لا شك أن فكر الصدرين ( قدس ) يتميّز عن غيره بمميزات جعلته أكثر اقتراباً من مقاصد القرآن و السنة الشريفة فقد كان فكرهما فكر الهوية الإسلامية…..فهو فكر إسلامي خالص من الشوائب نجد فيه التجرد و الموضوعية بصورة جلية وواضحة بحيث يصلح أنموذجا يقتدى به وقد أشار السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) في لقاء الحنانة الجزء الثالث إلى هذا المعنى بقوله (( الدين لا كما يفهمه أهل الدنيا و غيرهم)) و هذه إشارة إلى وجود فهم خاطئ للدين وتحريف لفهم الدين….. فالطاغية يحاول أن يحرف فهم الدين بما يناسب طغيانه وظلمه و كذلك الحال بالنسبة لأهل الدنيا و أهل الفسق و حتى الكفار إلا أنهم جميعاً لا يفهمون الدين حق فهمه و لا يمكن أن يعتمد على فهمهم للدين لأن ومع ذلك نجد الكثير من الناس قد اعتمدوا على هذا الفهم الخاطئ للدين الذي صنعه الطغاة وساسة أهل الدنيا وأهل الفجور والكفر والفسوق…..
وقد ذكر السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) في لقاء الحنانة بحسب المضمون :-
(( أن المعارف التي يهتم بها الدين ثلاثة :
1- الشريعة بما فيها الفقه والأصول.
الثاني : الوعي الاجتماعي و هو إصلاح المجتمع وتوعية الفرد والمجتمع على أساس العقيدة و تطبيق الشريعة و يندرج إقامة الدولة الإسلامية تحت عنوان الوعي الاجتماعي بل هو أحد أهم أهداف الوعي الذي يبدأ بأسلمة المجتمع كي يكون طريقاً لدولة العدل .
الثالث : العرفان. وهذا النوع من المعرفة بحسب ما ذكر السيد محمد الصدر(قدس) في الجزء العاشر من كتاب (ماوراء الفقه) هي المعرفة الأعمق في الأيمان بالعقائد الإسلامية إلا انه غير صالح لعامة الناس أي أن الوعي الاجتماعي لا يمكن أن يكون في نشر العرفان بين العوام بل هذا يكون من الإفساد و لو كان يصح نشره لنشره الرسول و الأئمة ( ع ) بل أن أهل المعرفة يقولون أن عدد الواصلين بنجاح في هذا الطريق لا يتجاوز أصابع اليد .))
وتكتسب الشريعة أهمية بالغة لأن أحكامها هي مصداق للعدل الإلهي ، فالعدالة كما يعرفها الفلاسفة (( أنها وضع الشيء في موضعه المناسب له )) والله سبحانه وتعالى هو خالق الأشياء و هو عالم بها و عالم بمواضعها الواقعية المناسبة لها ، فجاءت أحكام الشرعية مجعولة من الله سبحانه و تعالى طبقاً للمصالح و المفاسد الواقعية فكل حكم شرعي يمثل مصداقاً للعدل الإلهي فالشريعة هي العدل الإلهي الكامل و العدالة الاجتماعية هي تلك الأحكام الشرعية التي تتعلق بالجانب الاجتماعي من حياة الإنسان .
والعدالة الاجتماعية لايمكن أن تتحقق بأسس غير شرعية كالأسس الأرضية التي يضعها البشر ….بل إنها ستكون مصداقاً للظلم الاجتماعي الذي هو أحد أعظم أنواع الظلم البشري كما لا يخفى…. و الشواهد على ذلك كثيرة فالنظام الاجتماعي الذي يحكم البشرية هو مصداق و نموذج للظلم الاجتماعي لأنه استغنى عن الشريعة الإسلامية يعني أنه قد استغنى عن العدل الإلهي وزهد به.
أن الشريعة الإسلامية تتكون من أنظمة متعددة قد تختلف طريقة تقسيمها باختلاف الاعتبارات ، فمثلاً تقسّم الشريعة من حيث مدخلية نية القربة شرطاً أساسياً لصحة العمل إلى :
أ ) نظام العبادات
ب ) نظام المعاملات
و نفس المعاملات تنقسم من حيث المجالات إلى أنظمة اقتصادية و اجتماعية و مالية …….الخ
و هذه التقسيمات لا تعني أن كل نظام منفصل و مستقل عن الآخر و لا يعني عدم و جود التفاعل بين هذه الأنظمة .
أن نظام العبادات يكتسب الأهمية في الشريعة الإسلامية و حيث أن الشريعة هي متفرعة عن العقيدة الإسلامية و لذلك تسمى العقيدة (بأصول الدين )و الشريعة تسمى ( بفروع الدين ) ، وقد صرّح القرآن مراراً متعددة بهذا العنوان الإيمان و العمل ، الإيمان بالله و النبيين و الكتاب و الملائكة والعمل الصالح .
فالعقيدة أو أصول الدين هي موضوع الإيمان و الاعتقاد
و الشريعة و حتى فروع الدين الأخرى هي موضوع للعمل و التطبيق .
نظام العبادات هو من الأنظمة المهمة في الشريعة و هو يتركب من مكونين مهمين :
الأول : النية المخلصة و هي نية القربة لله أو الامتثال لله سبحانه و هذا المكون ضروري و أساسي والإخلال به يبطل العمل العبادي فمثلاً النية غير مخلصة المشوبة بقصد الرياء تبطل العمل العبادي و إذا كانت النية أو نية القربة يدخل فيها قصد العجب فهو مبطل للثواب فلابد من إيجاد النية المخلصة .
