23 ديسمبر، 2024 6:41 م

لاديمقراطية بلا وعي ديمقراطي تطبيقي

لاديمقراطية بلا وعي ديمقراطي تطبيقي

من نافلة القول إن الديمقراطية لا تنمو في ظل غياب الثقافة الديمقراطية، إن انعدام ثقافة المشاركة والتعددية السياسية في المجتمعات العربية والخليجية بصورة خاصة، يُعد من أبرز أسباب تعثر التجارب الديمقراطية في الوطن العربي، وتتشكل ثقافة المشاركة في المجتمع من خلال القدرة على تأسيس ديمقراطية محلية تتناسب مع واقع كل دولة على حدة، عبر مستويين أحدهما نظري والآخر عملي. أما النظري، فمن خلال استنبات قيم التسامح، وقبول الآخر، والحوار، وثقافة المساومة السياسية. أما عمليا فعن طريق استقرار وثبات الممارسة الديمقراطية.

على المستوى النظري، فعلى الرغم من أهمية ما قدمه الباحثون في المسألة الديمقراطية، إلا أنه لم يَرقَ حتى الآن إلى مستوى تقديم أطروحة عصرية تعمل على تبيئة الديمقراطية في الدَّولة والمجتمع، واستنبات ثقافة الديمقراطية والتعددية السياسية، وربما يعود ذلك الإخفاق إلى طبيعة التصور العام الذي يرتكز على فكرة مفادها أن وجود «نظام ديمقراطي» هو وحده الكفيل بقيام ديمقراطية حقيقية، بغض النظر عن وجود، أو انعدام الثقافة الديمقراطية في المجتمع، ولذا فإن الجهود كانت تُركز على ضغط الأنظمة الحاكمة للأخذ بالنظام الديمقراطي، لكن سنوات الديمقراطية العربية، وإن لم تكن طويلة، أثبتت استحالة نجاح نظام ديمقراطي في ظل غياب ثقافة الديمقراطية.

لا يمكن مثلا أن ينجح المشروع الديمقراطي في ظل مجموعة القيم السياسية السائدة في البلدان العربية، والتي ترفع العلاقة بين الحاكم والمحكوم من درجة التفاعل السياسي، وتقاسم المسؤوليات الوطنية، إلى درجة الخضوع لقيم الطاعة المطلقة لولي الأمر، وتمجيد الحاكم، ورفع أقواله وأفعاله إلى مرتبة الألوهية والتعبد لها، أو التي تنظر إلى المناصب في الدولة على أنها مجموعة عطايا يتم توزيعها حسب إرادة السلطة ومزاجها، ولاعتبارات لا علاقة لها بالكفاءة والقدرة.

إن الذي يعيق الديمقراطية وتطورها في الدرجة الأولى، هو طبيعة الثقافة السائدة، فعندما تكون هناك قابلية للفساد في الثقافة، فإن الديمقراطية تتلاشى، حتى وإن تظاهرت الدولة، أو المجتمع بها. ولنأخذ مثالا آخر يتعلق بالمجتمع هذه المرة، وهو طريقة اختيار الممثلين السياسيين، والتي تُعد شرطا أساسيا في تحديد ملامح الديمقراطية وهيئتها العامة. فالمجتمع الذي ينتخب ممثليه لاعتبارات طائفية وقبلية، هو بالضرورة يُمارس شكلا من أشكال المشاركة التي لا علاقة لها بالديمقراطية، ولا يعني ذلك أن الثقافة الديمقراطية تتنكر للهويات الفرعية، وتسحق الانتماءات الدينية، أو العرقية، لكنها أيضا لا تعمل على تكريسها بديلا عن الهوية الوطنية الجامعة.

الثقافة الديمقراطية تختلف تماما عن ثقافة المبايعة، لقد أصبح العالم العربي وبسبب الثقافة السائدة أمام ممارسات متعددة كلها تتلبس بثوب الديمقراطية رغم أنها لا تعدو في الحقيقة المبايعة أو الاستفتاء العام، ومثاله الانتخاب على خلفية مذهبية وقبلية، فهي كممارسة لا يمكن وصفها بالانتخاب وإن تسترت بذلك، وإنما هي مبايعة يؤديها الطائفيون والقبليون بنوع من الرضا والتوافق الداخلي، وفي ظل ثقافة المبايعة التي تعتمد على المذهبية والعرقية، لا توجد فرصة لتطور الديمقراطية الحقيقية التي تعتمد على المنافسة طبقا لما يمتلكه كل شخص من كفاءة ذاتية.

