19 ديسمبر، 2024 1:15 ص

اشكالية الدور الايراني في العراق والمنطقة

اشكالية الدور الايراني في العراق والمنطقة

الحلقة الخامسة
انتهينا الى ان الدين لم يكن ليشكل اي سبب للخلاف بين الغرب وامريكا والدول الاخرى في العالم بغض النظر عن هذا الدين سواء كان الدين اسلاما كما في الحالة السعودية او يهوديا كما في الحالة الاسرائيلية. ولم يكن النظام الشمولي الذي تتميز به الدولة الدينية كما في الحالة السعودية عائقا لأقوى ارتباط وتعاون بين الغرب الليبرالي والنظام الديني الشمولي بأفكار ما قبل القرون الوسطى. وطبعا الامثلة كثيرة وانما تمت الاستعانة بنموذجين صارخين في المنطقة لتوضيح الفكرة والا فان باكستان الدولة الاخرى القائمة على اساس ديني منذ اول نشوئها وانفصالها عن الهند البلد الام لدواع طائفية 1947 ورغم امتلاكها للسلاح النووي 1987 ومع كونها منبعا للتشدد الاسلامي (حركة طالبان) والمجاهدين الافغان ورغم كل الفساد والفوضى السياسية والانقلابات العسكرية وتفشي الفقر والامية، الا ان كل ذلك لم يكن مانعا لإقامة علاقة وثيقة مع الغرب الليبرالي ولم يخش من وقوع هذه الاسلحة بيد الاسلام المتشدد او جنرالات جيش يعشق السلطة والحكم العسكري. فهل بعد كل ذلك علينا ان نصدق ان سبب الخلاف الايراني الامريكي هو بسبب هوية النظام الايراني الديني او لأنه نظام لا يؤمن بالليبرالية كنظام لإدارة البلد. وقبل مغادرة دور الدين في العلاقات الامريكية الدولية، لابد من طرح تساؤل هل ان الدين فعلا ليس له تأثير في السياسة الامريكية؟ قد يبدو غريبا هذا السؤال، انما واقع الامور يكشف غير هذا. فتركيا التي تخلت عن اسلامها وحاربته في جمهورية اتاتورك العلمانية بضراوة وسعت الى تغريب تركيا حتى بملابسها وعطلة نهاية الاسبوع بل حتى لغتها، كل هذا لم يشفع لها وباءت كل جهودها بالانضمام الى اوروبا. وادركت تركيا بعد ظهور حزب العدالة والتنمية وقائده المعاصر أردوغان بعد المعاناة الطويلة ان الحل هو باستقلال تركيا لا بمحاولة الانضمام الى حلف وسوق يعتبرها غريبة وشاذة عنه. وهذا الحال يشمل البانيا والبوسنة والهرسك اللتان لم تجدا موطئ قدم في اوروبا رغم كل محاولاتهما. واذا كان هذا يبدو غريبا بعض الشيء وقد يستنكر من قبل بعض القراء والمحللين بدعوى انه يصدر مما قد يصطلح عليه “الغربفوبيا”. الا ان جيل المحافظين الجدد الذي سيطر على اليمين الامريكي في العقود الاخيرة ودعواته الدينية يعتبر مثالا واضحا لتدخل الدين في السياسة الامريكية. واصبح بوش الابن صاحب مصطلح الحرب الصليبية الذي يعتبر ابنا لحركة اليمين الديني الجديد رئيسا لأكبر دولة غربية تنادي بالليبرالية، هذا التيار المحافظ يمارس نوعا من المكارثية الدينية، إن جاز التعبير، ضد الرؤى المسيحية التجديدية المغايرة والمنفتحة على العصر كذلك على الأفكار الليبرالية التي انحازت للمساواة والانتصار لقيم الحركة المدنية بشن حملة شاملة في أنحاء البلاد الامريكية لفرض الأخلاق الدينية بمرجعية توراتية. مكررا اساليب حقبة مكارثي المعادية للشيوعية في اعقاب الحرب العالمية الثانية في خمسينيات القرن المنصرم بما يشبه محاكم التفتيش في القرون الوسطى. فهل حقا انها حرب بين الليبرالية والتشدد الديني الاسلامي؟ ام انها بين التشدد الديني التوراتي وخصومه؟ وكلما رأينا اشتداد العلاقة بين الصهيونية واليمين المحافظ وازدهارها كلما تبوا سياسي قريب من اليمين المحافظ سدة الرئاسة في الولايات المتحدة, قدرنا على فهم دور الافكار التوراتية في رسم السياسة الغربية في الشرق الاوسط تحديدا. وهذا موضوع يحتاج الى تفصيل كثير لست في صدد الاسهاب به، انما الاشارة اليه لتنبيه القارئ اللبيب الى حقيقة مضادة تطمس بأكاذيب بينّا زيفها في عدم وجود أي علاقة للدين في تقييم الدول الاخرى في سياسة الولايات المتحدة الامريكية الخارجية.

اذا لم يكن الدين ولا الشمولية سببان في معاداة الولايات المتحدة لأنظمة معينة ولا عاملان حقيقيان في رسم سياستها الخارجية فما هو العامل الحقيقي اذن؟

الاجابة طويلة وبحاجة الى حلقة كاملة، انما لابد لنا من الاشارة الى سؤال يخرج من ثنايا هذا الطرح، وهو اذا كانا الدين والشمولية ليسا بسببين حقيقيين فلماذا تستعين بهما الولايات المتحدة والرغب في حملاتها الدعائية؟

والجواب المختصر وربما نتعرض له لاحقا في حلقة اخرى لان صورة الدين في اذهان الناس والذي تروج له سلطاته هو عودة الى عصور قديمة ويعني حجر الحريات ويقمع الافكار وهذا ما دأبت على تشجيعه السلطات السياسية عندما تتولى الحكم باسم الدين. وكان دائما يشيع الجهل والتخلف بهذه الدعوة الدينية الزائفة وهذه الصورة تستفز فطرة الانسان التواق للحرية الشخصية . والامر نفسه ينطبق على أي عقيدة شمولية ولذا مهما كانت الافكار والعقائد صحيحة فان فرضها الاجباري هو عمل ينافي الفطرة الانسانية ولذا يسعى الانسان دوما الى أي دعوة تعيد له حريته ومن هنا كان مقتل كثير من الافكار والانظمة.

اما السؤال الاخر الذي سوف نجيب عنه تفصيلا في حلقة لاحقة هو، ما هو العامل الحقيقي في رسم السياسة الخارجية للولايات المتحدة؟ والجواب باختصار، انه المصلحة الاقتصادية التي تؤمن التفوق الاستعماري والسيطرة على الاسواق العالمية وجعلها تابعة لرؤوس الاموال الامريكية. وكل محاولة للخروج من سيطرة الرأسمال الامريكي وبناء قوة اقتصادية مستقلة سيكون الخصم الحقيقي للولايات المتحدة. الخصومة مع امريكا سببها نزعة الاستقلال، والصداقة مع امريكا تقويها التبعية لها. ليس في قاموس العلاقة مع امريكا مصلحة الشعوب ولا رفاهيتها، بل لها عامل اوحد وهو تحقيق المصلحة الامريكية فقط على المستوى الاستراتيجي. حقوق الانسان والتضييق على الحريات الشخصية والديمقراطية شعار لا غير، يرفع حين تعلن بعض الدول راية الاستقلال عن النفوذ الامريكي وتحاول بناء وجودها الدولي الخاص. اما حين تبنيه تحت المظلة الامريكية فكل هذه الشعارات تذهب هباءً كرماد الجنائز الذي ينثر في البحار.

يتبع…….