18 ديسمبر، 2024 11:22 م

محنةُ آلفكر ألأنسانيّ(4)

محنةُ آلفكر ألأنسانيّ(4)

قبل آلبدء: أعترف بأنّ  معرفة مفهوم (ألثقافة) ألذي هو نتاج آلفكر؛ بحثٌ موسّعٌ و عميقٌ للغاية, قد يكون له بداية .. لكن من دون نهاية, لكن ما لا يُدرك كلّه لا يترك جُلّه, و لا بُدّ لي كوارث للفكر ألأنسانيّ من آدم(ع) و إلى اليوم؛ بيان ألأبعاد و آلأسس و آلجذور و آلمعالم ألثقافية الأساسيّة على الأقل و أثرهُ المباشر على مسير و مصير المجتمع البشريّ الذي يُواجه بشكل فضيع ضروباً من الظلامات و المحن بسبب الحُكام و  الأنظمة التي دمّرتْ ألثقافة و آلقيم لأستحمار النّاس و هضم حقوقهم, و هو موضوع .. معرفتهُ في كل الأحوال يهمّ كلّ أنسان يبغي الحقّ و العدالة لتحقيق آلسّعادة!

قلنا سابقاً, إذا كان (إدوارد تايلور) العالم البريطاني الأنثروبولوجي الشهير أوّل من اقترح تعريفاً مفهومياً للثقافة، فهو ليس أوّل من إستخدم هذا المصطلح في علم ألأنسنة أو الإناسة anthropology, و هو نفسه كان في استخدامه لهذا المصطلح, يستخدم كلمة kultu ؛ متأثراً مباشرة بعلماء  ألأناسة الألمان الذين قرأ لهم،  لا سيما غوستاف كليم G.Klimm , بمعنى موضوعي كان يميل إلى آلثقافة الماديّة و هو ما كان مخالفاً للتقاليد الرّومانسية الألمانية.

ساهم (تايلور) في تدعيم العلاقة بين (الثقافة) و (الأنثروبولوجيا)، بحيث أصبح من غير الممكن النظر إلى الثقافة دون العودة إلى الأنثروبولوجيا التي قدّمت أجود تعريف للثقافة، و هو التعريف الذي اشتهر به (تايلور) في عصره و ما بعد عصره، و حقّق به إنجازاً معرفيّاً استفادت منه الأنثروبولوجيا في تعزيز مكانتها بين العلوم الأجتماعية الأخرى.

و بهذا التعريف برهن (تايلور) أن الأنثروبولوجيا في عصره كانت الأقدر من بين العلوم الاجتماعية على تكوين المعرفة بالثقافة؛ حيث قدّمت تعريفاً من الممكن القبول به، و التوافق عليه عند معظم المشتغلين بالدراسات الاجتماعية و الثقافية، و هذه كانت من أصعب المهام التي واجهت العلوم الاجتماعية و الإنسانية، و تناغمت فيما بينها حول هذه المهمة العسيرة من حيث الضبط و التحديد، و بقيت هذه المهمة شائكة و معقدة خصوصاً بعد محاولة التفكير في تجاوز التعريف التايلوري.

معظم آراء (تايلور) حول الثقافة جاءت في كتابه الذي صدر عام 1871م بعنوان (الثقافة البدائية), الذي ليس فقط أحدث دوياً في الأوساط العلميّة و الأكاديميّة على حدّ تعبير لويس دوللو، بل ما زال هو المرجع الأفضل في معرفة الثقافة!

و حين حاول (دوللو) عرض التطور التاريخي لمفهوم الثقافة؛ وصفه بالتطور البطيء، حيث يحتاج العودة إلى الأزمنة القديمة التي تبدأ في المناهج الأوربية الحديثة من العصر اليوناني القديم الذي خلالها بدأت الأرهاصات الأولى، و بهذه العودة التأريخية يرسخ مفهوم المركزية الأوروبية، مروراً بآلعصور الوسطى ثم آلأزمنة اللاحقة، التي ساهمت في تطوير مفهوم الثقافة، التي إنبثقت منها وصفاً آخر سميّ؛ بالمرحلة الاجتماعية، حيث إرتبط فيها مفهوم الثقافة بمفهوم المجتمع.

