منذ بداية الحراك الشعبي السلمي الذي انطلق من الفلوجة، ونوري المالكي يلهث باستماتة من أجل إلباس ذلك الحراك أردية طائفية من أجل إثارة عصبية طائفية مضادة في جنوب العراق، وقبل أن يقرأ مطالب المتظاهرين، فقد تسرع المالكي بردة فعل الموتور الذي أغلق أذنيه وسد مداركه عن فهم الظواهر السياسية المحيطة به، فبادر من دون روية وتدبر وأطلق على الاحتجاجات وصف الفقاعة النتنة، وهدد المتظاهرين بأن عليهم أن ينتهوا قبل أن تضطر حكومته لإنهاء احتجاجاتهم بالقوة، حتى ارتدت هذه الصفات عليه.
وعلى خلاف ما توقع المالكي وعصبة السوء والضلالة التي تحيط به وما تمنيا، فقد حافظت التظاهرات على طابعها السلمي ليس من موقع الخوف وإنما من موقع المسؤولية الوطنية، حتى بعد أن تعرض محتجو الفلوجة إلى عدوان مليشيا المالكي التي ترتدي ملابس الجيش، وسقط جراء ذلك ثمانية من الشهداء، وتمسكت بطابعها وخطابها الوطني ورفعت شعارات فيها مطالب لا تتصل بمنطقة بعينها، وإنما كانت تعبيرات عن قهر وضيم نشرته الحكومات التي أسسها المحتلون الأمريكيون بعد غزو 2003 وخيم بكوابيسه المرعبة فوق رؤوس العراقيين جميعا، فقر وجوع وتشرد وأمراض لم يعهدها العراق من قبل، غير ذلك من الأمراض الاجتماعية التي دخلت عليه من خلال النفوذ الإيراني السرطاني المتسع مثل الإدمان على المخدرات وتجارتها العابرة للحدود وتبييض الأموال وتمرير الصفقات الملوثة بالرشاوى بحيث استحق العراق وبكل أسف موقع البلد الأكثر فسادا في تقارير منظمة الشفافية.
وكان تمسك المتظاهرين بحقهم في مواصلة احتجاجاتهم وإصرارهم على مطالبهم، على الرغم من طول المدة التي فاجأت المالكي وعصبته الفاسدة، وعلى الرغم من سوء الأحوال الجوية التي ظل المحتجون خلالها تحت المطر الغزير والبرد الشديد، ولكن ذلك لم يفت في عضدهم وكأن ذلك رسالة تحدٍ من طراز غير معهود من شعب العراق إلى طغاته المستبدين، كان ذلك هو الذي فاقم من قلق المالكي وأوصله إلى ذروة التأزم الذي انعكس على سلوكه المنفعل وردود فعلة المتشنجة، وتظاهره بالسيطرة على المشهد عبر مكابرة بائسة لا يستطيع المالكي من خلال معرفتنا بمهاراته الشخصية مواصلة لعب دورها حتى النهاية، لاسيما وأنه ثبّت على نفسه أنه المسؤول الأكثر إثارة للأزمات السياسية مع الشركاء والخصوم، على حين يفترض به أن يكون عامل تفكيك للأزمات التي تبرز أمامه الواحدة تلو الأخرى بدلا من تجميعها وتحويلها إلى أداة ضغط على أعصاب المواطن واستقراره وتفرغه للعمل على تحسين مستواه ومستوى أفراد أسرته معاشيا وتعليميا وصحيا.
