الصحافة المكتوبة التي شغلت موقع الصدارة من وسائل الإعلام بما لها من تأثير في توجيه الرأي العام وانعكاس ذلك من ثم على آلية صنع القرار لدول كبرى درجة قد يؤدي مقال فيها إلى تغيير حكومة أو استقالة وزير أو رئيس ، و لأنها من أكثر المهن أهمية وخطورة ، أطلق عليها صفة ( السلطة الرابعة ) .
في العراق ، ولأن الإنحدار طال الكثير من المفاصل الحيوية للحياة بمختلف وجوهها، لذا آلت الصحافة بشكل عام ،إلى حالة تتقيأ فيها من الكلام مايثير الغثيان عند من يطلب حدّاً أدنى من ممارسة مهنة بهذا المستوى.
الصفحة الأولى هي الأهم في أيما صحيفة ، والأبرز ما في تلك الصفحة هي افتتاحيتها ،ذلك لأن الخبر الذي تنقله الصحف المكتوبة ، لم يعد مهماً ولا مثيراً للانتباه بعد أن تولت الفضائيات نقل الأخبار خلال لحظات من حدوثها وبالتالي يصبح ماتنشره الصحافة المكتوبة بائتاً ومستهلكاً ،وعلى ذلك لم يعد يشفع للصحيفة ومن ثم يبرر صدورها سوى مايكتب فيها من تحليلات تتناول التعليق على الحدث وإضاءة جوانبه المختلفة علّها تبقي على رونق الكلمة المكتوبة التي كان لها الفضل الأكبر في تطور الحضارة البشرية وارتقاء العقل والمفهوم .
الإفتتاحية هي وجه الصحيفة ومعلَمها الأوضح ، ليس في مكان نشرها وحسب ، بل في تقديم صورة مكثفة عن هوية الجريدة ورؤيتها ورسالتها، لذا فكتّاب الافتتاحيات غالباً ما يكونون من (طينة) خاصة من الكتّاب الأفذاذ أصحاب الموهبة والألمعية، وما يؤكد المثال مايحدث مع بعض رؤساء أمريكا الذي لايتوانون عن التصريح بأنهم عملوا في موقف ما ، وفق ماجاء في افتتاحية النيويورك تايمز أو الواشنطن بوست مثلاً .
في لبنان حيث الصحافة العريقة ، كان المرحوم سليم اللوزي صاحب مجلة ( الحوادث ) السياسية الأسبوعية ذات الموقع المتميز ،قد نالت كتاباته الإهتمام ، ليس في لبنان وحسب بل والكثير من البلاد العربية ، وفي المقابل منه ،كان المرحوم سعيد فريحة صاحب دار الصياد الذي يمتلك إضافة إلى جريدة الأنوار اليومية ، مجلتي ( الصياد) السياسية الإسبوعية و( الشبكة ) الإسبوعية التي تهتم بأخبار الفن ونشاطات الفنانين ، لذا كان فريحة ممن ينطبق عليهم القول العراقي (منين ماملتي غرفتي ).
كان الاثنان على نقيض سياسياً ، ففيما كان فريحة من مؤيدي التيار القومي يومها ومن مناصري الرئيس حافظ الأسد الذي أدخل قواته إلى لبنان منتصف السبعينات، وقف سليم اللوزي بالضدّ من ذلك، ما حدا بفريحة أن يتناوله بإفتتاحية احتوت الكثير من الشتائم والافتراءات درجة وصف اللوزي فيها بـ(الجعاري ) أي الكلب الشرس ( المكلوب ) فما كان من اللوزي إلا إن ردّ بمقال رصين وبلغة ناعمة يشرح فيه الوضع السياسي ومايمرّ به لبنان والمنطقة بإسلوب لبق بارع من دون أن يأتي على ذكر (فريحة) أو إفتتاحيته ، ثم ذيّلّ المقال بإسمه : ( سليم اللوزي – وتحته عبارة ( الجعاري حسب افتتاحية الأستاذ سعيد فريحة بتاريخ – كذا ) .