الثاني : العمل وهو مجموعة الأفعال و الأقوال و السلوكيات التي يتألف منها العمل العبادي فلابد أن يكون موافقاً لأوامر الله سبحانه و تعالى كالصلاة و الصوم و الزكاة و الجهاد …… الخ ،فكلها عبادات تتألف من الأفعال و الأقوال التي تسمى بالأجزاء على حد تعبير الفقهاء….
و قد يكون الإخلال ببعض الشرائط و الأجزاء مبطلاً للعمل العبادي حتى إذا كانت النية المخلصة متحققة كما في الصلاة فإذا تعمد الفرد في عدم إتيان تكبيرة الإحرام بطلت الصلاة و كذلك زيادة تكبيرة الإحرام أو نقيصتها سهواً أو عمداً فهو مبطل للصلاة و كذلك الحكم بالنسبة لأركان الصلاة الأخرى ، ولو أتى الفرد بالعمل العبادي من صلاة أو صوم طبقاً للشروط و الأجزاء و لكنه أخل في النية أو عمل هذا العمل بدون نية أو بنية الرياء كان العمل العبادي باطل و غير مجزئ و أن كان طبقاً للشروط و الأجزاء التي تتعلق بالعمل .
فالعمل العبادي لا يكون صحيحاً إلا بوجود المكونين النية والعمل و نلاحظ أن النية في نظام العبادات هي الفرق الواضح بين نظام العبادات و الأنظمة الأخرى في الشريعة
و من هنا تكتسب العبادة أهمية بسبب هذا الفرق الذي لا يمكن التسامح فيه بل أن العمل العبادي متقوّم بالنية ، فنظام العبادات يستحق منا التفكر والتدبر فيه من أجل الالتفات إلى رسالته وهدفه وروحه ومعناه.
و قد قدم لنا السيد الشهيد محمد باقر الصدر ( قدس ) في هذا الصدد كتاب((نظرة عامة في العبادات )) و هو رسالة كتبها في ذيل رسالته العملية الفتاوى الواضحة….
ونحن ندعو جميع الإخوة إلى دراسة و تدريس هذا السفر العظيم وكتابة البحوث والدراسات والمقالات على ضوء هذه الخطة التي اختطها السيد محمد باقر الصدر ( قدس )….
و نحن نجد أن الجانب العبادي هو الصفة البارزة في حركة الصدريين(قدس) و حركة السيد روح الله الخميني(قدس) وأيضا حركة الأخ السيد القائد المجاهد مقتدى الصدر(دام عزه)…..
و ينبغي الإشارة إلى الأهداف الرئيسية للعبادة و هي التي يُعّبر عنها بروح العبادة أو معنى العبادة أو قيمة العبادة.
إن العبادة تمثل علاقة الإنسان بربه فالعابد هو الإنسان و المعبود هو الله سبحانه وتعالى .
و هذا يعني أن التقدم العلمي و التقني ليس له دخل في تطور العبادة أو تبدلها أو تغييرها أو إلغائها أو انتفاء الحاجة إليها لأنها ليست علاقة بين الإنسان و الطبيعة لكي تتأثر هذه العلاقة بهذا التطور .
و لكن علاقة الإنسان بربه و خالقه العالم بكل شئ بما فيها المصالح والمفاسد التي يقصر العقل البشري أو أي عقل مخلوق عن إدراكها إدراكا تاماً و حقيقياً .
و هذه العلاقة هي التي تُنظم منظومة علائق الإنسان الأخرى فعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان و علاقة الإنسان بالطبيعة و الكون و حتى المحتوى النفسي للإنسان نفسه أو بتعبير أدق هذا المزيج من العواطف و المشاعر و الأحاسيس و الغرائز و العقل و الفكر التي تتركب منه شخصية الإنسان .
و جاءت العبادة ترسيخاً لهذه العلاقة ( علاقة الإنسان بالله ) بل و تعتبر العبادة الحركة إلى الله سبحانه و تعالى فنية القربة لله تعالى هي حركة نحو التكامل نحو العلم و القوة والقدرة و العدل و حيث أن الله هو الكمال المطلق اللامتناهي فهذه الحركة من قبل الإنسان لا تقف عند حد بل هي سائرة نحو هذا الكمال اللامتناهي و كلما زاد الإنسان قرباً كان نصيبه من درجات الكمال أكثر فالرسول الأعظم بلغ أعلى درجات التكامل (( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى )) (النجم:9)
إن القرب المعنوي والحركة التكاملية من قبل الإنسان ليست حركة قسرية أو جبرية وإنما هي اختيارية و لو كانت قسرية لما تفاوتت درجات التكامل لدى أفراد الإنسان و لأصبحوا جميعهم بدرجة واحدة .
نحن نسمع كلمة تترد على السن الناس و هي أن الكمال لله سبحانه و تعالى الحديث و هذا الكلام صحيح و لكن المقصود من الكمال هو الكمال المطلق(الكمال اللامتناهي) و ليس الكمال النسبي ( الكمال المتناهي) فحينما يصل الإنسان إلى درجة من درجات الكمال هذا لا يعني أن هذا الكمال هو كمال مطلق لامتناهي بل هو دونه بما لا يعد و لا يحصى ولا يقاس بل إن نسبة هذا الكمال إلى الكمال المطلق هي صفر… والكمال كما في اصطلاح أهل المنطق مفهوم كلي مشكك أي يتفاوت ولا يَصدق بدرجة واحدة!!!!
فالعبادة هي الفرصة الأعظم للوصول إلى درجات الكمال…. و هي حركة دائمة نحو المطلق (( أعبدُ الله حتى يأتيك اليقين )) و اليقين ليس درجة واحدة بل هو لامتناهي فيبقى الإنسان عابداً إلى آخر لحظة من حياته .
و هناك علاقة بين العبادة و ظاهرة الاختيار فالإنسان حينما خُلق مختاراً تميز عن باقي الحيوانات والكائنات غير العاقلة كي يكون عابداً كي ينال من درجات اليقين والكمال….
