حينما ينظر العراقيون إلى أنفسهم بمرآة الآخرين – خاصة بعض العرب – سيجدون صورتهم قد انقلبت إلى نقيضها، فجمالهم قبح، وتاريخهم خيانة وغدر، وصفاتهم تجمع من الموبقات ما لا يوجد عند بشر، الخلاصة من ذلك أنهم شعب لا يستحق الحياة ناهيك بأن يعيش آمناً، وعلى هذا، ورغم انشغال معظم العرب بمشاكلهم الداخلية، إلا أن إرسال الانتحاريين لم ينقطع، وطلب الجنّة بدماء العراقيين، أصبح بمثابة (دين) جديد يتعمد معتنقوه بالدم العراقي.
تلك كراهية لا تعرف حدوداً، تتراكم كأعشاب سامّة تقتلع ما تبقى من سوية بشرية عند أولئك، ولا يتبقى سوى الحقد وحده الذي لا ينتهي إلا بالمزيد من القتل بما لا يمكن تصوره من أساليب.
المشكلة الأخطر في تلك الكراهية، أنها انتقلت إلى بعض العراقيين، فكثف انتحاريوهم من الانغماس بـ(الدين) الدموي وجرد بعض المثقفين أقلامهم لنشره، لتصبح معمودية الدم، طقساً سائداً بديلاً للصلاة.
احد الصحفيين العرب نسب إلى كاتب عراقي في مقال نشره في صحيفة عربية انه وضع ثلاث صفات ملازمة للعراقيين هي: الكذب والزنا والجشع للمال، ذلك قليل من كثير قيل بحقّ العراقيين ومازال، فيما تكاد تختفي الأصوات التي تحاول إظهار ما هو جميل في عراق (لولا وجود الحسين، لاقيمة له) على ما عبّر مسؤول مثقف في العراق الجديد، متجاهلاً ستة آلاف عام من المنجزات الحضارية هائلة العطاء التي علّمت التاريخ كيف ينطق وكيف يكتب أحداثه.
لكن، لماذا يكرهوننا إلى هذا الحدّ؟
سؤال مشابه كان الأمريكيون قد طرحوه بعد الحادي عشر من أيلول، ومن ثم وجدوا له جواباً، فالسياسات الأمريكية المتعاقبة تجاه قضايا العرب والمسلمين بصفة عامة، ربما كانت سبباً رئيساً لكراهيتهم، لكن السؤال ذاته، يطرق الأبواب عندنا من دون تلمس إجابة منطقية تبرر كل هذه الكراهية ضد العراقيين بتلك الدموية المرعبة.
ليس الإرهاب وحده، يمارس كراهيته، فهؤلاء يتبعون منهجاً مغايراً لكل ماهو بشري، وهو خليط من خرافة وعقد وسلوكيات أطلقت الغرائز من عقالها متلبسة بآلهة وثنية أخرجتها من كهوف الجحيم، فباتت وباء يهدد المجتمعات كافة.
لكن المشكلة، أنها إحدى المرات النادرة التي تكاد فيها شرائح متناقضة ومختلفة من نخب ثقافية وإعلامية وسياسية، تضمّ خليطاً من كل ما عرفته مساحة الأرض العربية، أن يجتمع معظمها على مساندة الإرهاب ضد العراق، حيث يتحول خطاب تلك النخب، إلى نوع من أيديولوجيا غرائبية لا تخضع لأحكام العقل في تحديد معالمها، فما هي إذا؟ وكيف يمكن مقاربة مصادرها؟.
كانت سلسلة المجازر المتكررة ضد العراقيين، قد فتحت قوس المفردات التي كانت بين مزدوجين، كناية عن اتضاح طبيعة العدو واستهدافاته التي وصلت إلى العصب الحي، إذ لم تعد الأسئلة تدور حول ماهية هذا العدو والى أين يريد الوصول، بل في البحث عن أساليب المواجهة وكيفيتها وما تقتضيه من أدوات وحشد، فليست المعركة ذات طابع سياسي يمكن من خلاله إرساء قواعد معقولة لإدارة اللعبة، ولا هي انطلاقاً من مختلف مذهبي ضمن معتقدات إيمانية واحدة، يمكن فيها استدعاء المشترك الموحد لتدارك المتعارض المختلف، إنها باختصار مواجهة قاسية مع وثنية أسطورية خرافية تعتاش على القتل والدماء، هذه محصلة يمكن استنتاجها من مقاربة الخطاب التكفيري الإلغائي الذي تنتهجه بعض الجماعات، في تشابهه المتماهي مع الأساطير الوثنية عند حضارات ما قبل الأديان، تلك الأساطير التي تتحدث عن آلهة القتل والدمار ممن لا يهدأ غضبها إلا بتقديم قرابين بشرية تعبيراً عن مقدار شهوتها للدماء.
