الموج يرشق بهدوء جدار سفينة راسية بمواجهة الميناء الفارغ إلا من بنايات مهجورة. في الجانب الأيسر سرير مهجور، ستائر تتلاعب بها الريح الهابّة من شباك موارب، البحر يمتد نحو أفق لا نهاية له.
رجل محدودب يسير ببطء باتجاه محل اتخذ منه عملا يبيع فيه القرطاسية، المكان يجاور محكمة المدينة النمطية ويواجه تمثالاً يوحي بالشراسة.
يحاول التأقلم مع محيطه المتجدد باندفاع، أبو نبيل يطمح بالتخلص من هاجس الخوف الذي ينتابه في حالات متشظية كخارطة صماء.
السجن الذي قبع فيه، ما زالت نواقيس ذكرياته تقرع داخله بلا توقف. ثمة كوة أعلى الجدار المتكئ عليه، صاحبه ما انفك يدخن بحرقة.
أرجوك ابتعد عني.. رائحة الدخان تخنقني.
الباب الحديدي الموصد بقفل كبير بَانَ من خلال قضبانه الحديدية حركة الجندرمة، ارتباك واضح لأمر خطير ينبئ بالحصول، أصوات الأسلحة وسحب الأقسام يملأ الأرجاء.
تتناغم الرؤية الليلية مع البارجة التي حركت مدافعها يمنة ويسرة، شخص بملامح مخبر سري يرصد حركاتي. الغيوم الكثيفة تتبدد.
ما يرمز البحر في الأحلام؟
سحبت طرف تنورتها إلى الأسفل، اعتدلت في جلستها، شاشة الحاسبة تلقي أضواءها على قسمات وجهها ليبدو أكثر إشراقا.
شيء متعلق بالقوة والدولة، أضفت بصوتها الرخيم محتسية بعض من قدح الشاي.
لا عليك.. قد تكون أضغاث أحلام.
يستيقظ الحلم وسط انبعاث متأجج، صخب البحر يتصاعد مثل بخار يتكاثف على سطح بارد، غيوماً بيضاء.
يصرخ ربّان السفينة: هذا عارض ممطرنا..
المكتبة لم تعد عملا مربحاً المدارس أقفلت أبوابها العطلة الصيفية بدأت.. الرفوف فارغة إلا من أقلام الرصاص تمضغ الغبار، وسجل مفتوح يحكي فصول انتهت وأخرى لم تنتهِ. الحاسبة تنقل البيانات عِبر أصابعها الرقيقة:
هل أُحضر لك شاياً؟ انه يجعلك تفيق من نوبات الرؤية التي تطاردك.
الهواتف النقالة تشغل المتبضعين عن ارتياد السوق لشراء المجلات والملازم المدرسية، ليبقى عازفاً عن بيع شبه خاسر لكارتات شحن الموبايلات.
الدوام طويل وممل، الكرسي الدّوار يشجعها على الحركة، تطفئ الحاسبة التي تعمل عليها.
شمس وسط سحب متفرقة، تميل نحو الزوال، يبدأ العد العكسي، ربما تستفيق نحلة نامت على زهرة الحديقة الخلفية لمعهد الموسيقا.
أتابع أزيز مبهم يأتي من شجرة السدور المزروعة جوار جدار عال، الأبواب المنزوية تدور و راءها علاقات مشبوهة. تلتف حول منضدتها، الأجهزة الكهربائية توقفت، امرأة ملتفعة بالسواد تريد استنساخ مستمسكاتها الثبوتية.
ـ نفد الحبر سيدتي.
ـ الوقت متأخر، ألا توجد مكتبة أخرى؟
ـ نعم، اعبري الجسر واتجهي نحو اليمين.
ـ الطريق شاق و زاد السفر قليل.
يبقى السرير خاويا يبحث عن أجساد تتمدد عليه، النافذة لم تغلق بعد. الموج ينذر بهيجان مرعب. السفينة تمخر لكن الميناء يكتظ، كوة السجن تنكسر بإحباط متدل، السجناء يتلون صلاة لا تنتهي.
ألا يأتي المخلص؟
أنغام الموسيقا تصدح، أغانٍ تراثية جميلة، انه الدرس الأخير لمقامات عراقية متألقة.
«يا زارع البزرنكوش ازرع لنا حنة.. حنة.. حنة..».
عروس تخضب أصابعها بالحناء، النهر الذي انتظرناه يجّف، عاد يمتلئ و ربما يفيض، يغرق بساتين النخيل. الربان يحتار في أمره.