17 نوفمبر، 2024 10:46 م
Search
Close this search box.

عندما يتكلم الجندي المجهول

عندما يتكلم الجندي المجهول

الحلقة رقم – 4 –
قال أحد ألأكراد:
…” توقفوا..فلناخذ جنوده معه”. وبسرعة البرق قفز ثلاثة منهم وراحوا يدفعوننا بوحشية..وهم يقولون:

…” تعالوا معنا..تعالوا معنا”. كان معنا جنود من وحدات مختلفة.سرنا خلف آلآمر وقد احاط بنا ألكراد من كافة الجهات. سرقتُ النظر الى وجه آلآمر فوجدته مرعوبا مضطربا خائفا جدا وكأنه يعاني سكرات الموت.ومما زاد الطين بله قفز احد الاطفال صارخا بانتصار:

…” نعم..نعم..هذا هو النقيب باسم..أنا متأكد مئة في المئة إنه النقيب باسم”. وكان هذا الطفل قد دق المسمار ألأخير في نعش النقيب المسكين. صاح أحد ألأكراد بزهو:

…” آه..إذن أنت النقيب الذي كنا نبحثُ عنه..حسنا سنعرف كيف نتعامل معك”. إزداد ذعر النقيب وراح يصرخ بأعلى صوته:

…” إسألوا جنودي..لم أفعل لكم أي شيء..كنتُ رحيما معكم. أرجوكم إتركونني ..لدي عائلة وأطفال ينتظرونني”. لم تؤثر تلك التوسلات في قلوب الرجال المدججين بالسلاح. كان قلبي يتفطر عليه حزنا وألما.لم أكن أصدق أن ذلك النقيب الجسور يتوسل اليهم بهذه الطريقة المأساوية.قبل يوم واحد..كان أسدا ً جسوراً وذئباً شرساً لايصغي لأي ضابط من ضباطه ولايعرف الهدوء والراحة أبداً. يتنقل بأحدى السيارات المدنية ــ نوع سوبر بيضاء اللون ــ. .من موقع الى آخر..يسأل عن هذا الموقف وذلك الوضع حتى ساعة متأخرة من الليل. يرفع أكمام بدلته العسكرية الى مافوق كوعه وكأنه يسخر من برودة الطقس وتساقط ألأمطار الغزيرة. يجوب الشوارع الرئيسية والطرق الضيقة. بين فترة وأخرى يجلب هذا الرجل وذاك الشاب ويضعهم في أحد الصفوف الدراسية التي إتخذ منها سجناً للوحدة العسكرية التي كان هو آمرها. لقد كان سجن الوحدة قد إمتلأ بأفراد مدنيين وعسكريين من مختلف الوحدات ألأخرى.أي جندي لايحمل إجازه رسمية أو ورقة عدم تعرض يُلقي القبض عليه ويودعه السجن. وفي الليل يبدا بالتحقيق معهم بدقه وكأنه مدير إحدى الدوائر ألأستخبارية الخاصة. كنتُ أخشاه وأهابهُ بشكل عجيب على الرغم من طريقته الودوده معنا، وبالذات معي على الرغم من الفترة القصيرة التي قضيتها معه في نفس الوحدة. كان يعتقد أنني لستُ جندياً عادياً كباقي الجنود. ضحك يوماً ما في وجهي وهو يقول:

…” هل أنت حقاً جندي إحتياط ..أم أن ألأستخبارات العسكرية في بغداد قد أرسلتك للتجسس علي؟”. حينما أكدتُ له صدق قولي ، ضحك بخبث وهو يقول:” من أرسلك للخدمة في هذه الوحدة العسكرية المزعجة؟ إن أثقف جندي عندي راسب في السادس ألأعدادي..هناك سر ما في حالتك..ستكشفه ألأيام..”.

عندما أقسمتُ له بأنني لستُ حسب ماتخبرهُ بنات أفكاره عني إبتسم قائلاً:

…” حسناً هيأ نفسك غداً..ستخرج معي غدا في دورياتي الليلية لتفقد السيطرات الخاصة بوحدتنا..كي أر مدى صلاحيتك لجواجب كهذا”. دون تفكير قلتُ له :

…” حاضر سيدي لك ماتريد”. عندما عاد الى غرفة المديرة حيث إتخذ منها مقراً لهُ، نظر الي جعفر الذي كان يرتدي دائما ملابس القوات الخاصة بأعتباره الحمايه الدائم لذلك النقيب وقال مبتسماً:

…” لماذا لاتقول له الحقيقة وتريحه؟ سيقدرك كثيرا”. نظرتُ اليه بذهول تام وقلتُ:

