماتريده الاكثرية، وسيتم التطرق تفصيليا الى هذا الموضوع في العناوين اللاحقة.
وما ذكرناه يوضح لنا ان الديمقراطية تقدم للاكثرية الصلاحيات المستمدة من الاصوات الانتخابية وتضمن حقوق الاقليات ولكن التوافقية تهيء المقدمات لان تكون الاقليات مسيطرة بشكل ما على الاكثرية او على اقل التقديرات تفرض شروطها السياسية عليها بقوة.
2- في النظام الديمقراطي يكون الصراع بين الشخصيات والاحزاب والتنظيمات المتنافسة من خلال برامجها الانتخابية التي ترتكز على الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكل اساسي وتتسابق لتقديمها الى الناخبين من اجل كسب اصواتهم لصالحها بما يرشحها للحصول على مقاعد برلمانية ويتوجه الناخبون الى صناديق الاقتراع لاختيار المرشحين الذين يمثلونهم فكريا او الذين يطرحون اكثر البرامج الانتخابية اقترابا من معاناتهم وتلبية لطموحاتهم وحلا لمشاكلهم. ويمثل البرلمانيون في هذه الحالة برامجهم الانتخابية او الشرائح الاجتماعية والمهنية والفكرية التي انتخبتهم وهذا ما يحصل في مختلف الدول الديمقراطية.
اما في التوافقية فان الصراع بين المتنافسين يكون باعتبارهم يمثلون مكونات المجتمع المتعددة بغض النظر عن برامجهم الانتخابية وفي هذه الحالة فان الناخبين يتوجهون الى صناديق الاقتراع للتصويت للقوائم التي تمثل مكوناتهم او الشخصيات التي تنتمي اليها حتى وان احتملوا عدم واقعية ولا صلاحية برامجها الانتخابية او عدم كفاءة المرشحين او عدم التوافق الفكري معهم ولا ينتخبون القوائم او الشخصيات التي تمثل مكونات اخرى وان تاكدوا من واقعية وصلاحية برامجها الانتخابية فالمواطن الشيعي ينتخب القوائم او الشخصيات الشيعية وان تيقن عدم نفعهم لعموم الشعب ولابناء المذهب الشيعي خصوصا فالمهم عنده ان يكون مكونه في موقع مؤثر في البرلمان والحكومة ولذلك فهو لاينتخب اياد السامرائي ولا محمود المشهداني مثلا وكلاهما من ابناء المذهب السني حتى وان تيقن بانهما في قمة الوطنية وقدما مشاريع انتخابية واقعية وسليمة لبناء الدولة وتشكيل حكومة تنفع البلد والشعب في مختلف المجالات. وكذلك المواطن السني فانه ينتخب القوائم او الشخصيات السنية حتى وان تيقن عدم نفعهم لعموم الشعب ولابناء المذهب السني فالمهم عنده ان يكون مكونه في موقع مؤثر في البرلمان والحكومة ولذلك فهو لاينتخب ابراهيم الجعفري ولا عادل عبد المهدي مثلا وكلاهما من ابناء المذهب الشيعي حتى وان تيقن بانهما في قمة الوطنية وقدما مشاريع انتخابية واقعية وسليمة لبناء الدولة وتشكيل حكومة تنفع البلد والشعب في مختلف المجالات. ونفس الامر مع المكونات الاخرى، الكرد والتركمان والمسيح والصابئة والايزدية والشبك.
وهذا يعني بان الديمقراطية توحد الشعب وبالنتيجة تقوي الحكومة بينما التوافقية تفتت الوحدة الوطنية وتضعف الحكومة.
3- تعتمد الديمقراطية بكل مظاهرها واساسياتها المتعلقة بالحكومة والبرلمان على نتائج الانتخابات التي تحصل عليها القوائم الانتخابية والتي تتحول الى مقاعد برلمانية حسب نسبة الاصوات التي تحصل عليها القوائم من دون تحديد مسبق لعدد مقاعد القوائم الانتخابية سواء كانت تمثل حزبا او مكونا.
اما في التوافقية فان احد تطبيقاتها ان توزع مقاعد البرلمان على مكونات المجتمع باعداد محددة حسب نسبها السكانية الحقيقية او المتفق عليها بين الجهات المعنية بالانتخابات كما هو الحال في لبنان حيث اعتمدت على هذا الاساس الانتخابات الاخيرة التي جرت في 7 يونيو- حزيران 2009 علما ان العدد الكلي لمقاعد البرلمان هو (128) مقعدا توزع مناصفة بين المسلمين والمسيحيين فقد تم خصيص اعداد المقاعد البرلمانية التالية للمكونات المبينة ازائها :
المقاعد الـ 64 المخصصة للمسيحيين :ـ
المكون عدد المقاعد
الموارنة 34
الروم الأرثوذكس 14
الروم الكاثوليك 8
الأرمن الأرثوذكس 5
الأرمن الكاثوليك 1
الإنجيليون 1
الأقليات المسيحية 1