القراءة في الخطاب التعبوي لتلك الجماعات، لاشك سيحيله إلى موروث أسطوري يعاد إحياؤه بلباس ومفردات أخرى مشابهة، فالإله الذي يهمس لتلك الجماعات بضرورة القتل الجماعي وتتخذ منه راعياً وموجهاً، لا يقارن مع «الله» الغفور الرحيم الذي أرسل أنبياءه وآياته البينات لخير الإنسان وهدايته، بل هو نظير ل «إيرا» إله الدمار البابلي الذي (يقتل الابن فيدفنه أبوه ثم يقتل الأب فلا يجد من يدفنه) كما جاء في الأسطورة البابلية، أو «يهوه» إله التوراتيين الذي لا يتوانى عن الفتك بمن يخالفه، كذلك في «مارس» اله الحرب عند الإغريق الموكل بمهمة كونية تتمثل بإشعال الحروب وإثارة الفتن كجزء من ترتيبات الآلهة تجاه بني البشر.
آلهة الدمار تلك، ترسل تعاليمها وأوامرها بواسطة كهنة متخصصين، و بوكالات حصرية نالوا من خلالها بركات الآلهة ورضا الحكام، الذين تمجدت أعمالهم واكتسبوا صفات قدسية باعتبارهم منفذين لأوامر الآلهة، ومن مواصفات الكهنة المذكورين أن خطابهم لا يمكن رده ولا تجوز مخالفته أو مساءلته،لأن ذلك يشكل كفراً ومروقاً يستوجب الموت، وهذا بالضبط ما يحمله خطاب بعض الجماعات التكفيرية من سمات ومداخل، فهي تحتكر معرفة الله ورسم صورته حسب رؤيتها ومقتضاها، كما أنها تتلقى أوامره وتعاليمه، ومنها الوعد بالجنّة والخلود، شرط الاستعداد لسفك الدماء إرضاء لذلك الإله الوثني المسترجع، وكما أن الكهنة الوثنيين لم يكونوا مستعدين لتقديم أنفسهم هم، بل التضحية بغيرهم، كذلك دعاة اليوم الذين يزينون لبعض الأفراد أن يكونوا قرابين وكبش فداء إرضاء لطموحات أولئك الكهنة.
لكن، إذا كان الكاهن الوثني يلتزم المعبد المخصص للإله المعني، ويقوم بتقديم القرابين بشكل إفرادي ومناسبات خاصة، كما انه لا يطلب الإيمان المطلق من قبل الضحية واستعدادها للموت، فان كهنة اليوم أكثر دهاءً وقدرة على استلاب الإرادات ومصادرة العقول، فهم يسيرون بين البشر متلفحين بخطاب شعاراتي ضخم يتمثل بـ – قتل «الرافضة والمرتدين» وإعلاء كلمة الحق – مصحوبين بأموال طائلة ووسائل تعبئة واتصال متطورة وحديثة مع أدوات قتل هائلة التدمير، وبهذا كله يتحولون من قتال «المرتدين « إلى قتل الدين، ومن إعلاء كلمة الحق، إلى خذلان الكلمة وشرعنة القتل.
لكن هل هذه الجماعات وحدها تتخذ من الأسطورة نهجاً وموجهاً؟ وكيف وصل بها الأمر إلى هذا المستوى؟
من البديهيات المعروفة أن مواجهة الشيء، يقتضي إيجاد ما يناظره أو مشتق منه، وأسطرة المعتقدات الدينية ليست جديدة بحد ذاتها، لكن جدتها تكمن فيما دخل عليها من تقنيات تجعل من مواجهتها أمراً في غاية الصعوبة، فالأسطورة المشتقة من مقولات توراتية هي التي تأسست بموجبها دولة «إسرائيل» وهي من تتحكم الآن في مصائر شعوب وأمم بأكملها نتيجة تداخلها وتأثيراتها المتزايد ة على الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عهد «ريغان» بشكل أخصّ، وقد ازدادت وتيرة الإيمان الأسطوري لما يعرف باليمين المسيحي داخل المجتمع الأمريكي بشكل متسارع بعد سقوط الإتحاد السوفييتي، حيث شكل ذلك السقوط زخماً وصدقية لما كان ينادي به المبشرون اليمينيون من اقتراب معركة «هرمجدون» الحاسمة ضد قوى الشر وطليعتها العرب والمسلمين ومن تحالف معهم.
لقد أشارت الكثير من البحوث إلى أن العداء للإسلام في أوساط اليمين المسيحي على وجه الخصوص، يعود بجزئه الأهم، في أن الإسلام هو المعتقد الوحيد الذي يمتلك «مقولاته» الخاصة عن الخير والشر والمعركة الفاصلة بينهما التي ستنتهي بانتصار ساحق لقوى الإسلام يعم بعدها السلام على البشر، أي أنها مقولة تناقض تماماً الرؤية الأخرى لليمين المسيحي، حيث الاختيار الإلهي سيقتصر على الذين سيعيدون بناء الأرض وإبقاء الحياة ضمن أسس جديدة تكون فيها السيادة كاملة للرؤية التوراتية.
