خاص: حاورته- سماح عادل
“راسم عبد القادر الحديثي” كاتب وروائي عراقي، صدر له كتاب “مسارات الحداثة في الفكر الوطني والقومي”. وصدرت له ثلاث روايات: (رواية أولاد حمدان- ورواية أصناموفوبيا- ورواية دائرة الخوف).
إلى الحوار:
(كتابات) في رواية (أولاد حمدان) تناولت المجتمع العراقي والتحولات التي حدثت فيه منذ الستينات والانقلابات العسكرية وما تبعها.. حدثنا عن ذلك؟
- نعم منذ الستينات حصلت تحولات سياسية بانقلابات عسكرية متتالية، لم تهدف لرقي المجتمع واستقراره. كان آنذاك للطلبة دور فاعل في الحركة السياسية. نشاط سياسي يتبلور ويتصاعد متمثل في الحركة الطلابية ويُسرق من قبل الأجنحة العسكرية لبعض الأحزاب. كما كنا في الأقسام الداخلية وفي الجامعات العراقية الثلاث قدرا يغلي بالقيم والمبادئ، بين العروبي بأشكاله المتباينة والمتأثرة بثورة مصر العربية وبقائدها جمال عبد الناصر آنذاك، وبين الأحزاب الشيوعية المتأثرة بالاتحاد السوفيتي.
هكذا تطور فكر سياسي وتبلور ونما في الممارسة والقراءة وحضور الندوات السياسية والاجتماعات الحزبية، وظهر نشاطي في القضية الفلسطينية بالعلاقة العقائدية مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، من جمع تبرعات وحتى توزيع المنشورات وغيرها. هكذا كان المناخ السياسي في الستينات وما بعدها وما رصدته في رواية (أولاد حمدان)..
(كتابات) في رواية (أولاد حمدان) شخصيات كثيرة تعكس ثراء المجتمع العراقي وتنوعه.. هل عايشت تلك الشخصيات أم أن الخيال ساعدك في رسمها؟
- هذا الثراء المجتمعي آنذاك ترك أثره على الرواية. بالفعل عايشته ونقلت كثيرا منه بأسلوب سردي بين ما حصل بالفعل وبين المتخيل الواقعي. فالمتخيل الواقعي، والذي يعمل فيه الخيال في حدود ما هو واقعي، هو ما حصل ويحصل في هذا المجتمع العراقي والمجتمعات العربية حتى اليوم.
مثلا في الرواية ما حصل في الندوة المقامة للدكتور “صادق جلال العظم” في الاقتصاد الاشتراكي هي حقيقة، فقد خربها الإسلاميون كونه قد اشتهر بنقد الفكر الديني في كتبه. وقد عاداه الإسلاميون كما فعلوا مع المبدع “نجيب محفوظ” حين غرز الإسلاميون السكين في رقبته بسبب رواية “أولاد حارتنا” والتي فهمت من قبلهم على أنها نفي للأديان. لقد عايشت تلك الشخصيات وكثير من الأحداث التي تدور في رواية ( أولاد حمدان) قد حدث بالفعل، ومنها الفصل الذي يسبر أغوار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
كما رصدت في الرواية العادات الاجتماعية البالية والتي لها دور فاعل في بناء شخصيات أو هدمها، كما حدث لي. فتدخل الآباء و الأمهات في بناء المصالح الاجتماعية من خلال الزاوج الذي يقضي على تطلعات وطموحات الشباب. فالاختيار المصلحي العائلي القبلي هو المتحكم في تكوين العلاقات الأسرية.
(كتابات) أشاد النقاد برواية (أولاد حمدان).. ما الرسالة التي أردت توصيلها من خلال الرواية؟
- الرسالة التي أود إيصالها أن المجتمع العربي يتفجر بمتناقضات كالبراكين، مما جعل الوصول إلى بناء دولة حضارية متطورة أمرا عسيرا . إن إبراز الخلل وإظهاره ومحاولة تنوير المجتمع به أمر لازم.
الحركات الدينية اليوم أرجعت الدين وقيمه إلى ينابيع التخلف والقهر والعنف، حتى أصبح المتطور كافرا ومنحرفا، و هذا ما يطمح إليه أعداؤنا، ويخدم مصالحهم، والذين يرومون البقاء في تخلفنا للاستفادة من ثرواتنا. كما أروم الخروج من القبلية المتجذرة والتي تؤثر قيمها على قيم المواطنة الصحيحة. إن رواية (أولاد حمدان)تحوي طموحا للتطور والرقي وبناء مجتمع عربي، يضاهي ما نراه اليوم في العالم المتطور.
(كتابات) قلت في رواية (دائرة الخوف) كان الوطن بمثابة معتقل كبير.. هل هي رصد للقمع الوحشي الذي عاناه العراقيون من السلطة؟
- نعم رواية (دائرة الخوف) والتي أعدت سردها باسم (خريف الشرق) هي رصد للواقع العربي وليس العراق فقط. والسجن فيها نموذج مصغر للوحدة العربية. نجد فيه معتقلين من عموم الوطن العربي.