أما المرحوم ( ميشال أبو جودة ) كاتب الإفتتاحية الأشهر بعد غسان تويني صاحب جريدة النهار اللبنانية العريقة ، فقد كانت إفتتاحيته في الصحيفة المذكورة ، تثير الرأي العام في لبنان ويتلاقفها السياسيون بتحليل ما فيها لمعرفة من ثم اتجاه الحدث ، الجدير بالذكر إن كلا الإثنين (اللوزي وأبو جودة ) دفعا حياتهما ثمناً لنظافة الكلمة ونضج الموقف ، في وقت كانت الأجواء في زمنهما تمتلئ بالفجاجات والرثاثة كما هي الحالة في العراق اليوم .
بعد سنوات ،اغتيل سمير قصير وجبران تويني من ( النهار) ذاتها وللأسباب ذاتها ومن الجهات ذاتها، ما حملني يومها إلى كتابة مقال بعنوان ( النهار – بلاط الشهداء ) جاء في بعض مضمونه ” أنا من الذين كانوا يتصدون لجبران تويني وينتقدون مواقفه وكتاباته بشدّه بإعتباره رجعياً انعزالياً يريد فصل لبنان عن عروبته، وكنت أمقته على ذلك حينها، لكن لم يخطر بذهني مرّة إن أوجّه له شتيمة أو إفتراءاً — ”
ذلك ماحدث أيضاً في موقفي من طلال سلمان الكاتب اللامع وصاحب جريدة ( السفير) اللبنانية الشهيرة ، فقد تناولته في عدة مقالات ،بانتقادات حادّة حول موقفه من التغيير في العراق ،وكنت انشرها في جريدة (السفير) ذاتها من دون أن يجد أحد حرجاً أو غرابة– بل وكنت أتقاضى عنها بدلاً نقدياً مجزياً كما هو الحال في الصحافة اللبنانية لمكافآت كتّابها – .
من نافل القول إن الصحافة هي الانعكاس الأبرز لوجه البلد ومرآته الصقيلة ،فمن تطورها ورهافة ذوقها وحسن تصميمها وسلامة لغتها ودقّة تحليلاتها وذكاء كتّابها ، يؤخذ الإنطباع الأول والأكثر أهمية لمقدار التطور في ذلك البلد ورقي شعبه بل وشكل نظامه السياسي ، فمن مقدار ماتتمتع به الصحافة من حرية في نقل الخبر وماتنشره وطريقة تحريره وتقديمه، يعرف النظام السياسي، ومن جمال التصميم ومتانة اللغة بسلاستها وحسن اختيارها للألفاظ ،يظهر مقدار تطور ذوق القائمين عليها وارتقائهم في المهنة ، أما في براعة كتّابها ونوع المواضيع التي يتناولونها وعمق تحليلاتهم وجمال أسلوبهم ، فيشير إلى سمو الفكر ومنهجية التفكير وموضوعية الطرح وحسن السياق.
تلك هي علامات الصحافة الحقيقية التي تتناسب وحالة التطور في البلد ، فلايمكن لشعب متخلّف يسوده الجهل وتفتك به الخرافة ، أن ينتج صحافة ناضجة، ولايمكن لفكر جامد وذكاء محدود ، ان يفرز لغة راقية وتحليل عميق ، لذا ينهمك بعض صحافيينا بالسطحي من الأمور أو المنابزات الشخصية بلغة تمتلىء بالإبتذال والإسفاف والشتائم ، أي كلّ مايجعل منها صحافة ( السخافة ) التي تعبر عن أكثر الأنماط تخلفاً وبؤساً ،خاصة وهي تأتي ممن يفترض بهم أن يكونوا من ( النخبة ) .
لقد أرستْ الصحافة اللبنانية مثلاً، تقاليد مهنية راقية، ماجعلها تحافظ على الكثير من مكانتها رغم انتشار وسائل الإعلام الأخرى ، ثم أن أربع صحف منها ( النهار – السفير – الأخبار – الديار – على التوالي ) وفي بلد لايتجاوز سكانه الخمسة ملايين نسمة ، توزع من النسخ اليومية مايفوق عشرات الصحف العراقية مجتمعة ، رغم ان سعر النسخة منها يفوق ضعفين أو أربعة أضعاف سعر النسخة مقارنة بأوسع صحفنا انتشاراً في بلد يتجاوز عدد سكانه الثلاثين مليون نسمة (العراق ) .
