خاص: قراءة- سماح عادل
في الحلقة الثانية من ملف الكتابة النسوية سوف نتناول دراسة أكاديمية بعنوان (ملامح من صورة الآخر في السرد النسوي العربي) للباحثين “عوني صبحي الفاعوري” أستاذ في كلية الآداب- جامعة صحار- سلطنة عمان، و”نزار مسند قبيلات” أستاذ مساعد- جامعة صحار- سلطنة عمان، وهي دراسة تبحث في نصوص لكاتبات في المنطقة العربية، للكشف عن بنية الكتابة النسوية لديهن، حيث تبحث هذه الدراسة في الشخصيات الروائية، وزوايا النظر وبؤرة الأحداث الروائية، وحساسيتها الموضوعية، وذلك تبعا للمستويات الثلاث: المرأة المؤلف، والراوي السردي، والشخصية الفنية، بالإضافة إلى قضايا العدالة والحرية والمساواة مع الرجل، وتهتم الدراسة أيضا بالنماذج الإنسانية التي عبرت عنها الكتابة النسوية.
حضور الكاتبة العربية..
تبين الدراسة أنه برز حضور المرأة العربية الكاتبة وأصبحت نصوصها الإبداعية تنافس أعمال الرجل بل وتتفوق عليه أحيانا، فلقد تجاوزت الكتابة النسوية، التي ازدهرت في ثمانينيات القرن الماضي، المحرمات، فقد طرقت في سردها الروائي التابوهات في الدين والسياسة والجنس، وحتى في عاداتنا اليومية واعتقاداتنا.
إن الكتابة النسوية سعت إلى تقويض الدوغما والمفاهيم المغلوطة، وإلى تغيير مواقف الرجال الكاذبة حيال جنسهن، وعملت النساء على أساس أن تغيير الموقف الاجتماعي هو الشرط الأساسي لأي تغيير اجتماعي أو سياسي، وفي القرن العشرين كسرت الروائية العربية حواجز فكرية متعددة، ولعل أهم مساندة قدمتها هي محاولة القضاء على الأحادية الفكرية التي ترى الأشياء بعين واحدة هي عين الرجل، أو الانكفاء على الذات دون رؤية الآخر، أو تلك الثنائيات الموروثة التي تفصل الدين عن السياسة وعن الأخلاق، وعن الاقتصاد والجنس وغيرها.
تحدي الكتابة..
إن إشكالية الكتابة عند المرأة تعد تحديًا على أكثر من صعيد، فقد جاءت طروحاتها الروائية صارمة وغارقة في عالمها الإبداعي، كما الحال عند “نوال السعداوي” و”أحلام مستغانمي” و”كفى الزعبي” و”سحر خليفة” و”حنان الشيخ” و”سمر المقرن” وغيرهن من الكاتبات العربيات في الخليج العربي والمغرب أيضًا، قدمت المرأة / الكاتبة نماذج متقدمة على صعيد الرؤى والتكنيك، عبر معمار فني متماسك البنية والرؤية، منه امتلاكها لأدوات الفنية والوعي المتقدم، لقد أصبح العالم الجديد والمتغير هو موضوع الرواية النسوية، التي باتت من مهماتها الكبرى أن تدافع عن حقوق المرأة، وأن تحول هذا التغيير إلى قناعات اجتماعية معبرة، ولكن سيكون على المرأة الكاتبة امتلاك القدرة على القول والمحاكمة عبر نص إبداعي صادق وحقيقي حتى يستطيع أن يفعل ويغيّر، وليس عبر خطاب سياسي أو اجتماعي.
لقد أيقنت المرأة أن الرجل/ الكاتب لم يستطع أن ينصفها وربما لم يحاول ذلك جادًا، ولم يستطع أن يعبر عن عالمها الواقعي أو الإبداعي/ الخيالي بصدق ما عبّر هو عن ذاته، وقد صوّر المرأة في النص مجرد ديكورات أو للمتعة، ولتفريغ فشله وانهزاماته المتلاحقة عبر تاريخ طويل من الانكسار والتراجع والتخلف الذي عاشه المجتمع، خاصة العربي، بشقيه الذكوري والأنثوي، ولذلك سعت المرأة / الكاتبة إلى التعبير عن ذاتها بإحساس وصدق عميقين، وعبر نص إبداعي ذي نكهة خاصة تكف فيه عبارة الفشل التي ألبست لها.
الرواية النسوية..