إن إصرار المالكي على التعامي عن رؤية الحقائق السياسية التي أفرزتها الانتفاضة على الأرض كما هي، سيزيد من إصرار الشعب العراقي لتطوير أهدافها وتوسيع نطاقها، وحينذاك سيقرع ناقوس الخطر بوجه المالكي بأن حكومته هي المستهدفة بالمرتبة الأولى، ولكن هذا الهدف لن يكون نهاية المطاف، بل سيعد اقتلاع الحكومة من أساسها بمثابة شارة البدء لتأسيس عملية سياسية جديدة تأخذ بمرارة التجارب التي مرت على العراق منذ الاحتلال وحتى اليوم، وتبدأ بإعادة كتابة الدستور على أسس وطنية ومتوازنة تحفظ لكل مكون من العراقيين حقا معلوما وواضحا أمام القانون، من دون أية أرجحية باطلة أو مزعومة وتحت أية لافتة، دستور يكتبه خبراء القانون الدستوري وليس زمرة من الجهلة والأميين الذين أنتجوا لنا دستور الألغام لعام 2005، ليشعر كل عراقي فيه أنه ينتمي لوطن لا تهميش ولا إقصاء لأي فرد مهما كانت صفته ودينه وجنسه وعرقه.
أمام هذه التطورات المتلاحقة تفتقت العقول المريضة التي تخطط للمالكي، عن خطة يائسة لخلط الأوراق وتعيد إنتاج المشهد السياسي على الصورة التي تخدم فكرة المالكي عن قدرته على التحكم بحركة الشارع العراقي اعتمادا على ما يعتبره انقطاع تمويل الاحتجاجات من جهة وتسرب الملل إلى نفوس العراقيين الذين ينظر إليهم على أنهم أصحاب هبّة تشتعل سريعا وتنطفئ أسرع من ذلك، ودخل على خط هذه التحليلات المفعمة بالأمراض النفسية عدد من أكبر مساعدي المالكي ومستشاريه، ولكن ذلك لما لم يصل إلى نتيجة مبكرة فقد بدأ حزب الدعوة ومعه ائتلاف دولة القانون وبعض أطراف التحالف الوطني الذين فقدوا لونهم وطعمهم ورائحتهم، ومن الطامعين بالمكافأة السخية من المالكي، بالتحرك على مستوى المحافظات الجنوبية لتصعيد الخطاب المضاد لمطالب التظاهرات الشعبية وخاصة إلغاء المادة 4 إرهاب وإلغاء قانون المساءلة والعدالة وإطلاق سراح المعتقلات والمعتقلين الذين تعرضوا لأسوأ الانتهاكات بسبب وشايات المخبر السري، وسلطت فضائيات الحكومة على هذه الفعاليات المدفوعة الثمن أضواءها الكاشفة واعتبرتها دليلا قاطعا على وجود وجهتي نظر متضادتين على مستوى الشارع العراقي، مما لا يسمح للحكومة بالإقدام على أية خطوة لها مؤيدون ومعارضون ونسبة الأخيرين على ما تزعم تلك الفضائيات أكبر من نسبة المؤيدين.
ثم عاد إلى ممارسة هوياته القديمة والتي تحولت مع وصوله إلى الحكم إلى وظيفة احترافية مقدسة، وهي الأعمال الإرهابية في مجاليها النظري والتطبيقي، فحرك أحد القتلة المأجورين المحترفين والذي نصب من نفسه أمينا عاما لحزب الله الثالث في العراق، ليعلن عن تشكيل جيش المختار والذي وزع تهديداته على الجهات الأربع وبخطاب دموي غير مسبوق في تاريخ العراق، وكأن الذين هددهم شواخص بلا إرادة أو قدرة على الرد عندما يجرب حظه العاثر في التحرش في محاولة تنفيذ تهديداته، وكأن المالكي يريد أن يزج بخيله ورجله في معركة ضد غالبية الشعب العراقي، كي تبقى له الغلبة على العراقيين من خلال حصر الاحتجاجات في محيط جغرافي ضيق وفي نطاق إنساني أضيق، ولهذا أخذت الأحداث هذا المنحى الذي يجمع بين التهديد بالقوة المضادة ومحاولة الاحتواء الغبية.
ما يجري من حراك شعبي لا يمكن للمالكي أن يوقفه بجرة قلم أو شهر بندقية أو ترغيب بمال حرام، ولن تستطيع أية قوة في الأرض أن تمنع العراقيين من استرداد حقوقهم المغتصبة.