ليس بوسعِ ايّ محللٍ سياسيّ ولا المنجّمين , ولا حتى قادة الأجهزة الأستخبارية والأمنيّة من إعطاء صورة تخمينيّة او تقريبيّة عن الموعد الأفتراضي لتوقّف وانتهاء التظاهرات , ولا الكيفية التي توقفها , مهما جرى من رصدِ مبالغٍ ملياريّة للمحافظات المنتفضة او اطلاق الدرجات الوظيفية بالآلاف المؤلفة , كما حتى لو عادت الكهرباء بمعجزة سياسية او سواها , او اصبحت مياه البصرة عذبة المذاق .! , فثورة الغضب قد انطلقت واشعلتها تراكمات السنين بكلّ مآسيها وحرقتها ومرارتها .
ربما تخفت التظاهرات قليلاً في هذه المحافظة او تلك , لكنّ ذلك هو لألتقاط الأنفاس او كأستراحة المحارب , او حتى ” اعادة تنظيم ” حسب المصطلح العسكري .
وعلى الرغم من توصيات السيد العبادي في عدم وجوب استخدام العنف ضدّ المتظاهرين < والتي لم يجر الإلتزام بها كاملةً من بعض الأجهزة الأمنيّة > , لكنّه كلّما ازدادت ضغوط القوات الأمنيّة بوسائل الضغط التقليدية وما فوقها .! فكلما ازداد استفزاز مشاعر المتظاهرين اكثر , وقد ينتج عن ذلك ما هو اكثر واشدّ , انّما رغم مجريات ما جرى التعامل به مع المحتجّين والمتظاهرين , فالوقائع تعكس أنّ هنالك نوع من التروّي من الدولة تجاه التجاوزات التي حدثت من بعض هؤلاء المنتفضين , وليس بمقدور اية جهةٍ ان تضمن عدم حدوث تجاوزاتٍ اخرى قد تغدو اخطر من سابقاتها < مع التحفّظ على دقّة التعبير اللغوي لمفردة ” تجاوزات ” والتي لها مرادفات متعاكسة في هذا الشأن > .
من خلال التأمّل في صور وملامح جموع السادة المتظاهرين , يتّضح أنّ غالبيتهم من القاطنين في مناطقٍ شعبيّة , وذلك يعني فيما يعني أنّ معظمهم من ذوي الدخل الأقتصادي المنخفض وممّن لا يتملكون القدرات الماليّة لتأمين اجور المولدات الكهربائية وربما المياه الصالحة للشرب صحيّاً , كما من زاويةٍ اخرى فأنّ الكثير منهم لم يكملوا مراحل التعليم التي تؤهّلهم للتعيين في دوائر الدولة , وبجانب جموع الخريجين منهم المغلقة أمامهم ابواب التعيين وتأمين مصادر الرزق والمعيشة , وهذه في مجملها او بعضها تمثّل تراكمات وعوامل الضغط النفسي الذي يقود للأنفجار , وكلّ انفجارٍ يجرّ لأنفجارات اخريات .!
لكنّ الأهمّ من كلّ ذلك الضنك او بموازاته , فبانَ أنّ هنالك ادراك جمعي او جماهيري أنّ المسبب الرئيسي لكلّ هذه المعاناة والأزمات الناتجة هي الأحزاب التي تتقاسم السلطة والوزارات ودوائر الدولة واقسامها , فتلك الأحزاب التي لا تمتلك حدوداً للجشع في سرقة اموال الشعب وانجرّت حتى الى ترويج المخدرات كي تشبع بعض ما لديها من النَهَم , ولم تكترث لتوفير او لإيجاد الحد الادنى من المتطلبات الحياتيّة و الرمزية للمواطنين , وربما يعود عدم اكتراثها لذلك لأمتلاكها لفصائلٍ مسلّحة ومدرّبة ” في الخارج ” توفّر لها سبل الحماية الذاتية من ايّ تعرّضٍ لها في ايٍّ من الميادين , ومن هنا تتّضح الملامح الأولى ذات المعاني البارزة والمجسّمة لحرق عددٍ من مكاتب احزاب الأسلام السياسي الحاكمة , ومن دون سمة التعيم , فليس بمستبعدٍ استثمار او استغلال جهاتٍ محددة لتوجيه بعض المتظاهرين لمكاتب احزابٍ اصطفّت مع العبادي في التحالفات الأنتخابية , والعكسُ بالعكسِ في في حرق مكاتبٍ لأحزابٍ متضادّة في هذه التحالفت الأنتخابية .!
وبقي أن نشير , فبرغم تلقائية وعفوية هذه التظاهرات الجماهيرية , فيكاد من من المحال تجيير وتوظيف البعض منها لأسبابٍ ستراتيجيةٍ خطيرة .! , فما علاقة الشركات النفطية الأجنبية وحقول النفط في ” القرنة ” وسواها , وما علاقة ميناء أم قصر ومنفذ سفوان الحدودي مع الكويت بأزمة الكهرباء الجاثمة منذ 15 عاماً , ولماذا الآن تحديداً وعلاقة ذلك بأزمة عموم المنطقة اقليمياً ودولياً .!
ثُمّ اذا ما جرّدنا العوامل الطبيعية لأنطلاق التظاهرات ” هنا ومؤقّتاً ” , ورفعنا من نسبة التركيز على العوامل والعناصر الخارجية لحرف بوصلة التظاهرات في بعض المحافظات , فأنّ اخشى ما نخشاه أنّ تغدو هذه المجريات هي المرحلة الأولى لأنطلاق تظاهرات اوسع وأشدّ ولربما بأساليبٍ اخرى , ونتمنى وندعو الله تعالى أن لا تبلغ الأمور الى هذه المديات .