أول تعريف تايلوري للثقافة:

[هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة و العقائد و الفن و الأخلاق و القانون، و كل القدرات و العادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع].

و هذا النص هو أكثر نصّ إشتهر به تايلور، و هناك الكثير من الكتّاب و المثقفين ألذين لا يعرفون حقيقة تايلور، وعن كتابه المعروف الذي أشرنا له .. إلا هذا التعريف الذائع الصّيت، الذي لا يخلو منه كتاب يتحدث عن الثقافة، أو يقترب منها, لعدم ترجمة كتابه للعربية إلا مؤخراً، و غالباً ما يرجَّح هذا التعريف على غيره من التعريفات الأخرى، و بالذات في الكتابات العربية.

أهمّ محاور تعريف تايلور للثقافة:

– الثقافة من المفاهيم الكلية و ليست من المفاهيم الجزئية، فهي ذلك الكل كما قال عنها تايلور، و الكلي و الجزئي من مفاهيم المنطق، و أهل المنطق يعرِّفون الكلّي بكونه المفهوم الذي لا يمتنع صدقه على أكثر من واحد، و أمّا الجزئي فهو المفهوم الذي يمتنع صدقه على أكثر من واحد.

و هذا يعني أنّ الثقافة من المفاهيم التي لا يمتنع صدقها على أكثر من واحد، سواء كان هذا الواحد من أقسام العلوم، أو من أقسام الآداب، أو من أقسام الدِّين و الأخلاق، و ذلك بخلاف الجزئي الذي يتحدّد و ينحصر في عنصر واحد، و يمتنع صدقه على أكثر من واحد.

– الثقافة من المفاهيم المركبة، و ليست من المفاهيم البسيطة فهي ذلك الكل المركب حسب عبارة تايلور, و المركب يطلق على المفهوم الذي يحتوي أجزاءً و عناصر متعددة، و البسيط يطلق على المفهوم الذي يفتقد لتلك الأجزاء و العناصر المتعددة.

أيّ أن المركب يتقدم وجوداً و فاعلية بتلك الأجزاء و العناصر، و البسيط يتقدم وجوداً و فاعلية بذاته دون الحاجة لتلك الأجزاء و العناصر المتعددة. و المركب لا يكون كاملاً بذاته إلا بانضمام أجزائه و عناصره المكونة له. و الثقافة بهذا المعنى هي ذلك المركب من أجزاء و عناصر، و لا تتحقق وجوداً وفاعلية إلا بتعاضد تلك الأجزاء و العناصر.

– ألثقافة هي الكُلّ ألمركّب الذي يشتمل  المعرفة و العقائد و الفن و الأخلاق و العرف و القانون، و كل القدرات و العادات الأخرى, و هذا يعني أن الثقافة ليست علماً؛ لأنها لو كانت علماً لتحدّدت في نطاق ذلك العلم، و بصورة لا تخلو من صرامة، بحيث يمتنع عليها تجاوز الحدود التي يفرضها و بصرامة قانون العلم, و لأن الثقافة ليست علماً لذلك شملت المعرفة و العقائد و الفن و الأخلاق و القانون و غيرها.

– الثقافة عملية اكتسابية، أي ما يكتسبه الإنسان, و الاكتساب مفهوم يقابل التوريث أو الانتقال الجبري و الطبيعي، و له خاصية التأثر و التأثير, بمعنى أنّ الثقافة هي عملية اكتساب عبر وسائط التربية و التعليم و التنشئة، و عبر جميع طرائق التفاعل الاجتماعي، و ليست عملية انتقال فطري أو غريزي، أو عبر طرائق المورثات البيولوجية.

و هذا ما أكده الدكتور (أبو زيد), من أن كل العلماء الذين تعرّضوا لمشكلة تعريف الثقافة، يعطون أهمية كبرى لعناصر التعليم أو الاكتساب، و يبعدون عنها كلّ ما هو غريزي أو فطري أو موروث بيولوجي.