إن الغالبية العظمى من الصحف العراقية ، تعمل بتمويل من جهات سياسية معينة، وبالتالي يتلخص دورها في الإستخدام الأمثل لما درجت عليه قواميس الشتم وتقليب المثالب لكل من خالفهم رأياً أو اختلف معهم سياسة ،ومن ثم تُستخدم الصحيفة بطريقة لاتختلف في إسلوبها ومفرداتها ، عمّا يجري في المشاجرات التي تقع بين نساء الحارات والأزقّة .
لقد تكاثرت الصحف العراقية بشكل مفرط ، ماجعلها الأكثر تفلتاً من الضوابط الأخلاقية والمهنية على السواء ، والأكثر إدعاءاً وضجيجاً في الوقت عينه ، لكنها الأقلّ ذكاءاً والأدنى فطنة بين كتّابها الذي لايملك معظمهم من الذخيرة الثقافية سوى ما يسمعه أو يلتقطه من الفضائيات في ساعة ارتخائه متأرجحاً بين النوم واليقظة ، ومع إن ذلك واضح الإنعكاس في نوعية أعمدتهم وافتتاحياتهم التي تأتي خاوية شاحبة بمجملها، إلا أن كلّ من أولئك ( الصحفيين ) الفطاحل ، لايتوانى عن الزعم أنه سيد الساحة وملك الكتابة وأمير البيان ، أما ما يسطرّه من كلمات ، فرغم ركاكة لغتها وفقرمضمونها وترنّح أسلوبها كثمل على جليد ، فإنها تتصدر واجهة الصحيفة في أهم أماكنها من دون أن يسأل ( كاتوبها ) نفسه : هل تحتاج الشتائم إلى مهارة وثقافة عالية ؟ هل تتناسب وسمو المهنة ورفعة أخلاقها ؟ أليست هي أسوء أنواع الكتابة وأكثرها مدعاة للخجل ؟ ثم من ينتفع بهذا النوع من الكتابات ؟ هل تتناول قضية عامة ؟ أم تساهم بنشر وعي أو إضاءة قضية وطنية أو طرح فكرة نبيلة ؟ أو إظهار لجمال الإسلوب وبراعة الطرح ؟ .
سيجيب هؤلاء بأن (فضحهم ) لهذا وذاك من السياسيين والصحفيين وبهذه الفجاجة ، هو مما يحتّمه ( واجبهم ) الوطني ، لكنهم بذلك يخدعون أنفسهم بل ويسخرون منها ،فلكلّ مثالبه وعيوبه ومن منّا بلا خطيئة كي يرجم الآخرين ؟ ثم إن للصحافة لغتها التي ينبغي ان تبقى شفافة غير ملوّثة ، وإلا تساوت مع(لغة ومفردات) أماكن الرذيلة .
هل يعرف المشتغلون بالصحافة، إننا أصبحنا أضحوكة للصحافة الحقيقية في بلدان أقلّ شأناً من العراق حجماً وموقعاً وتاريخاً ؟ ذوقنا في تصميم صحافتنا مازال يعتمد أسلوب الستّينات حيث الألوان المزكرشة والعناوين المتزاحمة المنقولة حرفياً والافتتاحيات البائسة والتحرير الخائب المشبع بالأخطاء من كلّ نوع ،لكن الأغرب أن المقالات الأكثر سطحية هي الأكثر قراءة ،والصحف الأكثر انحطاطاً وتخلفاً ، هي الأكثر جذبا للقرّاء، وكلها دلائل على ما ماوصلنا إليه من درك ،لكن ذلك لم يعد مستغرباً في بلد ينحدر كل يوم إلى قعر الحضارة حتى لم يعد هناك الكثير من الصلات التي تربطنا بها ،بعد أن صرنا بلد الصفيح والمصفّحات .
لقد صفّح سياسيونا عقولهم كي تبقى ( محصّنة) على جهلها وانغلاقها فلا يدخلها ذكاء ولا تخترقها (قذيفة) من فكر سليم ، وصفّحتْ صحافتنا نفسها على تخلّفها وبدائيتها ، فلا يدخلها تطور ولا يتسلل إليها ضوء من إبداع , أليس هي صحافة مصفّحة في بلاد مصفّحة ، إلا من الإرهاب والغبار – والفجاجة ؟؟