ولما كانت الرواية حقل صراع، فإننا نرى مساحة كبيرة تسجل لصالح حضور الرواية النسوية هذه الأيام، وذلك في الأوساط والمجتمعات العربية، وإحصائيًا فإن الرواية النسوية تتقدم وتنتشر في ظل التطور والتقدم اللذين أصابا المجتمعات العربية، وانتشار منظمات حقوق الإنسان، وازدهار الأدب والنقد بشكل عام.
اعتنت الكتابة النسوية بلغة الرواية التي يتشكل منها البناء الروائي، إذ يتم خلالها رسم الصور السردية والحوارية، ورسم الشخصيات وأبعادها وحركتها، وتجسيد خصوصية المكان فضلا عن القيم التي تريد الرواية تجسيدها، فاللغة هي عماد السرد، إذ إن السرد هو خطاب يقوم به السارد أو الراوي بتلخيص الأحداث والأفعال الأقوال التي يقوم بها الشخوص على مساحة العمل الروائي.
وفي الرواية الجديدة يقوم المكان بدور رئيس، ويحطم دور الزمان، إذ يكون فعل الراوي مهما في المكان، لأن وجود الأشياء في المكان أوضح وأوسع من وجودها في الزمان، وقد ظهر ذلك جليا في روايات “حنان الشيخ” (بريد بيروت، إنها لندن يا عزيزي، وحكاية زهرة) وغيرها و”كفى الزعبي” و”سمر المقرن”…
تقنيات السرد النسوي..
ثمة دراسات وأبحاث متخصصة سبقت هذه الدراسة حول تقنيات السرد النسوي، أبرزت ملامحه وعرَّفت به، ومجمل هذه الدراسات جاء ضمن أطروحات جامعية بينت أن السرد النسوي له ملامح وسمات، تكاد تكون مشتركة في مجمل الإنتاج النسوي العربي، ومنها:
– التعبير المموه.
– لغة الحلم.
– الحذف والتشتت.
– الحوار الداخلي.
– التداعي الفكري الحر.
هذه الملامح الخاصة بالأسلوبية التعبيرية النسوية لا تعني غيابها عن السرد الذكوري، بقدر ما تعني خصوصية الأدب النسوي النسائي، فهذه الملامح المستحدثة ترافقها مضامين فنية عديدة تطرح في الأدب النسوي من أبرزها، مقارنة المرأة العربية لذاتها بذات المرأة الغربية، أو دور المرأة العربية والرجل في عصر الحداثة والتطور والانفتاح الثقافي على الآخر.
الأنا والآخر في الكتابة النسوية..
تعبر المرأة عن نفسها من خلال رسم صورة الآخر، والآخر هذا متعدد الكيانات والهويات، المتمثل في بعض الأحيان بالأنا/ الداخل، أو من خلال الآخر الذي يعبر عن ذات المرأة، ولكن من خلال شخصيات الرواية الأخرى، فالآخر يحدد ويؤطر ويتم الكشف عن هويته في ضوء تلامسه مع الأنا، والأنا الذي سنتناوله هنا هو عروبي المكان، أنثوي التكوين.
فهي، أي المرأة العربية الكاتبة، بدأت تعقد مقارنةً بينها وبين الآخر، والآخر هذا مفتوح الحدود والتطورات، فقد يكون المرأة الغربية، أو العاشق، أو الأيديولوجيات، أو الدين، أو بالأعم قد يكون الرجل (الذكر). ولذلك نلحظ أن المرأة تلامس كل التابوهات (الدين والجنس والسياسة) المحرمة أو شبه المحرمة في الخطاب العربي، تتجاوز الممنوع وتكسر التوقع.
وقد عمدت الكتابة النسوية إلى التعبير عن المحمول الأيديولوجي في الرواية، إذ تعكس منظومة قيم تظهر في النص بسلم من التراتبيات أي بقائمة من الدرجات، فهناك منظومة قيم إيجابية وأخرى سلبية، فالوصف الذي يخدم السرد قد يحمل دلالات وإشارات تعكس القيم والأفكار والاتجاهات الأيدولوجية والسياسية والفكرية والدينية وغيرها من القيم.
ولذلك، تعبر مثلا رواية “حنان الشيخ” (بريد بيروت) عن موقفها الأيديولوجي مما يحدث في بيروت من اقتتال مذهبي، على الرغم من أن (فضيلة) من الطائفة الشيعية. تقول فضيلة: “وبدلا من أن تلعن الشيطان على جاري عادتها في السعال راحت تلعن حزبي أمل وحزب الله، مقحمة السائق في القضية: بشرفك، سمعت حدا بيعمل حزب لربه غيرنا”.