المقاعد الـ 64 المخصصة للمسلمين :ـ

المكون عدد المقاعد
السنة 27
الشيعة 27
الدروز 8
العلويون 2

وفي العراق طبق نظام الـ (كوتا) في الانتخابات البرلمانية التي جرت في 7/3/2010 حيث خصص عدد من مقاعد البرلمان الى الاقليات وهي المكونات القليلة السكان التي لاتضمن الحصول على مقاعد تمثلها في مجلس النواب بنسبة مقابلة لاعدادها السكانية بسبب عدم امكانية حصولها على عدد الاصوات المطلوب لذلك نتيجة عدم تمركز ابناء تلك المكونات في مناطق ادارية وبالتالي انتخابية واحدة او متقاربة تمكن قوائمها الانتخابية من الحصول على الاصوات اللازمة للوصول الى مجلس النواب. ونبين في الجدول ادناه حصص الاقليات من مقاعد مجلس النواب حسب محافظاتها :

الأقليات عدد المقاعد المحافظة
الصابئة 1 بغداد
الشبك 1 نينوى
الإيزيديون 1 نينوى
المسيحيون 5 عموم العراق والخارج
المجموع 8

وهذا النظام يزيد من الفصل السياسي والفكري بين المكونات وبالتالي يضعف الانسجام بينها.
إن جوهر الديمقراطية قائم على أساس حق الأكثرية السياسية، التي تفرز من خلال الانتخاب المباشر لرئيس الدولة كما في النظام الرئاسي او من خلال الأكثرية في مجلس النواب كما في النظام البرلماني، بتشكيل حكومة تقود البلد وفق البرامج الموضوعة من قبلها مع الحفاظ على حقوق الأقليات الأخرى فهي التي تختار الوزراء والمسؤولين حسب قناعاتها وتكون مسؤولة عنهم امام البرلمان والشعب.
اما في التوافقية فان تشكيل الحكومة وتوزيع المناصب السيادية والرئيسية فيها يكون بالتوافق بين مكونات المجتمع، بواسطة ممثليها او من يدعون تمثيلها، حيث تطالب جميعها بالاشتراك في الحكومة واخذ الحصص التي (تليق) بها فتفرض عليها الوزراء والمسؤولين كل بمقدار حصتها وتمرر او ترفض ما تشاء من قرارات ومواقف ومشاريع ومن دون هذه التوافقات والمحاصصات لايمكن تشكيل الحكومة مما يعني ان السيطرة في واقع الحال على الوزراء والمسؤولين تكون للمكونات وللاحزاب التي تمثلها وليس لرئيس الحكومة وهو الواقع الفعلي – بدرجة كبيرة – في العراق ولبنان في الوقت الحاضر.
وقد تم الاتفاق في لبنان على ان تكون رئاسة الجمهورية للمسيحيين الموارنة ورئاسة الوزراء للمسلمين السنة ورئاسة البرلمان للمسلمين الشيعة. اما في العراق فقد افرزت العملية السياسية بعد انتخابات مجلس النواب التي جرت بتاريخ 30/1/2005 واستمرت لحد الان عن توزيع شبه محدد للمناصب الرئاسية حيث صار عرفا سياسيا ان تكون رئاسة الجمهورية للكرد ورئاسة الوزراء للعرب الشيعة ورئاسة البرلمان للعرب السنة وان يكون نواب كل منهم من المكونات الاخرى. وهذه الحالة تمثل نظريا توافقا بين المكونات الا انها في الواقع صراع بينها على هذه المناصب والتوافقية مشحونة بمثل هذه الصراعات بينما الديمقراطية تخلو منها الى حد بعيد.