…” ـ أي إعتراف وأي حقيقة التي يبحث عنها السيد آلآمر؟ هل هناك ثمة شيء خافٍ عني؟ ماذا تريد أن أقول له؟” ضحك بصوت مرتفع وهو يقدم لي سيكارة وسارع الى إشعالها بطريقة ودودة. :

…” قل له أنأ رجل مخابرات وجئتُ لأخدم فترة وجيزة هنا كي أطلع على سير ألأحداث في هذه المنطقة الخطرة”. إرتجفت السيكارة في يدي وشعرتُ بحرقه شديدة في بلعومي لذلك الحديث الصريح من جانبه.هل هذا حقا ما كان يدور في ذهن السيد آلامر عني؟ أنا مجرد جندي مجهول بسيط في هذا العالم الملتهب . والحقيقة شعرت بالأعتزاز والفخر والكبرياء لتلك الصفة التي أطلقها علي..وتمنيتُ بكل صدق أن يكون ماأطلقه علي حقيقة. لايهم كل إنسان يخدم وطنه وأرضه من موفعه الذي يصلح لأدائه. ليس المهم أن يكون كل الناس—مخابرات—ولايهم أن يكون كل الناس آُمراء أو أطباء أو مهندسين أوطيارين أو مدراء عامين…المهم أن يخدم ألأنسان وطنه بأخلاص وتفاني ضمن نوعية وسياق العمل المناط به. من يدري قد يكون هناك عامل بلدية صغير مخلص لأرضه ووطنه أكثر بكثير من قائد عسكري.نظرت اليه دون أن أنبس ببنت شفه، وبعد لحظة صمت قليلة قلت له” حسنا سأذهب لأخذ قسطا من النوم”………………………………………………

إستمر المشهد المأساوي يسير تحت اشعة شمس آذار والهواء البارد نسبيا ونحن نجتاز حشود ألأكراد من مختلف ألأعمار الذين إحتشدوا على جانبي الطريق ينظرون الينا بطريقة غريبة وكأننا مخلوقات بشرية مشوهه جاءت من كوكب آخر. توقفنا قليلاً وسحب ألأكراد السيد آلآمر المسكين الى الجهة اليسرى وأمرونا بالتقدم الى ألأمام. فجأة سمعت صرخة مرعبة. دون وعي إلتفتُ الى اليسار. كانت رقبة النقيب باسم قد قُطِعَتْ بسكين حادة وتدحرج الرأس على ألأرض وسالت الدماء كسيل عارم وطوفان هائج. تيار كهربائي أحرق كل عصب من أعصاب جسدي الذي كان يرتعش…أحسست أن الموت قد أصبح على مسافة قليلة مني. إذن هذه هي نهاية ألأنسان قد تكون في غفلة غير متوقعة..هذه نهاية الطموح وألامل وكل شيْ. أخذ الرجال المدججين بالسلاح يدفعون موكبنا كأننا سبايا في حرب تاريخية قديمة.كانت اقدامنا تتعثر بسبب الخوف والحزن على مشهد ذلك النقيب….

عادت ذاكرتي الى الوراء بسرعة البرق وتذكرته حينما كان يخطب فينا في صحراء الكويت ويتحدث عن تمزيق ألأمريكان..ولم يحدث شيء من هذا القبيل..لقد مزق أبناء البلد رقبته في لحظة لم تكن في الحسبان.كان أحد الجنود الذين يسيرون معنا يتقن اللغة الكردية. نظر ذات اليمين وذات الشمال كأنه يبحث عن شيء مفقود أويبحث عن حل لمشكله كان قد سمعها من الحوار الدائر بين ألأكراد الذين كانوا يتحدثون بصوت مرتفع. قرأت ما كان قد إرتسم على وجهه وقلت له بسرعة وبصوت هامس:

…” ماذا بك؟ هل حدث شيء؟”. نظر الي وقد سيطر عليه رعب تام وقال بصوت منخفض:

…” ذلك الرجل المسلح يقول لزميله فلنعدمهم عند ذلك الجدار إنهم عبا ثقيل علينا. فلنتخلص منهم.ماذا سنفعل بهم إذا وضعناهم في سرداب المدرسة؟”, كان كلامه بمثابة مطرقه حديدية هوت فوق راسي. شعرتُ بدوار شديد.كادت روحي أن تخرج من بين جوانحي. لم اصدق ما كنت قد سمعت. دون وعي قلت له:

…” لاتهتم إن الله معنا..وماتدري نفس بأي أرض تموت…كل نفس ذائقة الموت….لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا…لاتترجم للباقين أي شيء مما تسمع..فنحن في حالة يرثى لها..”. ورحتُ أقرأ أيات من القران الكريم وأتضرع الى الله أن ينقذنا من هذه المحنه العصيبة.ولاح لي من بعيد شبح زوجتي وهي تقول لي في إحدى المرات حينما كنت التحق الى البصرة أثناء حرب الثمانينات…” إنتبه لنفسك.. لا تجعل مني أرملة..أين سأذهب بعدك؟ كيف سأربي ألأطفال؟ ” ياالهي لقد تحقق ماكانت تقوله لي دائما. يوماً ما قالت لي بأنني لن اقع في ألأسر كوني جندي غير مسلح..وفي حساباتها الخاصة ..الجندي غير المسلح لايقع في ألأسر لأنه لايقاتل في خطوط النار ويبقى في الخطوط الخلفية فقط..لنقل العتاد والمؤونه. كنتُ اضحك من كلامها الساذج وأتذكر بعض القصص التي قرأتها عن الحرب العالمية وكيف أن مئات من المدنيين كانوا قد وقعوا في ألاسر—أطفال وشيوخ ونساء—ولم يحملوا بندقية لقتال ألأعداء.حينما تحل كارثة ببلد فأن ألأخضر واليابس يتأثر بتلك الحالة. وإذا بالزمن يدور عليها وعلي…وفي غضون سنة واحدة أتحول من جندي غير مسلح الى مسلح..وأشترك في معركة “أم المعارك” التي كان صدام يُطلق عليها هذه التسمية..وكان من ألأجدر به أن يسميها ” معركة أم الهزائم”. وها أنا أقع أسيراً عند أبناء البلد الواحد الذي ننتمي اليه جميعا.يالها من مهزلة تاريخية. شعباً يؤسر شعبه ..وأبناء بلد واحد يقاتلون بعضهم البعض.

أمرونا بالتوقف عند حافة الجدار وتشاور ألأكراد المسلحين فيما بينهم ونظر الجندي الذي يجيد الكردية..غمزت ُله بطرف عيني أن لايتفوه بشيء. أحسستُ أن النهاية قد إقتربت. حاولت أن أفكر بشيء جميل كي أنسى احلامي وسكرات الموت التي كانت تسحقني بشكل لايوصف. حينماإستندتُ الى الجدار شعرتُ أن الزمن توقف..ياالهي كم أن الموت صعب حينما يكون بهذه الطريقة البشعه. بسرعة البرق أخرجتُ سيكارة وضعتها في فمي بعد أن أشعلتها ثم وضعت يدي خلف ظهري كي أستند عليها. أغمضت عيناي ورحت أحلم بأصدقائي في دائرة ألأعلام الخارجي..أستقرأ الزمن الغابر بكل تفاصيله. الغريب أن عائلتي لم تخطر على ذهني في تلك اللحظة الجهنمية. كانت الدمدمات التي يطلقها ألأكراد فيما بينهم تؤثر على خيالي الذي سرح بعيدا. تلاشت ألأصوات القريبة وذبتُ في عالم جميل. تذكرت كل تفاصيل عملي المدني السابق.. حينما رافقت عشرات الصحفيين ألأجانب والعرب بعد اليوم ألأول من تحرير الفاو وكيف كان الجيش العراقي قد فعل الشيء المستحيل لتحرير ألأرض..كانت معركة تاريخية سطر فيها الجندي العراقي أروع وأعظم ما يمكن أن يسطره ألأنسان في التاريخ الحديث. وكيف كان الموقف صعبا بالنسبة لي عندما سحق أحد الصحفيين ألألمان لغما عند حافة الشارع وسقط على ألأرض يصرخ بأعلى صوته من شدة ألألم بعد أن طارت قدمه في الفضاء.

وأنا منغمر بلحظات الخيال البعيد التي كنت أحلق فيها سمعتُ صوتا مرعبا وبلهجة عربية غير جيده يزمجر في الفضاء:

…” تحركوا ..سنضعكم في سرداب تلك المدرسة لحين قدوم أحد المسؤولين ليقرر ماذا نفعل بكم”.