– الثقافة مفهوم يرتبط بالمجتمع، فهي الصّفات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع, و الاكتساب من المجتمع عملية مستمرة لا نهاية لها و لا توقف، و تحصل بوعي أو دون وعي؛ برغبة أو دون رغبة؛ و من الصغر إلى الكبر, لهذا أصبحت الثقافة تُدرّس و تُعرَّف في نطاق علاقتها بالمجتمع، و في الدراسات الأنثروبولوجية أصبحتْ تُربط بمفهوم التراث الأجتماعيّ .. ألمفهوم ألذي يعني أنّ علاقة الثقافة بالمجتمع هي علاقة تفاعل قديمة، و تمتد إلى أجيال متعاقبة.

و يرى (حامد أبو زيد) أيضاً؛ أن من خصائص الثقافة في الدراسات الأنثروبولوجية هي خاصّية الاستمرار, و هذه الخاصية تابعة بالضرورة – كما يقول أبو زيد نقلاً عن لينتون, لكون (الثقافة هي التراث الاجتماعي الذي يرثه أعضاء المجتمع من الأجيال السابقة، فالسمات الثقافية لها قدرة هائلة على الانتقال عبر الزمن.

هذه آلتحليلات تعتبر أول محاولة لتحليل و تفكيك العناصر و المكونات المتعلقة بتعريف تايلور للثقافة من جانب، و بين العلاقات بين تلك العناصر و المكونات من جهة أخرى، أمّا النظرة التركيبية لهذا التعريف فهي النظرة الغالبة على اهتمام الكتَّاب و الباحثين.

و آلثّقافة, تمثل طريقة الحياة في كل مجتمع، و بعبارة أخرى؛ هي التركيب الكليّ لنمط الحياة الذي يتعدّد و يختلف من مجتمع لآخر.

و هذا التعريف هو الذي انتهى إليه (إليوت) أيضاً في ملاحظاته نحو تعريف الثقافة، بإدراك منه إلى أنَّ هذا التعريف ينتمي للأنثروبولوجيا التي لها طريقتها في النظر و التحليل البرهاني و الاجتماعي، فقد ظل إليوت يقلِّب النظر تفكيكاً و تركيباً؛ تنوعاً و توحداً, في محاولة منه لتعريف الثقافة، و انتهى إلى تأييد القول الذي يرى؛ أن الثقافة هي طريقة الحياة في المجتمع، و حسب قوله:

[إنّ أوّل ما اعنيه بالثقافة؛ هو ما يعنيه الأنثروبولوجيون, أي طريقة حياة شعب معين، يعيش معاً في مكان واحد, و هذه الثقافة تظهر في فنونهم، و في نظامهم الاجتماعي، و في عاداتهم و أعرافهم، و في دينهم].

و (إليوت) الذي حاول أن يُكوّن تعريفاً للثقافة يستقل به، وجد نفسه يتناغم مع تعريف الأنثروبولوجيين للثقافة, و يُظهر التأييد له, و ليس (إليوت) وحده الذي انتهى إلى مثل هذه النتيجة فحسب .. و إنما كثيرون غيره أيضاً.

و قد ظلّ ذلك التعريف التايلوري مؤثراً و حاضراً في العديد من التعريفات المطروحة للثقافة, و نجد له بعض الأثر حتى في التعريف الذي قدمه (مالك بن نبي) للثقافة، لو حاولنا القيام بعملية فحص و مقارنة دقيقة بينهما، و هكذا في تعريفات أخرى.

و ظل مفهوم (تايلور) للثقافة يزداد تعمقاً من دون أن يضاف له أيّ عنصر جوهري هام حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي.

من أهمّ القضايا المركزية التي كشفها تعريف (تايلور)؛ هو العلاقة بين الثقافة و المجتمع, حيث لا يمكن للفرد أن يعيش منعزلاً عن الجماعة التي سيتحمل بوعي منه أو دون وعي تأثيراتها عندما لا يجري هو نفسه ورائها.

يعتقد (دوللو)  بأنّ نظرية (تايلور) تنحدر في خط مستقيم عن تقاليد (روسو) و (ديدرو)، و من قبلهما عن نظرية (أرسطو) الذي كان يرى في الإنسان حيواناً إجتماعياً خلق ليعيش في المجتمع.

و قد اعترف (تايلور) على حد قول (دوللو): أنه لم يجدد تماماً في نظريته، و أنه يدين بشكلٍ خاص لِكتاب الألماني (كليم) المؤلف من عشرة مجلدات، و هو بعنوان؛ (التاريخ العام للثقافة البشرية), الصادر بين عامي 1843 و1852م، و هكذا الإشارة لكتاب (ألثقافة و الفوضى) لمؤلفه الإنجليزي ماثيو أرنولد، و الصادر قبل عامين من صدور كتاب تايلور، أيّ في عام 1869م.