إن ظاهرة الاختيار للإنسان مقدمة ضرورية وأساسية في جعل الخلافة له و هذا الجعل كان سبباً لاعتراض الملائكة أو إشكالهم!!! كما جاء في سورة البقرة ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ )) (البقرة:30) و الذي نفهمه من هذا الحوار أن هذا الاعتراض كان من قبل الملائكة بمقدار علمهم القاصر!!! و إن كان هذا الاعتراض له منشأ انتزاع كما يُعبّر في علم أصول الفقه و هذا المنشأ هو أن الإنسان قد يخطأ في الاختيار فيتجه نحو مصلحته الشخصية وفق ما يظهر له وليس وفقاً للمصلحة و النفع الحقيقي الواقعي إضافة إلى الاختيارات التي تكون تحت توجيه و إمرة النفس الأمارة و شهواتها كما لو يختار الإنسان الزنا أو شرب الخمر مع إدراكه لقبحهما و مفسدتهما و لكنه اختار خضوعاً لسطوة النفس الأمارة و بل يتعدى الأمر أكثر من ذلك بسبب هذه الاختيارات الخاطئة و بالتالي تسوء علاقة الإنسان بأخيه الإنسان فالحروب و الصراعات و الجرائم و الظلم كلها شواهد لتدهور هذه العلاقة و لكنها نتائج لهذه الاختيارات الخاطئة لان الإنسان مختار .
فالإفساد في الأرض وسفك الدماء هي نتائج لظاهرة الاختيار و من هنا جاء اعتراض الملائكة لأنهم انتزعوا هذه الحقائق من واقع الإنسان فكيف يكون في الأرض خليفة وهنا ليس من حق الملائكة الاعتراض وهذا ما أستنكره عليهم السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) في أحد خطب الجمعة وهذا يدل بوضوح إلى درجة اليقين والتسليم عند السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) وأيضاً قوة القلب في إعلان هذا الاستنكار وليس غريباً عنه وهو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم…….
و جواب الله على الملائكة نفهم منه أن اعتراضكم على هذا الجعل هو بمقدار علمكم القاصر لأنه ليس كمالاً مطلقا ومن هنا يمكن أن نتعلم درساً مهماً و خصوصاً في مجال الاعتراض والإشكال سواء كان في طلب العلم أو في الحياة الاجتماعية أن الاعتراض قد ينشأ عن علم و لكن هذا العلم هو بمقدار المعترض و المستشكل و بالتالي لابد من إفساح المجال و إعطاء الفرصة إلى المعترض عليه في الدفاع عن نفسه أما إذا كان المعترض عليه أكثر علماً من المعترض(المستشكل) في نفس المسالة فينبغي الاستماع إلى الجواب وقد يكون هذا الجواب مكملاً لعلم المعترض فقد تكون القضية بين المعترض و المعترض عليه هي تفاوت في العلم لا أكثر ولا اقل…. و قد ضرب لنا القرآن أروع مثال في قصة موسى مع العبد الصالح فقد اعترض موسى ( ع ) على العبد الصالح ( ع ) ثلاث اعتراضات بالرغم من أن الخضر قد نبّه سيدنا موسى ( ع ) بأنه سوف لن يستطيع معه صبراً و العلة في ذلك كما أشار العبد الصالح ( ع ) )وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) (الكهف:68)
و هذا يؤكد أن الكثير من الاعتراضات ناشئة عن قصور في العلم….
إن الله أشار إلى الملائكة بأنه يعلم ما لا يعلمون و هل هذه الإشارة هي مجرد تذكير لهم لشيء هم يعتقدون به أم تعليم لهم ؟
بالتأكيد انه تذكير لهم وإلا يلزم منهم الجهل في المعتقد أي أنهم يجهلون بان الله اعلم منهم و هو مخالف و باطل
فالملائكة تجهل الحكمة الإلهية في جعل خليفة في الأرض و هي حكمت و اعترضت على ضوء المعطيات المنتزعة
من خلال اختيار الإنسان ما هو خطأ أو مصلحة ظاهرية تبتعد عن المصالح الواقعية فالملائكة تجهل حقيقة الإنسان أو أنها لا تدرك ما جعله الله لهذا الخليفة من قابلية و استعداد تؤهله للخلافة …… و لذا جاء في سورة البقرة ((وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )) (البقرة:31) .
ولذلك صح هنا القول أن العبادة تدخل كقانون مقوّم لظاهرة الاختيار لان الله جعل الدين قانونا تتكامل فيه ظاهرة الاختيار و هذا الدين كان تبليغه عن طريق النبوة و هذا القانون مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمعاد فالإنسان المختار حينما يختار سفك الدماء أو الفساد في الأرض أو يختار العمل المخالف للشريعة فيكون مستحقاً للعذاب و العقاب فظاهرة الاختيار ليست جزافية تترك للإنسان أن يختار ما يشاء حتى لو يقتل الناس جميعاً و إنما يبقى مختاراً لأنه سوف يختار بدون أن يجبر أو يفسد!!!! و تأريخ الإنسانية مليء بالقصص و الحوادث التي هي عبارة عن اختيارات عشوائية من قبل الإنسان دون الرجوع إلى مرشد أو موجه أو قانون تنمو فيه ظاهرة الاختيار.