ونحنُ نسيرجنبا الى جنب كخرفان مرهقه تُقاد الى المجزرة إقتربتُ من الجندي الذي يجيد اللغة الكردية وسألتهُ باضطراب:

…” ماذا حصل؟ ” وبلهجه سريعة مضطربه قال هامسا”

…” لقد إختلفوا فيما بينهم. بعضهم يقول فلنتخلص منهم ونعدمهم والبعض ألأخر يقول فلننتظر لحين قدوم مسؤول ليقرر ذلك”. يبدوا لي أنهم لايعرفون حتى مسؤولهم فكل واحد يتصرف على هواه. حينما شارفت الساعة على الواحدة ظهرا كنا أكثر من خمسة وخمسون رجلا جالسين في سردابٍ سفلي لأحدى المدارس ألأبتدائية. غرفة كبيرة نسبيا لاتزال فيها الدواليب الخاصة لخزن الكتب. جلسنا على ألأرض متلاصقين ينظر بعضنا للبعض ألأخر بصمت. كان كل من أحمد وجعفر يجلسان الى جانبي وقد ظهر على وجه كل واحد منهما غموض تام وحيره مطلقه.لاأدري لماذا راودني شعور غريب هذه المره..شعور بالسعادة الدفينة. كنتُ أردد مع نفسي” ربنا الذي أنقذني من صحراء الكويت المرعبة قادر على إنقاذي من هذا السرداب المرعب”. بين فترة واخرى كانت مجموعة من ألأكراد تدخل علينا وهم مدججين بالسلاح…لهم لحايا كثيفة. تقدم أحد المسؤولين وقد ظهرت على وجهه علامات الغضب والقسوة. وقف في وسط السرداب واضعا يديه في حزامه وبدأ يدقق النظر في وجه كل واحد منا..بعدها قال بصوت أجش:

…” إذا كان أحدكم لديه رمانه يدوية او اي سلاح فليلقيه أمامي فوراً. سنفتشكم جميعا..أن وجدنا شيئا من هذا القبيل لدى أي شخص فأن حياته سوف تتحول الى جحيم.”. لم ينبس أحد منا ببنت شفه. خيم صمت مخيف على وجوهنا جميعا. كانت القلوب تدق بعنف..وألأعصاب ترتجف بخوف. بعد التفتيش خرجت المجموعة دون أن تعثر على أي شيء. تنفسنا الصعداء وأحسسنا بنفحة جديدة من الحياة تنسل الى ارواحنا المضطربة ونفوسنا القلقة على الرغم من أن الخطر لازال محدق بنا.

يحل الليل وتزحف جيوشه السوداء الكئيبة لتعم المكان وتبدأ مأساة جديدة لاتنتهي. كانت تلك الليلة بالنسبة لي من أصعب الليالي التي عشتها خلال سنواتي ألاربعة والثلاثون. شاهدتُ في حياتي مآسي كثيرة ومررتُ بظروف يمكن أن أطلق عليها بالزمن الصعب..بيد أنني لم أشاهد عذابا كعذاب تلك الليلة. كان السرداب مظلماً خالياً من اي بصيص للنور. لم تكن لدينا أي وسيلة إضاءه أخرى. تركونا بلا ماء..بلا طعام..وشيء أخر صعب جدا..زبلا مرافق صحية. حينما شارفت الساعة على التاسعة ليلا صرخ أحد الجنود بأعلى صوته جعل جسدي يرتعش من التأثر عليه:

…” إخوان..إخوان..إنقذوني..لدي إسهال شديد جدا.ساموت ألأن من ألألم..حاولوا أن تجدوا لي مرافق صحية بأي ثمن”. صدرت أصوات مكتومة ودمدمات كثيرة من بين البؤساء القابعين في الظلام. أحدهم يقول بسخرية وبلهجة عامية” هسه هي وكته”..ومعناه هل هذا هو الوقت المناسب؟ . وشخص آخر يقول” ماذا نستطيع أن نفعل لك؟ كلنا في حاجة ماسة الى المرافق الصحية. حاول أن تتحمل الى الصباح”؟. بدون سابق إنذار نهض أحد الرجال الشهامى حقاً وصرخ دون أن أميز وجهه في الظلام الدامس.

…” لاتهتم ياأخي..سوف أرتب لك الحال”. وقفز الى زاوية السرداب البعيدة حيث كان يجلس فيها رجال مكتظين. قال بأدب:

…” عفوا تحولوا الى الجهة ألأخرى سوف نبني مرافق صحية هنا”. دون أن يعترض احد منهم على طلبه نهضوا وتحسسوا طريقهم في الظلام وإنتقلوا الى الجهة ألأخرى وبعضهم يسحق قدم هذا ويتعثر بجسد ذاك.ظل يبحث خلف الدواليب المدرسية..يفتح هذا الصندوق ويفتش في صندوق آخر..الى أن صرخ بفرحٍ غامر وكأنه كان قد وجد ما كان يرمي اليه:

…” هذه الصفيحة المعدنية سوف تكون مرافقنا الصحية لهذهِ الليلة الجهنمية .

يتبع ……..

أحدث المقالات