أزعم أن ثمة نبؤة سومرية، قد كتبها احدهم، يتحدث فيها عن مجموعة هائلة من السكان، يأتون بعدهم بعد مرور الاف السنين، كي يضيعوا هذه البلاد، التي لطالما تمثل حقبة من حقب الازدهار التي لن يعود اليها مطلقا. سوف يدفعون بها نحو الجحيم، يكشف في هذه النبؤة السومرية التي لم تدونها الرقم الطينية، ولا علماء الاثار، عن خراب يأكل الاخضر واليابس على هذه الارض.
وبالتأكيد سوف لن نجد اي مخلَص لنا، لو كنا نعتقد بان هناك ثمة منقذ ينجينا من هذا الخراب الذي نحن فيه، ولادة الازمات المتكررة بهذه الصيغة سوف لن يبقى اي كائن بشري بكامل قواه العقلية في هذه الارض، فيما يهرب الباقون نحو المجهول، ربما أزمة المياه التي قد نقبل عليها الان او فيما بعد، تكشف لنا حجم اللامبالاة والخيبة والموت الذي ينتظرنا.
واعتقد أن محاولة كتابة سيناريو قاتم ولحظات اليمة عن المستقبل الذي ينتظرنا، سيكون قاصرا في ايصال الصورة الكاملة عما سيجري لنا بعد عشر سنوات او ربما عشرين سنة أو أكثر، حينها ستختفي هذه الاهوار التي لطالما غنينا فيها ورقصنا فوق مياهها الخلابة ونحن نسمع أغنيات الجنوب الموجعة، رأينا كيف تلون الطيور سماء تلك المدن على مدى سنوات، وشاهدنا كيف انها كانت تشكل بيئة استثنائية كان من الممكن ان تكون محط انظار العالم لو لا الفساد والاهمال الذي ساهم في تجفيفها وقبلها كيف فعلت بها الانظمة القمعية.
ستتحول هذه الاهوار الى صحاري قاحلة، وسيهاجر السكان بحثا عن الماء والعشب، ستختفي هذه الانهر الجميلة التي كانت تطرز مدن الجنوب، حيث كنا لا نهتم بها، عبثنا طويلا واسرفنا وبذرنا بها، سنشاهد تلك الانهر كيف ستصبح اراضي جافة ووعرة، ستتشقق الارض كأقدام رجل مسن، هجرتها الحياة وتيبست وستصبح هكذا الى الابد.
مثلما كنا نتذكر كيف كانت مياه نهر الغراف على سبيل المثال، تغطي اغلب تلك المدن، سنشاهدها تحتضر، هذا النهر الذي شقه الملك السومري ملك لكش “انتمينا” بعد صراع طويل مع مملكة اوما، بحسب ما يذكره المختصون في الاثار، لينقذ بذلك بلاده، لنعود نحن بعد الاف السنين، لكي نهدم ما بناه الانسان العراقي القديم، ولنقفل سيرة التاريخ التي تسمي العراق ببلاد الرافدين، ونفتح سيرة اخرى بأسم، “بلاد وادي الحرامية”، العراق سابقا.
وبعد ان تجف وتموت، سيأتي جهبذ من جهابذة الاسلام السياسي لكي يقترح تحويل ذكرى هذا النهر الى شارعا عاما ويقوم بتعبيده مثلما يشاء، مع اقرب فرصة انتخابية، ولتتحول هذه الذكرى لعنة ترافق اجيال زمن الجفاف والخراب.
اما نحن “المكاريد والمعدان” والذين لا مأوى ولا نصيب لهم من العلاقات او الواسطات كي نعيش في هذه البلاد الخربة، فسنهاجر بعيدا مثل النازحين الذين هربوا قبل عدة سنوات حينما ظهر داعش واصبحوا مادة مضحكة مبكية للعالم، بعد ان تحولوا الى ضحايا حرب، بلا أي مساعدة او مسؤولية، من السلطة التي كانت انذاك، وكل ماكان يصل اليهم كان يتسرب الى جيوب اللصوص في وضح النهار وفي قمرة الليل ايضا.
وفي زمن الجفاف حينما لا يبقى احد غير أنصار الاحزاب المتنفذة، ستكون دعاية الانتخابية الفاسدة واضحة لهم..”انتخبني واعطيك برميلا من الماء”، وساعة واحدة من الكهرباء كل يوم، بعدها سيهبط اليهم القادة ويخبروهم بأن زمن العطش وسنوات العجاف ستذهب، وان زمن العراق سيأتي لهم، بعدها يضحك الانصار ويمضون الى ان يبصموا كي يكونوا في السلطة مدى الحياة.
وسيبارك لهم هذه الانجازات، سيدهم الذي يظهر كل سبعة ايام متأنقا وبارد الاعصاب كي يتحدث لهم عن الورع والتقوى في زمن الموت وخلفه يجلس المئات من القشامر، كي يمرر عليهم كل شيء في خطاب ديني تاريخي منتهي الصلاحية.
كل هذا كان قبل ان يتم تقسيم ابار الماء بين الاحزاب ، ليسيطروا عليها ويوزعوا على قدر ما يرغبون لانصارهم، وبدل ان يكون هناك تاجر نفط سيكون هناك تاجر ماء، شكله اخرق، قصير القامة، متكرش، حاد الملامح، تغطي نصف وجهه لحية سوداء، وتبدو علامات السجود واضحة على جبهته.
ستهاجر الحيوانات الحقيقية وتبقى الحيوانات البشرية المتملقة، ولن يبقى شيء، وكل من يعترض سيلقى عليه تهمة جاهزة، وهي الخيانة، خاصة حينما يسعى للتظاهر او الاحتجاج على سوء الكهرباء او تقديم الخدمات او البحث عن فرص عمل للشباب الذين يملؤون المقاهي.