و يرى (دوللو) أنّ الإضافات المهمة على نظرية تايلور في الثقافة، ظهرت في القرن العشرين من أمريكيين و فرنسيين و إنجليز و ألمان، حيث كانت لهؤلاء إسهامات لا تُنكر على حدّ تعبير دوللو.

فقد وضع علماء الأجناس، و علماء اجتماعيون من أمثال (إلفن لويس كروبير) و (كلايد كلوكوهن) حوالي عام 1921م, عدة تعاريف إضافية للثقافة تختلف بعضها عن بعض, و حصل ذلك – حسب تعليل (دوللو)- نتيجة التقدم السريع لعلم أشكال الإنسان، و لأن فكرة الثقافة اندمجت في علوم أخرى ترجع بشكل خاص إلى العلوم الإنسانية و السياسية.

و الجدير بالإشارة أنّ (كروبير) و (كلوكوهن) أنجزا معاً دراسة نقدية في عام 1951م حول الثقافة، تضمنت ما يزيد على مائة و خمسين تعريفاً لكلمة الثقافة، وردت في الكتابات الأنثروبولوجية و الاثنرلوجية و السيوسيولوجية التي ظهرت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.

و هذا يكشف عن مستوى التطور الكبير الذي حصل في الدراسات الأنثروبولوجية و الثقافية و الاجتماعية حول فكرة و مفهوم الثقافة، لدرجة بات من الصعب الإحاطة التامّة بكل هذه المفاهيم و التعريفات.

إنّ التطور الذي يصفه (دوللو) بالانطلاق الهائل لمفهوم الثقافة في الأزمنة الحديثة، الانطلاق الذي يزعزع كل يوم القاعدة المكتوبة التي تحتبس فيها هذه الكلمة، و تبسيطها المذهل، كلّ ذلك صار أيضاً مصدراً دائماً للتباين و الاختلاف.

كان التردد عند تايلور بين كلمتي (ثقافة) و (حضارة) سمة من سمات  سياق تلك الفترة, و إذا فَضّل في النهاية استخدام كلمة (ثقافة) فذلك لأنه فهم أن كلمة (حضارة)، حتى بمعناها الوصفي البحت، تفقد طابعها كمفهوم فاعل حينما نطبقها على المجتمعات (البدائية) بسبب أصلها اللغوي الذي يرجع إلى تكوّن المدن، و بسبب المعنى الذي اكتسبته في العلوم التاريخية حيث  تدل فيها على المنجزات المادية التي كان تطورها ضعيفاً في تلك المجتمعات.

يعتبر (تايلور) أنّ للثقافة، حسب تعريفه  الجديد، فضيلة .. ذلك  أنها كلمة حياديّة تسمح بإمكانيّة التفكير بالبشرية كلها و الانفصال عن بعض مقاربات (البدائيين) الذين كانوا يرون فيهم كائنات مختلفة!

كان يؤمن بقدرة الإنسان على التقدم، و كان يشترك في هذا مع الفرضيات التطوريّة التي كانت سائدة في وقته, لكنه لم يؤمن بمفهوم الوحدة النفسانية للبشرية التي كانت تُفسّر التشابهات الملحوظة في المجتمعات الشديدة التباين, و كان يُؤمن بأنّ العقل البشري يعمل في الشروط المتشابهة بشكل واحد في أيذ مكان, و أنضم إلى المفهوم العالمي للثقافة الذي نادى به فلاسفة القرن الثامن عشر.

المشكلة الرئيسية التي كان (تايلور) يُحاول حلّها، عبر تفسير واحد،  هي المصالحة بين تطور الثقافة و بين عالميّتها, في كتابه (الثقافة البدائية) ألذي سرعان ما ترجم إلى الفرنسية عام 1876م, (و هو كتاب قيل أنه يؤسس للأنسنة كعلم مستقل), حيث يتساءل فيه عن (أصول الثقافة) كعنوان في الجزء الأول من الكتاب المذكور, و عن آليات تطورها.

