لإنعاش ذاكرة قرائنا وكتابنا ومُعلقينا ومُحللينا الصحفيين والإذاعيين والتلفزيونيين المتفائلين بقرب انتصار الدولار على التومان، وقرب أنْ تصيبَ عقوباتُ الرئيس الأمريكي دونالد ترمب من نظام الملالي مَقتلَه، نُذكرهم جميعا بأيام العقوبات الأمريكية الماحقة التي فُرضت على العراق، مرفوقةً بعقوبات أشد فرضتها الأمم المتحدة منعت بأحكامها تصدير النفط العراقي إلا بحدود برنامج النفط مقابل الغذاء، وحرَّمت تصدير المعدات والأجهزة العسكرية والطبية وألعاب الأطفال والأجهزة ذات الاستخدام المزدوج وقطع غيارها لأية وزارة عراقية إلا ما تسمح به أمريكا وأوربا والصين والاتحاد السوفيتيوالكويت وتركيا وإيران.
فجميع تلك العقوبات، بكل قسوتها وشدتها وجدّيتها، وبكل عدوانيتها، لم تستطع أنتكسر ظهر النظام. وأقصى ما فعلته هو أنها جعلت الشعب العراقي يعوم في المياه الآسنة، ويعيش على البطاقة التموينية، وعلى تهريب ما يمكن تهريبُه من مواد غذائية ودوائية من قبل شركات سورية وأردنية وإيرانية وتركية وخليجية انتهازية متمرسة في التهريب، مستغِلةً ما عُرف يومها بنظام (الكيوبونات) التي كان نظام صدام يُهدي بموجبها كمياتٍ من النفط المهرب.
وكان بعضه يصل إلى صحفيين وكتاب ورؤساء أحزاب عربية كبيرة وصغيرة مقابل أن يذرفوا دموعهم، ويلطموا صدورهم على أطفال العراق الذين “تُجوعهم أمريكاوإسرائيل وعملاؤهما العرب والمعارضون العراقيون“.
والثابت تاريخيا وعمليا وواقعيا أن النظام لم يسقط في 2003 إلا بالغزو العسكري الشامل الذي جعل صدام حسين يقول للقاضي الكردي رؤوف رشيد، وهو في قفص الاتهام: “والله لولا الأمريكان لا أنت ولا أبوك كان يمكن أن يجيبني إلى مكان مثل هذا”.
واليوم يعيد التاريخ نفسه ولكن مع إيران هذه المرة. فالرئيس الأمريكي ترمب الذي جاء خصيصا ليقلب موازين القوى والمصالح في الشرق الأوسط والعالم، وليمحو ما كتبه ووقَّع عليه سلفُه باراك أوباما، يبشرنا هذه الأيام بإنه سيبدأ بخنق النظام الإيراني،اقتصاديا، تمهيدا لإسقاطه، ولكن خطوة خطوة، وبالتأني الذي فيه السلامة، وبدون العجلة التي فيها الندامة.
ومن أجل التفرغ لإيران فقد عمل على إبطال مفعول الدعم العسكري والنووي والصاروخي الذي تقدمه كوريا الشمالية لنظام المرشد الأعلى علي خامنئي، وترويض، أو مقايضة روسيا التي تحتضنه وتُمده بأسباب القوة، وتشجعه على التمرد والتحدي والعدوان.
ولكنه في حربه الجديدة مع إيران، على ما يبدو، لا ينوي أن يستخدم في قتالها وقتال أذرعها وذيولها العسكرية والمليشاوية والطائفية والسياسية والمالية في سوريا والعراق لبنان واليمن أكثرَ من سلاح العقوبات، معتقدا بأنه سيؤدي إلى واحدةٍ من نهايتين لهذه المعركة، فإما أن يُنهي عنادها وغرورها ويُجبرها على تغيير سياساتها العدوانية،أو أن يُفجر أوضاعها الأمنية والاقتصادية والسياسية من الداخل، خصوصا إذا نجح في حمل دولٍ مهمة مثل الهند والصين وبعض الدول الأوربية على التوقف عن شراء النفط الإيراني، الأمر الذي سوف يَشغلها بأوجاعها وهمومها، وصولا إلى شل قدرتها على مواصلة تدخلاتها في الخارج.
وهنا نتذكر أن فرقا كبيرا جدا بين الوضع العراقي السابق والوضع الإيراني الحالي.فصدام لم تكن لديه جيوش ومليشيات تقاتل نيابة عنه في الخارج، كما أنه لا يحتل دولا،ولا يستعبد حكوماتٍ تُمده بالعون المالي والاقتصادي وقتَ الضيق، ولكنه رغم ذلك أقلم نفسه ونظامه مع العقوبات وتعلم كيف يستخدمها ليطيل بقاءه ويغيض خصومه الكثيرين.
شيء آخر. ففيما يخص العقوبات التي فُرضت على عراق صدام حسين لم تتجرأ دولة أوربية واحدة على مشاكسة جورج بوش الأب، ولا بيل كلنتون، ولا جورج بوش الإبن، منذغزو الكويت عام 1990 وحتى سقوط النظام في العام 2003، كما تفعل اليوم بريطانيا وفرنسا وألمانيا بعدم رضوخها لعقوبات ترمب، وبتمردها عليه، ورفضها التوقف عن شراءالنفط الإيراني، بالتفاهم والتضامن مع روسيا والصين ودول أخرى تكره أمريكا من زمن بعيد.
وهنا نسأل، إذا لم تستطع العقوبات الأمريكية والدولية القاسية الخانقة التي دامت ثلاث عشرة سنة أن تُسقط نظام صدام حسين، ولا حتى أن تجبره على تغيير خطابه ومواقفه وسياساته المعادية لأمريكا والمُصرة على حرق نصف إسرائيل، فكيف يُراد لعقوباتٍأحادية أمريكية غير مكتملة الإطباق، وغير مرفوقة بدعم الأمم المتحدة وأوربا وروسيا والصين، أن تُخرج النظام الإيراني من العراق وسوريا ولبنان واليمن، ثم تسقطه بعد ذلك، أو تجعله يلين ويتخلى عن عدوانيته وإرهابه ويتراجع عن تهديادته بغلق مضيق هرمز، وبتخريب مدنٍ مهمة في المنطقة بحرسه الثوري ومليشياته، وبإرسال ألفٍ منصواريخه الباليستية لحرق منابع نفط الخليج، نكاية بترمب وبمعاونيه ومستشاريه، وسخريةً بعقوباته التي لن تَقدر على تحريك المواطن الإيراني ضد نظام وكيل الإمام الغائب، مهما تحمل من معاناة وأوجاع معيشية يومية اعتاد عليها، كما أكد المرشد الأعلى علي خامنئي وأعوانه ومستشاروه عشرات المرات؟
فمتى ستقتنع أمريكا بأن عقوباتها لن تؤذي النظام الإيراني كثيرا، وبأنها لن تَنقَض إلا ظهورَ ضحاياه الإيرانيين الذين يعيشون، من قبل تلك العقوبات، وبدونها، تحت خط الفقر والظلم والقمع والفساد منذ عشرات السنين؟
وأخيرا، هل سيتحقق ذلك قريبا أم بعد عمر طويل؟