إن الحاضر يعيش نفس مأساة الماضي وكذلك المستقبل ومع ذلك فنحن البشر من الناحية النظرية قامت الحجة علينا فالطريق إلى الجادة متيسر بعد أن بعث الله الأنبياء و حتى من الناحية التطبيقية فالتاريخ قد سجل كيف أن ظاهرة الاختيار حينما تخضع للدين و الشريعة يستطيع الإنسان أن يختار المصالح الواقعية و يترك المفاسد الواقعية فعلى الصعيد الاجتماعي نجد كل ما قام به الرسول الأعظم ( ص ) و ما قام به الإمام علي ( ع ) من أعمال عظيمة هو تجسيد لظاهرة الاختيار التي تخضع لقانونها الإلهي و هو الشريعة….و هو معنى الخلافة الحقيقي التي نجح الرسول محمد(ص)ووصيه علي(ع) في تحقيق العدالة الاجتماعية بدرجة لم تصل إليها الإنسانية لحد هذه اللحظة…..وأما على المستوى الفردي لظاهرة الاختيار عند النبي والأئمة والأولياء فالشواهد لا تعد و لا تحصى… فالتحابب في الله و إغاثة الملهوف و قضاء الحوائج و التفاني و التضحية بالمال و النفس في سبيل الله من اجل عباد الله و من اجل الدين و الوطن و كثير من الأعمال الصالحة التي جسدها المؤمنون خلال القرون المتطاولة من الزمن و لو تلاحظ ما قام به علماءنا المجاهدون من إعلاء كلمة الحق و نشر الحق و الهداية و العدل بين الناس فكلنا لا ينسى ما قام به السيد الشهيد الصدر الأول(قدس) و السيد الخميني(قدس) و السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) والسيد القائد مقتدى الصدر(دام عزه) كل ذلك كان تجسيداً لظاهرة الاختيار التي تخضع لقانونها الإلهي (الدين و الشريعة)
و لا شك كما أسلفنا أن نظام العبادات ( العبادة ) هو العنصر الأهم في هذا التجسيد و هذا التفعيل .
بل أن العبادة هي التي تبعث في نفس العابد الهمة في تطبيق العدل الإلهي عن طريق الامتثال لأحكام الشريعة و هذا هو الاختيار الواعي المرتبط بعلم الله سبحانه و تعالى لان أحكام الشريعة جعلها الله سبحانه و تعالى فهي مرتبطة بالعلم المطلق اللامتناهي فهي تمثل العدل الإلهي لان الله وضع أحكام الشريعة في مواضعها المناسبة لها من مصالح واقعية .
فالعبادة لما كانت منطلقاً لحركة الإنسان نحو المطلق الحق و هي تمدُّ الإنسان بالطاقة المستمرة لهذه الحركة المقدسة
و العبادة هي التي تخلق التوازن للإنسان سواء كان توازناً داخلياً في ذات الإنسان بين قواه المتعددة ( الفكرية و
الشهوية و الغضبية …… ) و كذلك التوازن الخارجي للإنسان مع الأشياء التي هي خارجة عن ذاته…..
والعبادة لا تعطي للتوازن الخارجي الأنظمة التفصيلية بل هي تزوّد العابد بالروح و العاطفة المجيشة نحو المبادئ و القيم الإلهية ، فالإنسان غير العابد لله لا يهتم بتحقيق العدل الإلهي في داخل نفسه و لا في خارجها مما يحيط به وبالتالي سوف لا يهتم بالعدل الإلهي و العدالة الاجتماعية .
فلابد لنا من تسليط بعض الضوء على معطيات العبادة و أهدافها و نحن سوف لا نعدو ما ذكره السيد الشهيد محمد باقر الصدر ( قدس ) بل إن هذه الكلمات هي انعكاس لفكر الشهيدين الصدرين(قدس) الذي نريد أن نبرهن على أن السيد مقتدى الصدر ( دام ظله ) هو تجسيد عملي لهذا الفكر الإسلامي الأصيل و تطبيق رائع و مبدع من قبله ( حفظه الله ) وقد نجح في تجسيد بعبقرية فذة واستيعاب تام لحركة الشهيدين للصدرين الجهادية التي امتدت جذورها بمسيرة الرسول الأعظم ( ص ) والأئمة المعصومين ( ع )
وسوف يكون هذا الأمر أكثر وضوحاً حينما نحاول أن نستعرض أهداف العبادة .
ذكر السيد محمد باقر الصدر ( قدس ) في كتاب نظرة عامة في العبادات ما مضمونه ” أن نظام العبادات يمثل وجه الشريعة الثابت فصيغة العبادة ظلت ثابتة لم تتغير و لم تتأثر بسبب التطور التقني “
و العبادة هي علاج و إشباع لحاجات إنسانية ثابتة لأن العلاج بالثابت يستبطن أن الحاجة ثابتة ……
و قد قيد السيد محمد باقر الصدر هذه الحاجات بالإنسانية أي أنها من مختصات الإنسان العاقل المختار، فهي حاجات تتطلبها ظاهرة الاختيار التي بها صار الإنسان خليفة الله في الأرض…..
و يذكر السيد الشهيد محمد باقر الصدر(قدس) في نفس الكتاب أن هناك ثلاثة خطوط عامة لهذه الحاجات الإنسانية و هي
• حاجة الارتباط بالمطلق : – وهو احتياج النسبي المحدود للارتباط بالمطلق اللامتناهي….بطبيعة الحال أن المطلق هو الله سبحانه وتعالى فالإيمان بالله يمثل هذا الارتباط…ولابد أن لا يكون هذا الإيمان عن تقليد لأن التقليد في أصول الدين لا يصح ولا يجوز وإنما لابد من تحصيل اليقين عن طريق اجتهاد الفرد نفسه…
وكثيرا ما يخطأ الإنسان في إشباع هذه الحاجة ولذلك يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر(قدس) في كتاب نظرة عامة في العبادات ما مضمونه ( أن جميع المشاكل الإنسانية على مسرح الحياة بتعددها و تنوعها لو نفذنا إلى جوهرها نجدها عبارة عن مشكلتين لا أكثر و هي :
المشكلة الأولى : – اللاانتماء الذي تعبر عنه الشريعة بالإلحاد….. إن الإنسان الملحد لا ينتمي إلى المطلق الحق أو لأي شيء نجده حراً يفعل ما يشاء يقتل و يجرم و قد يؤدي به الأمر إلى الانتحار فعدم الانتماء يعيق حركة الإنسان التقدمية يجعله كريشة في مهب الريح….
