اكتسبت سلسلة مقالات الكاتب الفاضل الاستاذ الدكتور حسيب حديد عن الطب،والعقاقير في العراق القديم،التي نشرها تباعا في موقع البيت الموصلي مؤخرا،اهمية خاصة،ليس فقط بما نالته من اهتمام القراء بمداخلاتهم المكثفة،وإنما بخصوصيتها الاكاديمية في تسليط الضوء على ملامح العقاقير،والطب القديم في بلاد الرافدين بمنظور علمي.
ولعل من نافلة القول الاشارة الى ان جميع كتب التاريخ تتفق على ان العراق القديم (بلاد النهرين)هو منبت أول حضارة على الارض. ولا شك ان المكتشفات الاثرية،والدراسات القديمة، قد اثبتت بشكل واضح، ان العراق القديم هو فعلا مهد الحضارات،ومنبع الفكر ،والعلم ،والمعرفة، حيث اسس لقاعدة التحضر،وارسى دعائم التمدن،ومن ثم كانت له اسهامات واضحة في توليد المعارف، الصرفة منها، والتطبيقية منذ العصور الغابرة، مما يمكن معه ان نعترف له بفضل السبق في التأسيس لبدايات تلك المعارف والعلوم، التي انتقلت في مراحل لاحقة الى الغرب كما يعرف ذلك جيدا المتخصصون في تاريخ الحضارات بشكل عام، والمهتمون بتاريخ العلوم بشكل خاص.ومعلوم إن الحضارة العراقية القديمة قد دامت حوالي 3000 عام خلت قبل الميلاد، وعرفت بـ (حضارة بلاد النهرين)، ومقرها هو العراق الحالي. وكانت هذه (الحضارة النهرينية) من القوة والتأثير يوم ذاك،بحيث انها شملت كل الشرق الاوسط، وأصبحت اللغة الأكدية والكتابة المسمارية، هي المتداولة بين دول العالم القديم،تماما مثلما هو حال اللغة الانكليزية في العصر الراهن.
ومع ان معطيات تلك المواضيع موجودة في امهات الكتب،والمراجع المختصة بالحضارات القديمة، والمدنيات المندرسة،إلا انه ليس من السهولة الاطلاع عليها من قبل الجميع،والوقوف على كل ما عرف منها حتى الآن،وما هو لا يزال منها قيد الاستكشاف،لأسباب كثيرة، في مقدمتها بالطبع، معوقات ترجمتها الى العربية واللغات الاخرى،مما يتطلب الامر معه جهودا ضخمة،وعلى مستوى جمعي، لاستكشاف المعلومات عنها من بطون تلك المراجع،واستلالها منها بشفافية، وترجمتها بأمانة علمية، وموضوعية تامة، ومن ثم القيام بحملة نشر واسعة لها في الاروقة الجامعية، والمراكز البحثية، والمؤسسات الثقافية الوطنية منها والعالمية، وإتاحتها للجميع، للتعريف العلمي بما انجزته حضارة وادي الرافدين في مجال العلوم، والمعارف الطبية،وغيرها من العلوم والصنائع،والفنون، انصافا لتلك الحضارة، وتوثيقا لحقائق التاريخ من جهة،وتذكيرا للخلف بأمجاد أسلافهم القدامى،بالتواصل مع الاجيال اللاحقة، وما قدموه من انجازات في خدمة البشرية ،تستوجب الاستلهام في مسيرة النهوض المعاصر، بما يشكله ذلك الموروث الحضاري من طاقة رمزية كامنة،ورصيد معنوي ثري،يمكن استثماره بفاعلية اكبر في تفجير قدرات الخلف،لاستئناف عملية تدفق الإبداع الانساني،وتواصل العطاء الحضاري من جهة اخرى.
وتأتي مقالات الدكتور حسيب حديد في هذا السياق ايماءة صريحة، للإشارة الى هذا السبق الحضاري للعراق القديم، بترجمة،ونشر ما تقع عليه يده من معلومات ،والتدقيق بالمغمور منها،والذي لا يلتفت إليه عادة إلا اصحاب النظرة المتمعنة من الباحثين،والدارسين،لاسيما عندما تكون بعض تلك المعطيات قد غابت،او غيبت عنهم بقصد الطمس،والجحود المتعمد،من قبل البعض من غير المنصفين، لمناقب تلك الحضارة الضاربة في القدم. ولعل جهوده في ترجمة النصوص،والمراجع المتاحة عن آثار، وانجازات حضارات العراق القديم،ستكون انارة لازمة، لجوانب مهمة لما قدمته حضارات العراق القديم للعالم من علوم،ومعارف،لكي يتيقن الاخرون دون ادنى ريب،عمق،وعبقرية تلك الحضارة ،التي تعتبر بلا شك خميرة التحضرالراهن،الامر الذي يستوجب من الجميع،التنويه بمنجزانها، والإشادة بما لها من افضال على الحضارات المعاصرة،تساوقا مع الموضوعية، وإنصافا للحقيقة التاريخية.