و كان أوّل عالم إناسيٍّ(إنثربولوجي) يتطرق فعلاً إلى الوقائع الثقافية ضمن هدف عام و منتظم, و كان أول من اهتم بدراسة الثقافة في كلّ أنماط المجتمعات و في مختلف أوجهها  المادية و الرمزية و حتى الجسدية.

بعد إقامته في المكسيك، وضع تايلور منهج دراسة تطور الثقافة من خلال النظر في الآثار الثقافية الباقية survivances , في المكسيك، تمكن من ملاحظة التعايش بين أعراف الأسلاف و بين السّمات الثقافية الحديثة، و كان يظن أنه من خلال دراسته للآثار الباقية يستطيع العودة إلى المجموع الثقافي الأصلي و من ثم إعادة بنائه, و من خلال تعميم هذا المنهج المبدئي وصل إلى خلاصة مفادها:

[أن ثقافة الشعوب البدائية المعاصرة كانت تمثل عموماً الثقافة الأصلية للبشرية, و هذه الثقافة هي بقايا المراحل الأولى للتطور الثقافي، و هي مراحل مرّت بها ثقافة الشعوب المتحضرة حتماً].

كان منهج النظر في الآثار الباقية يستدعي منطقياً، إعتماد المنهج ألمقارن الذي أدخله تايلور في علم anthropology, الإناسة, و أن دراسة الثقافات الفريدةsingulières ما كان لها أن تتم بدون مقارنتها مع بعضها، لأنها كانت ترتبط فيما بينها داخل حركة التقدم الثقافي نفسها, و من خلال المنهج المقارن، حدّد لنفسه هدف إقامة، على الأقل،  سلم،  و إن كان غير دقيق، لمراحل تطور الثقافة.

كان يريد البرهنة على الاستمرارية بين الثقافة البدائية و بين الثقافة التقدمية, خلافاً لمن قالوا بوجود انقطاع بين الإنسان المتوحش الوثني و بين الإنسان المتحضر التوحيدي، فقد انهمك في البرهنة على الرابط الأساسي الذي كان يوحد الأوّل بالثاني الذي لم يكن قادراُ على الاقتراب منه إلا لفترة محدودة, لا يوجد فارق من حيث الطبيعة بين البدائيين و آلمتحضرين، إنما في درجة التقدم في طريق الثقافة, و أصرّ (تايلور) بحماسة ضد النظرية القائلة بانحطاط البدائيين، و هي نظرية”متوحشة” أيضاً, مستوحاة من اللاهوتيين الذين عجزوا عن تصوّر الله بكونه خالق الكائنات, و قد سمحت هذه النظرية بعدم الاعتراف بأنّ البدائيين كائنات بشرية مثلها مثل الكائنات الأخرى, و خلافاً لذلك، فهو يرى أن البشر كلهم كانوا كائنات ثقافية تماماً، و لا بد من تقدير مساهمة كلّ شعب في تقدم الثقافة.

إذاً،  نرى أنّ الاتجاه التطوري عند تايلور، لا يستبعد أيّ معنى من معاني النسبيّة الثقافيّة، و هو ما كان نادراً في عصره, لكن مفهومه للثقافة لم يكن منضبطاً و متيناً: إذ لم يكن مقتنعاً تماماً بوجود تواز مطلق بين التطور الثقافي لمختلف المجتمعات, لذا فقد وضع في بعض الحالات، فرضية  انتشارية, فمجرد التشابه في السّمات الثقافية بين ثقافتين مختلفتين, غير كاف للبرهنة على أن هاتين الثقافتين كانتا تحتلان المكان نفسه على سلم التطور الثقافي، إذ كان من الممكن أن تنتشر و تؤثر إحداهما على الأخرى.

على وجه العموم، كان تايلور متحفظاً في تأويلاته, و هذا دليل إخلاص لموضوعيته العلمية.

و نظراً لأعماله و اهتماماته المنهجية فإنّ إدوارد تايلور يعدّ مؤسس الأنثروبولوجيا حقّاً, و بسببه تمّ الاعتراف بأنْ يكون هذا العلم فرعاً معرفياً جامعياً, و في عام 1883 أصبح أول أستاذ لكرسي الأنثروبولوجيا التي درّسها في جامعة أكسفورد البريطانية.