المشكلة الثانية : – الغلو في الانتماء و هو بالحقيقة تحويل النسبي إلى مطلق مزيف عن طريق الغلو في الانتماء لهذا النسبي….فالمال أو العلم أو القبيلة أو شئ آخر نسبي يتطلب انتماء نسبي من قبل الإنسان ولكن الإنسان قد يغلو بهذا الانتماء إلى درجة يتحول هذا النسبي إلى مطلق مزيف (صنم) وهذه المشكلة عبرت عنها الشريعة بالشرك…
و هاتان المشكلتان هما السبب في نشوء هذا الكم الكبير المتنوع من المشاكل على مسرح الحياة الاجتماعية و حتى الفردية و الشخصية ……
و لكن الدين يرشد الإنسان إلى فطرته التي تدعوه إلى الارتباط بالمطلق الحق سبحانه و تعالى ، فالمطلق الحق اللامتناهي حينما يربط والإنسان مسيرته به فسوف تكون حركة الإنسان نحو المطلق الحق حركة جهادية ضد كل ظلم و كل جهل و كل عجز وكل ضعف لأن المطلق الحق هو الكمال المطلق الذي كله عدل وعلم وقدرة وقوة….
و من خلال هذه الحركة التكاملية يرتقي الإنسان بدرجات الكمال اللامتناهية و كلما طرق الإنسان أو المجتمع درجة من درجات الكمال انفتحت أمامه درجات لا متناهية من الكمال….. فالعبادة دورها هو ترسيخ هذا الارتباط بالمطلق(الإيمان بالله) لان بالعبادة يرتقي الإنسان والمجتمع تلك الدرجات ” أعبد الله حتى يأتيك اليقين ” و حيث أن درجات اليقين لا متناهية و بالتالي سوف تكون العبادة و الحاجة إليها حاجة ضرورية ومستمرة و العبادة هي تمثل علاقة الإنسان بربه و هذه علاقة لا يصـح و لا يصدق عليها مفهوم الغلو بالانتماء لأنها علاقة النسبي بالمطلق و نسبة النسبي المتناهي إلى المطلق ( اللامتناهي ) هي صفر
إن مفهوم الغلو بالانتماء يصدق بين النسبي المتناهي و النسبي المتناهي الآخر….
إن علاقة الإنسان بربه لها دور تربوي في توجيه علاقة الإنسان بأخيه الإنسان ( النسبي بالنسبي ) و بالتالي سوف تعالج هذه العلاقة ( الإنسان بربه ) التي تمثل الارتباط بالمطلق الحق سبحانه وتعالى تعالج مشكلة الإلحاد ” اللانتماء ” من جهة و مشكلة الشرك ” الغلو بالانتماء ” و بالتالي سوف يتم القضاء على كل المشاكل التي كانت بسبب هاتين المشكلتين (الإلحاد والشرك أو اللاانتماء والغلو بالانتماء)
و علاقة الإنسان بالله سبحانه وتعالى تزداد رسوخاً و عمقاً من خلال العبادات التي يشترط أن تكون عن نية مخلصة…..
و حيث أن درجات الإخلاص و اليقين متفاوتة بالشدة و الضعف بالتالي سوف يختلف العطاء سعة و ضيقاً …..
أن الارتباط بالمطلق هو التوحيد بنفسه فالشريعة طرحت شعار ” لا اله إلا الله ”
و من خلال العبادة يترسخ و يتعمق هذا الشعار…..
فالعابد الموحد أو الموحد العابد نجده يجسد التوحيد في تصرفاته و مواقفه ….. و حيث أن هناك درجات متفاوتة في اليقين و الإخلاص كذلك هناك درجات أيضا متفاوتة بالشرك فهناك شرك صريح و شرك خفي
بل أن هناك درجات من الشرك الخفي لا يصرّح بها العرفاء لأنها
أولاً : لا يمكن إدراكها إلا بدرجة عالية من العبادة و اليقين و بالتالي رفضها و نفيها….
ثانياً : قد يكون أخبار عامة الناس بها يؤدي إلى نتائج سلوكية سلبية و هذا هو الحد الفاصل بين الظاهر و الباطن.
و من هنا يتضح أن الإنسان يختلف في درجات التوحيد و الإخلاص بالرغم من كون صيغة العبادة ثابتة واحـدة و نلاحظ أيضا أن الدرجات العليا في الإخلاص و اليقين التي تكون من معلولات العبادة تكون من حصة القلائل !!!!!
و أما سائر الناس يكتفون بأقل من ذلك و هذا الفرق هو الذي يجعل بعض الأفراد قادة و الآخرين رعية صالحة… فالسيد المجاهد مقتدى الصدر(دام عزه) بما يمتلك من إخلاص في العبادة ويقين في الإيمان والعقيدة فقد أستحق أن يكون القائد الجدير الكفء الفذ في هذه المرحلة الصعبة… وفي هذا الامتحان الإلهي للإمة…. و قد يتساءل البعض عن دليل هذا اليقين ؟
و لا يحتاج الجواب إلا شيء من الأنصاف فالشواهد كثيرة على هذه الدرجة العالية من التوحيد فالسيد مقتدى الصدر(دام عزه) تصدى للشيطان الأكبر المتمثل بالولايات المتحدة وأعوانه من الكيان الصهيوني وبريطانيا (الثالوث المشؤوم)…..
