خاص: قراءة- سماح عادل
رواية “راوية الأفلام” للكاتب التشيلي “إيرنان ريبيرا لتيلير” رواية رائعة، تتناول قصة مأساوية لفتاة تدمرت أسرتها، وأصبحت عرضة لخطر العالم الخارجي وهي بعد صغيرة، بعد أن عاشت سنوات من التألق والمحبة من الجميع.
الشخصيات..
الأب : اسمه “ميداردو ماغنو”ويناديه الناس ب” المعلم كاستييو”، عامل بسيط كان يعمل في معسكر من معسكرات مناجم ملح البارود، في منطقة “البامبا” في صحراء “اتاكاما” في “شيلي”، وكانت له أسرة مكونة من زوجة شابة تصغره بأعوام كثيرة وخمس أطفال، تحولت حياته بعد إصابته أثناء العمل، حيث تحول إلى رجل مشلول وقد هجرته زوجته بعد ذلك، وأصبح سكيرا يعتمد في عيشة على معاش للعجزة، ضئيل يكفي بالكاد إطعام أسرته.
الأم: اسمها “ماريا ماغنوليا”، ويناديها الناس “مارتينا”، سيدة جميلة مهووسة بالمسلسلات الإذاعية والسينما، كانت تعيش حياة أسرية تبدو رائعة للناس، لكن وبشكل سري كانت عشيقة لعدد من الرجال في المعسكر، ومنهم مدير الشركة التي تدير المعسكر وهو أمريكي، وحين مرض زوجها هجرته ورحلت مع ممثل مسرح بائس، كان قد جاء في زيارة مع فرقته إلى المعسكر، ووعدها أنه سيجعلها نجمة سينمائية، لتعمل بعد ذلك راقصة وتصل إلى أن تكون راقصة في سيرك فقير.
الأخوة الذكور: ماريانو، ميرتو، مانويل، مارثيلينو هم الأخوة الذين يكبروا البطلة، وكانوا يعيشون معها.
البطلة: “ماريا مارغريتا” طفلة صغيرة، تعيش في ظل أسرة تبدأ في الانحلال، يبدأ الأمر منذ مرض الوالد، ثم تتداعي الأمور حتى تصل إلى مصير حزين، لكن قبل ذلك هي فتاة ذكية ذات مهارات خاصة كان والدها يرسلها إلى مشاهدة السينما، ثم تعود لتروي الأفلام حتى أصبحت راوية للأفلام.
الراوي..
البطلة هي الراوية، تحكي قصتها بعيون الطفلة الصغيرة التي تكبر بتسلسل تصاعدي للأحداث، وتحكي عن باقي الشخصيات من خلال وجهة نظرها هي وتفاعلها معهم.
السرد..
السرد محكم أشبه بسرد فيلم، اللغة سلسة، وتنقل الراوية القراء من أحداث مفرحة لأحداث مأساوية بسهولة وبخفة، وبإيجاز وتكثيف حيث تقع الرواية في حوالي 112 صفحة من القطع المتوسط، لكنها مليئة بكثير من الأحداث والدلالات.
الفقراء بائسون..
الرواية تحكي عن فتاة صغيرة يشاء حظها أن تنتمي لأسرة في طريقها إلى التفكك، تبدأ الفتاة بسرد أيامها الجميلة، حيث كانت أبوها يعمل، وكانت الأسرة تذهب إلى السينما بشكل دوري، تسرح الأم شعور أطفالها وتهتم بهندامهم كما تمشي في سعادة مع الوالد أمام الجميع، والأسرة كلها مستمتعة بالسينما التي كانت بالنسبة لهم، ولسكان المعسكر، وسيلة الترفيه الوحيدة، في مكان مقفر شبه معزول، ليس به أية وسيلة ترفيه أخرى.
وكانت أمها تخصها حين كانت طفلة صغيرة بحكي حكايات رومانسية، وبمشاركتها المسلسلات الإذاعية التي كانت مهووسة بها، كما أنها تتذكر أمها حين كانت تتخايل أمام المرآة وتقلد حركات مشاهير الممثلين، وقد ورثت هذا عن أمها، هوسها بالسينما والممثلين. وحين هجرتهم الأم وأصبح الوالد قعيدا كانت السينما هي منفذ المرح الوحيد بالنسبة لهم، ونتيجة لقلة الأموال قرر الوالد أن يذهب طفل واحد إلى السينما، على أن يعود ليحكي الفيلم لباقي الأسرة، وقد نجحت البطلة في أن تكون هي ذلك الشخص، بعد أن أعطى الأب الفرصة للجميع، وأثبتت هي جدارتها في رواية الأفلام بطريقة جذابة، حتى أنها أصبحت تستعين بملابس من صنعها لتعطي جوا من السحر على روايتها للأفلام.
وأصبح أبوها يدعو أصدقاءه ليشاهدون الطفلة الموهوبة التي تفوقت في رواية الأفلام، ثم تطور الأمر وفكر الأب والإخوة في تقاضي أجر مقابل حضور الناس لمشاهدة أختهم وهي تروي الأفلام، وأصبحت الأمور جيدة، وكانت البطلة تعيش أحلى أيامها، حيث يأتي الناس لمشاهدتها بانبهار، وتربح أيضا من ذلك، ويصفقون لها. حتى أن الموظفين الأغنياء أصبحوا يرسلون في طلبها لتروي لهم الأفلام، هي ابنة العامل التي تعيش في بيت من الصفيح مثل باقي عمال المعسكر.