(كتابات) تعرضت للاعتقال والسجن مرات عديدة.. هل حاولت نقل تجربتك على الورق أم كان ذلك صعبا؟
- تجربة اعتقالي برزت ملامحها بشكل جلي في رواية (خريف الشرق). هذه الرواية تصلح أن تعتبر من روايات السيرة الذاتية. كما يمكن تصنيفها من أدب السجون. وقد اعتبر النقاد أنها تعكس تطورا في الأسلوب السردي.
(كتابات) كيف بدأ شغفك بالكتابة وكيف طورته؟
- تطورت فكرة كتاباتي حين بدأت بنشر مواضيع سياسية في جريدة (الجريدة العراقية) التي تماثلني فكريا. فجمعت ما نشرت في كتاب صدر لي باسم (مسارات الحداثة في الفكر الوطني والقومي). هذا دفعني إلى الكتابة ثانية، فبدأت بكتابة سيرتي الذاتية أو أدب السجون في رواية (دائرة الخوف)، التي تطورت لاحقا إلى رواية (خريف الشرق).
ثم كتبت رواية (أولاد حمدان) وبعدها رواية (أصناموفوبيا). وكلمة (أصناموفوبيا) تعني الخوف من الصنم. فوبيا كلمة يونانية معناها الخوف وصنم هو الرجل الديني المتطرف، الذي لا يقبل غيره لا بل يكفره وبالتالي يقتله. رواية (أصناموفوبيا) تحدثت عن العنف طائفي الذي حصل في العراق بعد 2003 وحتى 2007.
وبعدها صدرت لي قصة طويلة بعنوان (عشق عابر للحدود) وهي قصة تتحدث عن علاقة عاطفية بين فتاة مغربية وشاب عراقي، علاقة بدأت على الانترنت وانتهت بالفشل. واستمر عطائي لأنتج رواية (تحت شجرة التوت) التي تسرد الكثير من موروث مدينتي بأسماء رمزية وبأسلوب سردي متخيل.
(كتابات) ما هي روافد تكوينك الثقافي ومن الكتاب الذين أثروا بك؟
- بالنسبة لروافد تفكيري الثقافي قد يكون لأفكاري السياسية وطموح العمل الجاد، لرفع أمتي العربية إلى مصاف الدول المتطورة، دورا في هذا. حيث دفعني للقراءة والنضال في تنظيمات توائمني فكريا… القراءة والقراءة والكتابة هي من ينابيع ثروتي الثقافية.
تأثرت بكتاب كتبوا بجرأة بغض النظر عن آراءهم… ك”نحيب محفوظ” في رواية (أولاد حارتنا). كما قرأت لرواد الفكر القومي العربي ك”جورج حبش” و”نايف حواتمة” و”غسان كنفاني”وغيرهم. ومناضلي وشهداء القضية الفلسطينية.
(كتابات) ما هي الصعوبات التي واجهتك في حياتك؟
- الصعوبات كثيرة.. حين استلمت أول راتب من الدولة وجدت نفسي في عائلة تنظر إلي كي أصنعها. والدة ووالد كبير مريض وعدد كبير من الأخوة والأخوات.. هذه التشكيلة تركت أثرا في حياتي ومساراتها المعقدة.
وميولي السياسية التي أودعتني المعتقلات مرتين..
(كتابات) ما رأيك فيما وصلت إليه الرواية العراقية من نهضة؟
- بعد ٢٠٠٣ تحررت وانطلقت الرواية العراقية من عقال مراقبة الأجهزة الأمنية.. فانطلقت في بحر فوضى السياسة وتخبطها بعد التاريخ أعلاه. اليوم ليس هناك حرية فكرية منظمة ولكنها فوضى تفسح المجال لك للكتابة.. ولكن بحذر ليس من السلطة ولكن من عنف الميليشيات.
(كتابات) هل تشعر بالرضا عن انجازك الأدبي وهل مازال هناك المزيد؟
- نعم هناك رضا وهناك طموح… الرضا كوني أنتجت. وطموح كوني لم أقدم نفسي كما ينبغي… أتمنى بقاء عقلي وعينيا لتساعداني بالعمل لأكمل مشواري.
جزء من رواية ( أولاد حمدان) لراسم الحديثي.
لم يكن أبي مغامرا..
دخل أحمد غرفةَ أبيهِ بهدوء وجلس إلى جنبه, حاول أن يعرف منه ما حصل, والحق يقال, أنه بذل كلَ جهده, ولكنه رأى عيني أبيه شاخصتين باتجاه سقف الغرفة وهولا ينطق إطلاقاً, يبدو أن حجم المشكلةِ أكبر من قدرته على التفكير والكلام, ولعلّ أحمد سمع بضع كلماتٍ مرتبكةٍ وغير واضحة, اقترب منه أكثر لفهم ما يريد أن يقوله حمدان, وضع أذنه على فمِ أبيه, وقد سمع شتاتاً مما قاله والده, فلم يصدق الأمر, فأسرعَ وجلب قلماً وورقة وطلب من أبيه كتابة ما قاله, استجاب الوالد وكتب العبارة التي هزت كيانَ ولده, فشعر أن ساقيه لا تحملانه ونظر إلى ما كتب أبوه غير مرةٍ ليتأكد مما قرأ ( ياولدي لقد بعتُ الدار.. عليكم إخلاءه فوراً.. شدةٌ وتزول أن شاء الله ) .