إن توحيد الله يأمر الموحد برفض كل الأصنام صغيرها و كبيرها حتى يصدق القول و العمـل ” لا اله إلا الله ” و كذلك الدنيا و الرئاسة و المنصب بعد أن علمنا أن هناك عروض كثيرة و مغريات للسيد مقتدى الصدر(دام عزه) في أن يدخل في مجلس الحكم أو الجمعية الوطنية لكننا نجد أن السيد القائد و بسبب يقينه العالي كان يردّد كلمات جده الحسين (ع ) (( و الله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل و لا أفر فرار العبيد )) و السيد مقتدى الصدر ” حفظه الله ” في عز شبابه و حرارة الشباب مليء وجدانه …. لكنه يرفض كل الأصنام مردداً ” لا اله إلا الله “….
إن عبادة السيد مقتدى الصدر(دام عزه) المخلصة هي التي جعلته قائداً فذاً …..
وشاهد آخر نود الإشارة إليه و هو أن السيد مقتدى الصدر(دام عزه) قد سبق المجتمع بالوعي و اليقين و حدد موقفه تجاه المحتل منذ اللحظة الأولى و لم ينخدع بالمحتل من جهة و لم يخاف من المحتل بالرغم من قوته و جبروته و تسلّطه و السبب في ذلك هو خوفه من الله سبحانه وتعالى و من خاف الله أخاف منه كل شيء و قد رأينا كيف خافت أمريكا و جيوشها من صور السيد القائد مقتدى الصدر(دام عزه) المعلقة على الجدران!!!!! و كانت الفجوة بين يقين السيد مقتدى الصدر(دام عزه) و مستوى الأمة كبيرة خصوصاً أن الأمة قد فقدت قائدها الشهيد السيد محمد الصدر ( قدس ) مما أدى إلى تناقص ذلك الوهج الإيماني الذي أوجده السيد الشهيد محمد الصدر(قدس)….
فقام السيد مقتدى الصدر(دام عزه) بحكمته و بما يتمتع به من يقين ووعي بتربية الأمة و الارتفاع بها إلى المستوى الذي يؤهلها إلى تحمل المسؤولية كأمة….. فكان ما كان في الجمعة الرابعة عشر التاريخية كانت تلك اللحظة تمثل نقطة البداية للإمة و الدرس الأول الذي تتعلمه من أستاذها المجاهد مقتدى الصدر(دام عزه) و خلال هذه الفترة بدأت الفجوة تتقلص شيئا فشيئاً إلا أنها ستبقى لان السيد مقتدى الصدر(دام عزه) أيضا خلال عمله الجهادي يزداد يقيناً ووعياًكما لا يخفى …..
و المراد من كلامي أن الأمة بعد أن خضعت لتربية السيد مقتدى الصدر(دام عزه) و بعد ارتفاعها ووضوح الرؤية لها تجاه المحتل و استعدادها لتحمل المسؤولية التي تتطلبها المرحلة نجدها قد تفاجئت بالسيد مقتدى الصدر(دام عزه) عندما تحدى الطاغوت الأكبر حين اصدر بيانه الشهير مطلع نسيان من العام 2004 الذي أعلن من خلاله الجهاد الدفاعي ضد المحتل فكانت كلمته الشهيرة أرهبوهم هي من أعظم الكلمات… و هي أوضح دليل على درجة الوعي والإخلاص واليقين لهذا القائد….ومع ذلك نجد أن الكثير من أنصار السيد مقتدى الصدر ( قدس ) قد بكوا كثيراً بالرغم من تحملهم المسؤولية و لكنهم تصوروا أن هذا الأمر يعني نهاية السيد مقتدى الصدر(دام عزه) وبعد الجهاد الدفاعي المقدس أُجبر المحتل على طلب الهدنة و تنازل عن كل مطالبه الباطلة ….. ماذا يدل هذا الأمر ؟ بوضوح على يقين السيد مقتدى الصدر(دام عزه) فبهذا اليقين يرى أمريكا مجرد قزم صغير حقير و مجرد أسد على ورق إلا يكفي هذا دليلاً و كاشفاً عن ما نستطيع إدراكه لليقين والإخلاص الذي يتمتع به السيد القائد المجاهد مقتدى الصدر (دام عزه) كيف لا يكون كذلك وهو قد تربى على يد والده السيد الشهيد محمد الصدر(قدس)….
و بالتأكيد أن هذا اليقين هو الذي جعله قائداً صالحاً في زمنٍ ندر فيه القادة المخلصين و ما الصلاة على محمد التي يصليها المؤمنين و التي في ذيلها الدعاء للسيد مقتدى الصدر إلا دليل على هذا التأييد و التسديد الإلهي و من خلال هذا الكلام تبين لنا أن أهم معطيات العبادة و الذي هو التوحيد بدرجته العالية هي التي بلورت الجانب المهم من شخصية السيد المجاهد مقتدى الصدر(دام عزه)
أن الارتباط بالمطلق الحق و الذي يعتبر الخط المهم من الحاجات الإنسانية له دور في تحقيق الخطين الآخرين من الحاجات و هي
1. الموضوعية في القصد و تجاوز الذات
2. الشعور الداخلي بالمسؤولية كضمان للتنفيذ
1-الموضوعية في القصد و تجاوز الذات
أما الموضوعية هي الاهتمام بالمصالح العامة التي تتجاوز المصلحة الشخصية والأنا …..
و قد قال السيد الشهيد محمد الصدر (قدس) في أحد خطب الجمعة ما مضمونه( أن المرجع لا بد أن يكون مهتماً بالعدالة الاجتماعية و المصالح العامة و أن ينصف الناس من نفسه….. )
و لا يتم هذا الأمر إلا بعد تجاوز الذات أن الموضوعية بالقصد تستلزم العمل بدون أن يفكر العامل بالمصلحة الشخصية المؤقتة بل لا بد أن يكون كما يعبّرون شمعة تحترق من أجل الآخرين….