إن العمل على استزراع الديمقراطية في العالم العربي لن يتم إلا عبر برنامج مكثف يعمد إلى توعية المواطنين بقيم الديمقراطية، المتمثلة بالحرية والعدالة والمساواة، وإشاعة ثقافة الحوار والتسامح ونبذ ثقافة الإقصاء والتعصب، وتحفيز المواطنين على المشاركة الفعالة في الأنشطة المختلفة للمجتمع، ولاسيما السياسية، نظرا إلى أن اتساع المشاركة السياسية يُعد الرافد الأساس لترشيد الديمقراطية وتنميتها.

 أضف إليه ضرورة أن يتعرف المواطنون على حقوقهم وواجباتهم في ظل النظام الديمقراطي، وتدريبهم على التمسك بها، والدفاع عنها، وعن وسائل الضغط المتاحة أمامهم لصيانة تلك الحقوق من الانتهاكات السلطوية.

لا يزال الباحثون في الشؤون الديمقراطية يتساءلون عن الجهة التي تقع عليها مسؤولية نشر الديمقراطية.. هل تتحمله الدولة أم المجتمع؟ وفي اعتقادي أن المسؤولية مشتركة، فهي من جهة تقع على عاتق الدولة، باعتبارها المعنية عن تجسيد ما يمكن تسميته بالوحدة في ظل الاختلاف.. فالتباينات العرقية والطائفية، والاختلافات السياسية والاجتماعية من الأمور الطبيعية في كل المجتمعات، ودور الدولة تحديدا هو العمل على إنجاح فكرة الوطن المشترك الذي يحتضن الجميع بنظام حقوقي ينزع كل مشاعر الغبن وسياسات التمييز، ولا يتحقق ذلك دون ترسيخ مبدأ تكافؤ الفرص والمساواة بين جميع المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والطائفية، وتعريفهم بأن الانتماءات، مهما بدت متباينة، لا يجوز أن تنتقل إلى الشارع في هيئة صراعات سياسية، وعلى الدولة أن تبتعد عن استثمار الخلافات والتباينات الفكرية، أو الدينية، لأغراض سياسية، لأنها بذلك تفتح منفذا واسعا للصراع الداخلي يصعب إغلاقه.

من جهة ثانية، تقع المسؤولية على المجتمع وقواه الفاعلة ومؤسساته المدنية، فنشر الديمقراطية أمر يعني المجتمع، وهو المستفيد الأول من تطبيقها.. وفي هذا الصدد فإن مقدار ما يُبذل على الساحة من جهود لتدعيم الديمقراطية، يُعد قليلا جدا في العالم العربي. وعلى الرغم من صخب الدعوات إلى الديمقراطية، إلا أن الأحزاب والجماعات التي تدعو للديمقراطية ويعول عليها في مسألة التحول الديمقراطي غير ديمقراطية أساسا، وتدار داخليا بعقلية سلطوية استبدادية، وتتعاطى من الآراء الأخرى بالطرد الديني أو الاتهام بالرجعية، وتلاحق المخالفين بتهم العمالة، أو الكفر، وغيرها من التهم الجاهزة، وهو أمر معتاد في العالم العربي، لأن من تشكل في بيئة غير ديمقراطية لا يمكنه أن يكون ديمقراطيا.

إن ما يعيق استنبات الديمقراطية في دولنا حتى الآن، على رغم كل المحاولات المبذولة، هو أن أغلب النُّخب الحاكمة نشأت على الفكر الواحد، ولاتزال تُصر على رفض الآراء الأخرى مهما بدت مقنعة، ولم تسمح بنشأة المواطن المشارك الفاعل، بل اكتفت ببناء الرعايا المطيعين لولي نعمتهم.

أما القوى السياسية والاجتماعية فلم تستطع أن تتبنى برنامجا ديمقراطيا داخليا يعنى بتربية الأفراد على المشاركة، والاختلاف، وإبداء الرأي، وتقبل الرأي الآخر، بل كانت في الغالب سلطة استبدادية على هيئة معارضة سياسية، فهي صورة طبق الأصل من الحكومات التي تحاربها.

باختصار فإن تحقيق الديمقراطية في العالم العربي يتطلب اتحاد إرادتين، الأولى: إرادة مجتمعية تؤمن بالديمقراطية، والثانية: استعداد النُّخب الحاكمة لقبول التعددية السياسية والفكرية.