تكشف “حنان الشيخ” عن موقفها السياسي فهي ضد التحزب وضد الحرب وضد التفرقة التي يعيشها الشعب اللبناني.
وقد اتخذت “سمر المقرن” في روايتها (نساء المنكر) موقفا معارضا لما يقوم به رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية، إذ يعترضون من يشاؤون وفي أي مكان لإيقاع تهمة الفاحشة عليه، دون التحقق من الأمر. تقول: “ارتفع صوت رجل الهيئة وبدأ بالصراخ فيما انقض على (رئيف) أربعة من الملتحين وخامسهم جندي ببذلة عسكرية فكتفوه وسحبوه، وأنا أبكي فإذا بسادس يجرني من عباءتي: قدامي يالداشرة. فزعت من هذا المشهد، وصرخت لعل الناس تنجدنا، فهوى بيده على وجهي حتى شعرت بأني فقدت البصر… جلست أنا على الأرض في مقاومة مني لقوتهم. فراح الرجل يجرني على الإسفلت حتى رأيت دمي يجري عليه”.
وطلبوا من (سارة) التوقيع على قائمة من الجرائم لم تفعلها ولم تسمع بها. تقول (سارة): “ما يحصل في هذه الساعة هي جريمة كبرى بحق الإنسانية، وبحق وطني، وبحق الدين الإسلامي الذي يتصرفون باسمه، ويريدون توظيفه في إهانة البشر وسحق كرامتهم”. كل هذه المتناقضات الجديدة في حياتها، ضجة وهدوء، قبول ورفض، حياة وموت… ثنائيات تطغى على تفكيرها وكيانها.
و(سارة) حين وصفت الخليج العربي بأنه بلد (رجال) عكست من منظورها سلبيات هذا المجتمع تقول: “لأن هذا البلد للرجال، رجال أينما كانوا على اختلاف أشكالهم، في الأسواق أراهم، أعينهم تصيب كل امرأة تمر بأعينهم المغموسة في سحابة مياه عكرة. أية امرأة في أعينهم هي أنفاسهم، لا بحثا عن الجمال ولا عن الإثارة ولا عن البشاعة، فقط عن المكان الصغير الذي يخلمون لو يرمون فيه معاولهم وجرافاتهم، هكذا في الظلام ثانية وينتهي الحلم وكل شيء. إنهم لا يبحثون عن المرأة بما فيها من خيرات وحنان ودفء. إنهم لا يرون سوى ظلام، حتى المكان الصغير هو في ظلام”.
فالراوية لا ترى إلا بلد الرجال، فالسيطرة الذكورية واضحة على المكان، وتعكس كراهيتها لهم ورفضها الفكري لسيطرة الذكورية على المرأة، والنظرة الدونية لها واعتبارها موطن الشهوة فحسب.
تعكس الراوية في رواية (نساء المنكر) بعدا نقديا لمجتمعنا الأبوي البطريركي، الذي يعزز سيطرة الرجل على المرأة فقط من أجل هويته الجنسية الذكورية.
سسيولوجيا الأدب..
وتنتهي الدراسة إلى إن دراسات سسيولوجيا الأدب تروج للأدب النسوي، صاحب الحضور القوي وفق المعطى الواقعي العصري، يساندها في ذلك النقد الثقافي من جهة، وموضوع حقوق المرأة ومطالبات المساواة مع الرجل من جهة أخرى، فضلا عن أن الأدب النسوي يلقى إقبالً ذكوريًا نزوعًا منه إلى معرفة الآخر، ومحاولة الكشف عن هذا العالم الجميل عبر سرد حقيقي تقوده المرأة الكاتبة نفسها. وفي ذلك محاولة للكشف عن خفايا المرأة وما يتنازع في دواخلها.
وأخيرًا، لقد استطاعت المرأة العربية / الكاتبة أن تقف جنبًا إلى جنب مع الرجل وأن تفرض وجودها بقوة وحزم وذلك بفعل الغضب المعهود عنها، الغضب الذي يشي بدلالة إيجابية وحيدة للوعي النسائي، واستطاعت المرأة أيضا أن تمتلك الأدوات الفنية، وأن تجد مكانها على خارطة الرواية العربية، ليس على صعيد الكم بل على صعيد الكيف، ولعل ولوج المرأة هذا العالم الإبداعي خير شاهد على ذلك، وإن كان الرجل الكاتب ما زال يحظى بالاهتمام الأول في هذا المجال.