وهذا الأمر نجده متجسداً في شخصية السيد القائد مقتدى الصدر(دام عزه)
فهو لحد هذه اللحظة بل و حتى في المستقبل لم نجده قد اهتم بمصلحة شخصية بل نجده يضحي بكل شيء حتى براحته وصحته من أجل أهداف أعظم و مصالح كبرى و هذا شيء طبيعي بعد أن عرفنا و لو بالشيء القليل عن توحيده و يقينه ……
و العبادة تقوم بترسيخ المقصد الموضوعي وتجاوز الذات كما في عبادة الجهاد و الخمس و الزكاة …. إن السيد مقتدى الصدر(دام عزه) ساهم في تربية الأمة على تجاوز الأنانية و الذات والاهتمام بالمصالح العامة والأهداف الكبرى..
و ما أحياءه لعبادة الجهاد و استجابة الكثير من المؤمنين و نيل العديد منهم درجة الشهادة و التضحية بأعز شيء في سبيل الله و نصرة دين الله و أولياء الله إلا دليلاً على تلك التربية الرسالية الرشيدة …..
نلاحظ أن معطيات العبادة بلورت شخصية القائد و القائد ساهم في بلورة هذه المعطيات لما يحتله القائد من موقع اجتماعي مؤثر على نفوس الناس ووجدانهم كما هو واضح و أكيد فيكون نصيب المجتمع من هذه المعطيات من جهتين:
الجهة الأولى : ممارسة الناس للعبادة كل حسب استعداده و استحقاقه
الجهة الثانية : فيوضات السيد القائد للأمة من معطيات العبادة فتكون الأمة قد تلقت هذه المعطيات بصورة واضحة مما يؤدي إلى أحد أمرين:
الأمر الأول : زيادة درجات العبادة بالنسبة للمؤمنين الممارسين للعبادة…
الأمر الثاني : و بالنسبة لأفراد الأمة الذين لا يمارسون العبادة تكون هذه الفيوضات سبباً في توبتهم و بالتالي ممارستهم للعبادة و تمسكهم بها و قد ينالون الشهادة كما حصل في انتفاضة السيد مقتدى الصدر ( دام عزه )
فالتفاني و الإيثار و التضحية بالمال و بالنفس و بالمصالح الشخصية هي مصاديق للموضوعية في القصد و تجاوز الذات…..
و قد ذكرت في بحث ” منهج الشريعة التربوي في حركة السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) ” أن الموضوعية في القصد و تجاوز الذات تلعب دوراً مهماً في تنظيف القلب و سلامته و تزكية النفس و بالتالي الجهاد الأكبر و الذي يريد أن يسيطر على شهواته و نزواته و نفسه الأمارة بالسوء لا بد أن يعمم الموضوعية في القصد و تجاوز الذات في كل تصرفاته بل لا بد أن تشمل حتى المباحات و الأحكام الترخيصية أي أن العمل حتى إذا كان جائزاً من ناحية شرعية فمن اجل تحصيل التزكية للنفس و سلامة القلب و السيطرة على النفس الأمارة بالسوء لا بد من ترك العمل في المباحات إذا كان الترك ينطبق عليه عنوان الموضوعية و تجاوز الذات بل أن بهذا الانطباق يكتسب الرجحان و هو موافق للرجحان الأخلاقي و من هنا يتضح دور العبادة لأنها توجه العابد نحو تحقيق الموضوعية و بالتالي الاهتمام بالمصالح العامة و الأهداف الكبرى التي بتحققها تنجح الحياة في الأرض لان العدل و العدالة سوف يسودها و ينتشر على ربوعها …..
2-الشعور الداخلي بالمسؤولية كضمان للتنفيذ وللتوضيح أقول انه لابد من فرض النظام والأمن والأمان والاستقرار ولابد من وجود القانون و النظام الذي يرتكز على العدل الإلهي و الذي تعتبر الشريعة الإسلامية من مصاديقه المهمة و القانون عبارة عن منظومة من الحقوق و الواجبات…. والواجبات اغلبها تتطلب سلوك موضوعي يتجاوز الذات و قد قلنا أن العبادة تضمن هذا الأمر من خلال تربيتها للعابد على الموضوعية في القصد و تجاوز الذات و الحقوق هي تتمثل في الدنيا في الأمن و الأمان و الاستقرار الاقتصادي و محاربة الفقر و المرض و الجهل …..
و لكن يحتاج أي نظام إلى نوعين من الرقابة لا يمكن الاستغناء عنهما:
أولا ً : الرقابة الخارجية : – و هي رقابة وظيفتها ضبط سلوك الأفراد من الخارج و في الأغلب تعتمد على القوة في فرض النظام و معاقبة المخالفين و ضمان سير القوانين كما في قوات الأمن و الشرطة و المرور و الجيش….. الخ و هذا النوع من الرقابة و الحماية ضروري خصوصاً في بداية المجتمعات اقصد بداية تطبيق الأطروحة العادلة الكاملة و ذلك بسبب عدم تجسد معطيات العبادة على كل أفراد المجتمع و لو فرضنا أن 90 % من الناس تحققت في نفوسهم معطيات العبادة و هذا الفرض لحد الآن لم يصل إليه أي مجتمع تكون 10 % تحتاج إلى رقابة خارجية لأنها من الممكن أن تهدد النظام و الاستقرار و لكن هذا النوع من الرقابة توجد فيه نقاط ضعف منها أنها حينما تعتمد على القوة فالذي لديه قوة موازية يستطيع التمرد عليها أو على من لديه حيلة و علم يستطيع أن يتحايل على القانون و يفلت من العقاب لعدم توفر الأدلة الدامغة التي تدينه و كذلك نفس الأفراد من ضمن هذه الرقابة يحتاجون أيضا إلى تربية و إلى معطيات العبادة و خصوصاً الشعور الداخلي بالمسؤولية و الموضوعية لأنه رجل الأمن إذا كان غير موضوعي ليس لديه شعور بالمسؤولية فسوف ينحاز نحو أقربائه أو أصدقائه أو نحو المال و الرشوة التي تقدّم له من قبل الخارجين عن القانون بل قد يكون رجل الرقابة من أعداء المجتمع و القانون و بالتالي سوف يؤدي إلى ارتباك في أداء الرقابة فمثلاً حصل أن انقطع التيار الكهربائي في أمريكا لمدة دقيقة أو أكثر و النتيجة حصلت الآلاف الجرائم لماذا ؟ لان أجهزة الرقابة تعتمد على الكهرباء مثل الكاميرات و غيرها…..