لقد حشدت لتحقيق هذه الأسطورة، كل ما أنجزته العلوم الحديثة من وسائل بطش، بحيث أصبح ما لدى أمريكا من أسلحة قادراَ، ليس على تدمير الأرض وحدها، بل وربما جزء كبير من مجموعتنا الشمسية، في مقابل ضعف القدرات والإمكانيات المادية لدى أصحاب المعتقد المضاد.
وكما تماهى اليهود مع معتقدات آشور وبابل عند سبيهم إليها، وبالتالي تبنوا معظم أساطيرها وبنوا مقولاتهم على أساساتها، كذلك تتبنى هذه الجماعات التكفيرية خطاب اليمين المسيحي وتأخذ منه شكل الإله الذي يحثهم على تدمير كل من لا يتبنى رؤيتهم وتفسيراتهم.
قد تحتاج المقارنات بين طبيعة الرؤية والخطاب التعبوي عند الجماعات التكفيرية في الإسلام ومثيلتها في بقية الأديان، إلى أكثر من مقالة وبحث ابتداء من الاسترجاع التاريخي، فالمعروف أن الأسطورة رافقت الإنسان منذ الوجود الأول له على الأرض، ومن خصائصها أنها تحتمل الإضافة والحذف والتحوير وإعادة الصياغة، خاصة في تناقلها وروايتها وتفسير إسقاطاتها ومعناها، ومع توالي الوقائع والأحداث التاريخية، تكيف الأسطورة نفسها تبعاً لذلك بل وربما استجابة له، فتدخل في سياق المعتقدات الدينية باعتبارها مكوناً أساسياَ من مكوناتها، ومع مرونتها و قابليتها للتكيف وفي إطار منافستها للمعتقد الأصلي ذي المنشأ الديني، تتقدم تدريجياً لاحتلال العقل، حيث تتحول من كونها أسطورة، إلى كونها يقينيات إيمانية مطلقة يعمل على تجسيدها بشتى السبل.
وظاهرة التكفير عرفتها الأديان جميعها، ففي اليهودية شهدت الحقب التاريخية المختلفة، اتهامات متبادلة بين رجال الدين حول مخالفة تعاليم الرب، وفي المسيحية وقعت أحداث كبرى بين أتباع الكنائس المختلفة حيث وصل الاتهام بالهرطقة حد إحلال حرق الآخر المختلف، لتطهيره من الكفر والاتصال بالشيطان، أما في الإسلام، فقد شهد ت معركة صفين الظهور الأول لهذا النوع من الدعوات تمثل بـ «الخوارج»، ومن ثم لتتوالى الفتاوى التي أخذت منحى سياسياَ ً ربطت فيه بين طاعة الله، وطاعة الحاكم باعتبارهما كلاً واحداً، وقد وضعت أساسها الفقهي مقولة «من قويت شوكته وجبت طاعته» من هنا جاءت كلمة « الرافضة» التي أطلقت على الشيعة وحلل فيه استباحة دمهم، كنتيجة رفضهم للحكام الذين اغتصبوا الخلافة من آل البيت الموصى بهم بنص ديني كما هو في المعتقد الشيعي.
الخلاصة، أن التكفير وأسطرة الموروث الديني، هي ظاهرة سياسية بدرجة أساس، تتلبس الدين لحاجتها إلى مشروعية تحرّك وقوة خطاب وإقناع، حيث أن التعاليم الدينية أكثر رسوخاً وثباتاً من القضايا السياسية المجردة، هذا ما تعرفه تلك الجماعات وتستغله أيّما استغلال، وهو ما تظهر نتائجه في العراق، الذي عليه مواجهة تجمع آلهة الموت والدمار الأسطورية، حيث امتزج «مارس» القادم من الغرب «بيهوه» و «إيرا» الشرقيين، ليمارسوا جميعاً لعبتهم الدموية على أرضه وبأجساد شعبه.
لذا لا غرابة أن تتبنى بعض النخب السياسية والثقافية، خطاب الجماعات التكفيرية، على ارض العراق، في إحياء جديد لايديولوجيا تلبس ثوب الأسطورة في مزيج فجائعي.
حينما حوصر البولنديون من أعدائهم، وجّهوا نداء استغاثة إلى شاعر فرنسا الأكبر «فيكتور هيجو» قائلين: النجدة أيها الأخ الأكبر، قل كلمة الحضارة. لكن أطفال العراق، لن يجدوا من يوجهون نداءهم إليه، لإدراكهم بأن بعض ما يفترض أنهم «هيجوات» العرب وبعض العراقيين، قد اصطفوا إلى جانب الهمجية والإرهاب في انبعاث جديد لدين وثني يتغذى من الموت والخراب.