5- تسير العملية السياسية والحكومية في النظام الديمقراطي بوجود الركنين الاساسيين طرف الحكومة او الاكثرية وطرف المعارضة او الاقلية ويعملان كل من وضعه السياسي والبرلماني والحكومي من اجل المصلحة الوطنية العليا فالحكومة تندفع باتجاه كسب المواطن من خلال تقديم الخدمات واتخاذ المواقف واصدار القرارات التي تحقق مصلحة الشعب والدولة باعتبار ذلك منهاجا لها موافقا لمبادئها من جهة وحذرا من انتقادات المعارضة وتحريكها للراي العام بالضد من الحكومة وبالتالي السعي لاسقاطها من جهة اخرى. والمعارضة في الديمقراطية تمارس دورا بناءا يهدف بالنهاية الى تحقيق المصالح الوطنية والمنافع المتعددة للشعب على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولذلك فهي تقف مع الحكومة في صف واحد من اجل هذه الاهداف كما انها لاتمارس دورا اسقاطيا ضد الحكومة بمعنى مخالفتها والتشهير بها حتى في ايجابياتها ومساراتها الصحيحة ولكنها تعارضها في ماتعتقد بانه يضر بالمصالح الوطنية .
اما في التوافقية فان دور المعارضة يضمحل الى حد كبير بل انه قد ينتهي تماما كما في النموذج العراقي فلا توجد معارضة برلمانية ولا حكومية حقيقية وقوية بسبب اشتراك جميع الكتل البرلمانية في الحكومة ولا يبقى خارجها الا تنظيمات ضعيفة لايتعدى وجودها البرلماني كراسي قليلة ومعدودة ولذلك فان الحكومة لاتجد من يعارضها ما سبب انتشار الفساد الاداري والمالي في العراق طولا وعرضا وانعدام الخدمات بمختلف اشكالها فضاعت المليارات بارقام خيالية. اما صورة (المعارضة) في الحكومة ومجلس النواب التي حصلت خلال السنوات الماضية من عمر الديمقراطية التوافقية في العراق المتمثلة برفض بعض المشاريع من قبل كتل ونواب او انسحابهم من جلسات المجلس للحيلولة دون اكتمال النصاب القانوني اللازم لانعقادها او استجواب بعض الوزراء والمسؤولين في مجلس النواب فهي ليست معارضة سياسية حقيقية وانما اساليب للضغط المتبادل بين الكتل من جهة وبينها وبين الحكومة من جهة اخرى لغرض الحصول على منافع او للمساومة على مواقف معينة. وبالنتيجة فان عدم وجود المعارضة يعني ضعف الحكومة، التي هي ضعيفة بالاساس بسب تشكيلها بطريقة توافقية تقوي الكتل والاحزاب على حساب مجلس الوزراء كما بيناه، لذلك تكون الحكومات في الدول الديمقراطية قوية اما في التوافقية فانها تكون ضعيفة.
ان الاختلافات التي ذكرناها اهم واكثر تاثيرا ووضوحا في واقع العمل السياسي والحكومي والبرلماني من نقاط التشابه بين الديمقراطية والتوافقية وتبين ان التوافقية ترفض وتعارض وتنسف الكثير من مبادىء الديمقراطية فهي لاتتبع الاساليب الديمقراطية ولاتحقق الاهداف التي عرفت بها الديمقراطية ولهذا فلا يصح أن نسمي التوافقية ديمقراطية حتى وإن اشتركتا في مزايا أخرى بل نعتبرها شكلاً جديداً من أشكال الحكم.

هذه المقالة ضمن سلسلة مقالات تتناول العناوين المهمة من كتابي (الديمقراطية التوافقية العراق انموذجا) الذي صدر علم 2011  في بغداد