و الحل والعلاج دائماً و أبدا لا بد أن ينضم إلى الرقابة الخارجية نوع آخر من الرقابة ….
ثانياً : الرقابة الداخلية أو رقابة الضمير و هذا الأمر لا يتحقق في الفرد إلا من خلال العقيدة و الشريعة فالشريعة ترشدنا إلى الإيمان بالله المطلق الذي لا ينام و لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في الأرض و لا في السماء و هو اقرب إلينا من حبل الوريد و هو يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور و هو يدرك الأبصار و لا تدركه الأبصار…….
و العبادة ترسخ في النفس العابد الشعور بهذه الرقابة…..والنية هي عبارة عن هذا الشعور نحو هذه الرقابة التي لا يمكن استغفالها أو خداعها أو مواجهتها بالقوة أو التمرد عليها و الجانب الغيبي في العبادة يرسخ الاستسلام و الانقياد لله سبحانه وتعالى فالفرد العابد لا يحتاج إلى رقابة خارجية فهو لا يخالف القانون الحق القائم على العدل الإلهي سواء انقطع التيار الكهربائي أو لم ينقطع …..وسواء وجدت رقابة خارجية أم لم توجد….
و العبادة هي التي تجعل الفرد العابد يتحلى بالمواطنة الصالحة لان المواطنة الصالحة كما يرى السيد الشهيد محمد باقر الصدر ( قدس ) ليس مجرد عدم مخالفة القانون بل هي شعور داخلي بالمسؤولية و هذا الشعور يكون ضامناً لتنفيذ القانون لان القانون كلما وجد ضمانات للتنفيذ يكون نجاحه اكبر و المجتمعات المسلمة لا تحتاج سوى القوانين التي تقوم على أساس العدل الإلهي لأنها سوف ترتكز على المحتوى العبادي بما فيه من معطيات قد تجسدت لدى أفراد كثيرة من المجتمع و خير شاهد على ذلك ما نشاهده من قيام جيش الإمام المــهدي ( عج ) و المؤمنين من تطوع من أجل تنظيم السير وتنظيف و حماية الناس ليلاً ونهاراً ومحاربة المخربين والمجرمين والمفسدين مجاناً و بدون مقابل وعلى العكس من ذلك نجد أن البعض من رجال الأمن و الشرطة و المرور يقصرون في واجباتهم التي يأخذون راتب شهري عليها و نقول البعض و ليس الجميع لأنه يوجد منهم الكثير من المخلصين بسبب المحتوى الروحي الناشئ من معطيات العبادة .
فلا نستغرب أن يتصدى الكثير من أفراد مجتمعنا المؤمن من اجل هذه الأعمال وهم يتحملون حرارة الشمس وحتى شتائم بعض الناس الجهلة المتدنين أخلاقيا …. لان هؤلاء الذين يتصدون قد تربوا على يد العبادة فأصبحوا موضوعيين في مقاصدهم ويشعرون بالمسؤولية شعورا داخلياً….
ونأتي نطبق هذا النوع من معطيات العبادة الذي هو الشعور الداخلي بالمسؤولية على شخصية السيد القائد مقتدى الصدر(دام عزه) وقد قلت في كلمة بعنوان ” الوطن في عيون سيد مقتدى ” وكانت هذه الكلمة قبل الانتفاضة المسلحة وهي مخطوطة ما مضمونة أن السيد مقتدى الصدر(دام عزه) اتجه اتجاها وطنياً فنجده يطالب بحقوق جميع العراقيين وجميع المستضعفين وهذا الاتجاه لم يكن وليد الصدفة أو الظروف التي يمر بها البلد العزيز بل أن هذا الاتجاه هو تجسيد عملي لمعطيات العبادة وبالخصوص الشعور الداخلي بالمسؤولية لأنها تخلق في نفس العابد المواطنة الصالحة فالسيد القائد مقتدى الصدر(دام عزه) هو مواطن صالح بل هو المواطن الأصلح لهذا البلد العظيم وهذا التجسيد كشف عن الدرجة العالية والعمق الحقيقي لعبادة السيد مقتدى الصدر ( حفظه الله ) وقد أنتج نتائج طيبة أهمها زيادة في التوحد بين أبناء العراق وزيادة في التحابب فيما بينهم فنجد العراقي يدافع عن أخيه العراقي في أي مكان في الرمادي والعمارة والنجف ويصلون معا في مكان واحد…..
ونحن في آخر الكلام نرجو المعذرة من الله سبحانه وتعالى أولا ومن السيد مقتدى الصدر(دام عزه) لاحتمال أن نكون قد قصرنا في حق هذا السيد المجاهد الذي يحبه المؤمنون المتقون ويكرهه الفاسقون والكافرون .