26 نوفمبر، 2024 9:29 م
Search
Close this search box.

كلام في الحزبية

كانوا وما زالوا يقولون  بأن الحزب بطبعه يسعى للحكم. و لا أرى  ضيراً في ذلك، فإذا استطاع حزب أو تحالف أحزاب تقديم برنامج عمل سياسي، يقتنع به غالبية الناس ، وكان مسؤولو الحزب أو التحالف من ذوي السيرة الطيبة، فلماذا لا تعطى لهم الفرصة لتسيير دفة شؤون البلاد؟ .. شريطة  أن يكون ذلك ضمن ضوابط ومعايير صارمة، معترف بها من الأحزاب، ومتعارف عليها  في العالم أجمع، مثل القضاء المستقل بالكامل، والانتخابات الدورية النزيهة التي تحكم على أداء الحزب أو التحالف، والصحافة الحرة التي تبحث وتنقب، مع ضمان التعبير والحراك لدى الأحزاب الأخرى، التي بطبيعتها تقف في الصف الآخر – أي المعارض – بممارستها لحقها في سبر أغوار أداء “الحكومة” المنتخبة، وتبيين أخطائها ، ومن ثم تقديمها  لما تراه أصوب ،  وكذلك تشريع كل ما يؤسس ويقنن لمبدأ التداول السلمي للسلطة، وفقا لآراء الشعب بعمومه وأغلبيته، وبحسب تعبيراته التي قد تختلف وتتنوع من حين لآخر.
وبتدبير مثل هذا لن تستطيع الأغلبية هضم حقوق الأقلية، ولن تستطيع الانفراد وحدها بسلطة مطلقة.
لا نشك  أن حضور احزاب معبرة عن تيارات فكرية وسياسية، تعمل علنا سوف يؤدي إلى إثراء النقاش، بل وتبسيطه وجعله في متناول المواطن العادي، الذي لم يصب حظا كبيرا في التعليم والاطلاع، فمجرد تحقق تلك “التعددية” في الرؤى والرأي، سيدفع بمستوى الحوار والتداول إلى سقوف أعلى، فتثير الشؤون العامة والقضايا الرئيسة اهتمام الحضور، فيتشوقون ويشاركون فيها كأفراد يحاورون ويسألون، ومن ثم يلمون بالمضمون، فتتكون لديهم رؤى وآراء تتبلور وتصل بعد حين إلى قرارات تتخذها القوى الفاعلة  بترجيح عدد الأصوات.
ومن المعروف  أن الحضور السياسي  يبقى ملمحا فكريا وشعبيا وحضاريا ، لكن ذلك كله يمكن ان تغتاله  الأساليب المتخلفة في فهم الدور الحزبي  وهيمنة أفراد معينين على كيفية الحوار بها، ومحدودية الخيارات المتاحة، وطريقة عرض القضايا فيعزف الشعب عن ممارسة “سلطته” التي يستحوذ عليها شخوص ، وهناك يقع اللوم بالدرجة الأولى على من أوكل إليهم الأمر أساسا، والفشل في ايجاد  آليات مراجعة، فيتراجع العمل على تحسين الأداء  و قد يبلغ الأمر ببعض “الموكل إليهم” الامر قيادة الناس والديمقراطية الى مشنقة الانهيار فنخسر الحاضر ، والمستقبل .
مهما بلغت تحالفات الاحزاب لتنظيم مصالحها المشتركة ، الانية ، او البعيدة المدى ، فان ذلك لا ينفي ان الخلافات تظل مستمرة بينها ايضا ، وربما تكون التحالفات غطاء غير شرعي لخلافات شرعية ، غير ان المهم الذي لابد ان تدركه الاحزاب ان تحالفاتها التي تظهر للعلن ، بدعاية واعلام خاص منها ، تقابلها خلافات تظهر للعلن ايضا باعلام يراقبها ويتتبع تفاصليها ، وعند ذاك تخطيء الاحزاب اذا ظنت انها يمكن ان تتستر على الخلافات .
اذا كانت الاحزاب تريد العمل علنا وتدعي انها تؤمن بالديمقراطية ، فعليها تسمية الاشياء باسمائها ،  لان ذلك سيكون دعما لها وليس مثلبة في تاريخها ، فالمكاشفة احد اهم دعائم القوة للاحزاب .
ان  فكرة السماح بالمشاركة ضمن تنظيمات سياسية فكرية، مع ضمانات كفلها الدستور ، وسط اجواء يقال انها تنعم بالديمقراطية والحرية ، كان سيؤدي إلى جذب جمهور المواطنين، ولو من باب الفضول الى تلك الاحزاب كما حدث في فترة انتعاش تأسيس الاحزاب او الاعلان عنها بعد الاحتلال الامريكي ، لكن ما لحظه الناس هو عدم وجود  حوارات الرأي والرأي الآخر، وبدل ان نرى منظر الناس وهو يقبلون على قاعات مخصصة في سبيل مزيد من الحوار والمساجلة، من اجل الشعب ،  ونرى  مؤتمرات أساسية غير رسمية، طوال السنة، في منتديات مخصصة، تصبح بعد فترة كمؤشر على اتجاهات الرأي العام وتفاعل الجمهور مع ما تطرحه الاحزاب ، كانت الصدمة اكبر حين عزف الناس بعد سنة او اقل او اكثر عن الثقة بالاحزاب ، بل ان اكثرهم صبّ غضبه عليها ، ورآها سببا في ما حل بالبلاد من عنف ودمار ، ذلك لان التجربة الحزبية في العراق جاءت في عملية قيصرية ولم تولد ولادة طبيعية .
فقد المواطن ثقته بالسياسة بسببها ، وعزف عن الخوض فيها حتى لما فيه صالحه، ولم تظهر أهمية التنظيمات الأهلية أو المنابر أو الأحزاب ولم يلحظ الناس جديتها طوال الفترة التي مرت  ،  وفي النهاية لم يكن المواطن العادي هو المستفيد من مرحلة ما يسمى بالحرية ، بل كان ضحيتها ، فيما كان المستفيد قيادات حزبية وسياسية لم ينجح كثير منها حتى في اقامة رابطة مودة مع الناس ، بل اصبحت المقرات الحزبية تذكر بمقرات امنية عرفها العراقيون خلال عقود وعقود مرت من عمر العراق .
اذا كان الدستور وقوانين الاحزاب في العالم المتحضر هي التي تكون رقيبا ومعيارا لمدى نشاط وجدية الاحزاب ، فان انشغال دستورنا بخلافات داخلية غير متفق على حلها ، دفع الحياة الحزبية الى الانكماش والبقاء في اروقة القصور والسياسيين والتحالفات ، ولم تلامس مشاعر الشعب ، فيما لم تظهر قوانين احزاب حتى الان ، وبقيت التجربة الحزبية ليست اكثر من اسلوب للدعاية دون ان تكون اسلوبا للحياة للعبور الى ضفة اخرى .

أحدث المقالات