ثم تنقلب الأمور فجأة وتبدأ سلسلة الأحداث المأساوية حين يطلبها المرابي “دون نولاسكو” لتروي له فيلما ويقوم باغتصابها، وهي على مشارف الثالثة عشر من عمرها، وتبدأ في التعرف على قسوة الحياة التي لم تكن قد اختبرتها بعد، وتحكي لأخوها الأكبر الذي يقتل المرابي بعد أسبوعين من ذلك، ثم تتوالي الأحداث المأساوية، فيموت الأب وهو يستمع إليها وهي تروي فيلما مكسيكيا بسكتة قلبية، ويتفرق شمل الأخوة الذكور، حيث مات أخوها “مارثيلينو” بعد أن صدمته سيارة القمامة، وهجرهم “ميرتو” مع أرملة، وذهب “مانويل” إلى التدرب مع فريق كرة قدم في العاصمة، وعمل ماريانو في الشركة، بعد أن أشفق عليه المدير الأمريكي، أو هكذا ظهر أمام الناس، وألحقه بالعمل بعد موت والده حتى لا يفقدون منزلهم.
وأصبح “ماريانو” يميل إلى الشراب، وتبجح بقتله للمرابي ومن ثم سجن. ثم ظهر التليفزيون وجيء أول تليفزيون إلى المعسكر، وكان أثر التليفزيون سيئا علي البطلة لأنها فقدت عملها الذي يدر عليها أموالا كراوية أفلام، ووجدت نفسها فجأة وحيدة من دون أب ولا أخوة، وفي بيت مهددة بالطرد منه وبدون عملها، وصارت عشيقة المدير الأمريكي، والذي كانت النسوة العجائز أمامها تقلن أنه كان عشيق أمها أيضا، وكانت البطلة في الرابعة عشر من عمرها حين ذاك، حيث جعلها تعمل عاملة تغليف لتحتفظ بالمنزل.
ما يحدث في الخارج بعيد..
وتحكي البطلة عرضا أن هذه الأحداث المأساوية تزامنت مع أحداث أخرى في الخارج لم تكن تخصها، مثل ظهور الهيبيين وصعود الإنسان إلى القمر. ولا تكف المآسي عن المجيء فقد انتحرت أمها مشنوقة على شجرة تين، وقام انقلاب عسكري في البلاد أدى إلى انغلاق الشركة التي تدير المعسكر، ورحل المدير الأمريكي وقيل أنه أعدم بالرصاص، وطردوا الناس ولكنها لم ترحل عن المعسكر، لأنها لن تجد مكان آخر في العالم يأويها، فظلت تعيش في المعسكر المهجور وحدها، تستقبل الزوار الذين يأتون للتفرج عليه، وتعرض عليهم بعد الأشياء التي جلبتها من البيوت المهجورة وتعيش حزنها بعمق..
لكن وقبل النهاية تحكي أن أمها أتت إلى المعسكر، حين كانت هي في الثامنة عشر، جاءت مع سيرك فقير إلى المعسكر، وكانت وقتها البطلة هيي العشيقة الرسمية لمدير الشركة، وكانت أمها في الستة والثلاثين من عمرها، ورفضت البطلة الذهاب إلى السيرك حتى لا ترى أمها، لكن أمها أتت إلى المنزل وظلت تناديها وتطرق على الباب لكنها لم تفتح أبدا.
الرواية رائعة، تصور كيف يعيش العمال الفقراء في معسكرات مناجم الملح في تشيلي، في الستينات من القرن الفائت، وكيف كانت حياتهم بائسة، بالكاد يستطيعون إطعام أنفسهم وأطفالهم ويعيشون بالدين. ووسيلة الترفيه الوحيدة لهم هي سينما بائسة يقوم سكير على تشغيل الأفلام فيها، بآلة عرض قديمة تتعطل أثناء الفيلم عدة مرات، ورغم ذلك كانوا يجدون السعادة في متابعة مشاهير السينما، وكانوا يساندون بعضهم بعضا حتى أنهم كانوا يفتحون البيوت ليلا دون خوف.
كما ترصد الرواية الطبقية التي ينقسم إليها المعسكر، مثل جميع أركان العالم الإنساني المتحضر، فالعمال يعيشون في بيت من الصفيح ضيقة، ويعيشون على أثاث ضئيل، والموظفون يعيشون في بيوت من الطين، في حين أن الأجانب يعيشون في فيلات. وفي النهاية ليس للفقراء سوى الأحلام الوردية غير المحققة والبعيدة.. والبؤس.
الكاتب..
ولد ” إيرنان ريبيرا لتيلير” في تشيلي عام 1950، وكبر في قرية يعمل أهلها في استخراج الملح من المناجم، وسط صحراء “اتاكاما”. نال العديد من الجوائز، من بينهما الجائزة القومية للكتاب بتشيلي لعامي 1994و1996، وكذلك وسام الجمهورية الفرنسية بدرجة فارس في الآداب والفنون، وذلك عن جهوده في سبيل نهضة الفن ونشره في العالم.