هذا ما كتب أبوه, ولقد أرهق هذا الأمر كيان أحمد إرهاقاً شديداً, فطلب من جميع أفراد العائلة الحضور, وأبلغهم بما قرأ وما سمع, وشاهد الجميع ما كتبه أبوهم, أحمد قريبُ الشبه به, ويدرس القانون في جامعة بغداد, هادئ الطبع, طيب القلب, وعلى جانب من الثقافة.
بدا صباح صامتاً وفي داخله ثورةٌ عارمة, ونار تكوي جسده, وشعر بحاجة للاقتراب من أخيه الأكبر أحمد, ولكن أحمد في أسوء حال وقد حاول الابتعاد عنه, فلا جواب لديه عما يجري من متغيرات سريعة, ومنذ أن قرأ صباح الرسالة والدموع تجري على خديه, ولما كرر قراءتها, أرتعش جسمهُ واصفر وجهه.. وراح يفكر, فاضطربت الأفكار في رأسه, فآلمه كثيراً, ولذلك فضل الذهاب إلى سريره والانعزال قليلاً, كان دون العشرين من العمر, نحيف أسمر داكن اللون, متوسط القامة, متمرد الشخصية وجسور, مشاكله كثيرة ومتشعبة, فتراه إذا اختلف مع أحد أفراد العائلة يحطمُ كثيراً من أثاث البيت, ويحاول تخريبَ الغالي والنفيس ليثير أعصاب وانتباه أفراد العائلة, ورغم أن أحمد أكبر منه, لكنه يعتدي عليه ويضربه بقوة مسبباً له كدمات, إلا أن أحمد لا يقابله بالمثل, ليس ذلك مرده جبن وإنما ميله إلى العيش بسلم وأمان.
ما ذُكر عن صباح من صفات كان سببه مرضه في طفولته, لقد مرض مرضاً كاد أن يقضي على حياته, أصيب بمرض الإسهال الصيفي الشديد, وعانى جسدَهُ من الجفاف لفترات طويلة, وقد ترك هذا المرض آثاره النفسية والعصبية على مجمل حياته, فكبر عصبي المزاج متوتراً قلقاً.
التف الأولاد حول أبيهم, أمهم صامتة كصخرةٍ يحاول نقار ميكانيكي تحطيمها, يسيل من عينيها نهر من الدموع لا حد له, تحاول إخفاء رأسها تحت الوسادة, فهي لا تود رؤية أولادها بهذا الحال, وأسماء تمسك بشدة بها صارخة مفزوعة وأصوات غريبة تصدر عنها, أصوات لم يسمعوها من قبل, امتزج فيها البكاء والضحك, حتى يتخيل للسامع أنها فقدت عقلها, أسماء أختهما الوسطى, جميلة وهادئة الطبع, وكانت القريبة إلى أمها, ولذلك تدرك إدراكا جيداً ما يدور بمخيلة أمها بسبب تجاهل أبيها لها, فبذلت جهداً متميزاً لتعويض أمها ما خسرته من عواطف, وهي في السنة الأخيرة من دراستها الإعدادية, وقد تقدمت على صباح بسبب تعلقها بكتبها المدرسية, في حين تأخر هو سنتين.
والدهم لا يبرح غرفته ولا سريره, آثروا دخول غرفة أبيهم جميعاً, فاقتربوا منه, والتفوا حوله, حاولوا استنطاقه, ولكنه في عالم آخرَ, عيناه شاخصتان, وذهنه متوقف عن التفكير, فاقداً القدرةَ على الكلام, حاولت زوجته أن تضع شيئاً في فمه, فتعذر عليها ذلك, كانت أسنانه تكز على بعضها, فما يحمله من همٍ أكبر من تحمل عقله وجسده, وهو ينظر إليها بحنان كبير, شعرت للمرة الأولى بحاجته لها, تأكدت أنه يحبها ولكن عبثه غلب عليه أيام عزه, عيناه تفيضان بدمع غزير وكذلك عيناها .
وبعد ثلاثة أيام, وبعد أن نام الجميع نوماً عميقاً من شدة ما فكروا به, أيقض الجميعَ صُراخٌ وعويل, فنهض الجميع, هذا صوت أمهم بالتأكيد! فركضوا باتجاه الصوت, كان الصوت يصدر من غرفة أبيهم, فلما دخلوا الغرفة وجدوا أمهم تنكب عليه, لقد مات منذ ساعات, مات وهو يحمل سراً يجهلونه, كان جسده متصلباً, وقليل من لسانه يخرج من فمه, لعل الأولاد لم يروا ميتاً من قبل, حينها كانت الساعة الرابعة صباحاً من يوم ثلاثاء.