بعد انقضاء 15 عام على سقوط النظام السابق في العراق ، كان من الطبيعي ان نقارن اوضاع العراق مع دول الجوار الذين حققو بعقولهم و تخطيطهم افضل النتائج في التقدم و التطور والناتج القومي لبلادهم بما يوفر العيش الكريم لابناء الشعب .
في العراق اليوم تنحصر هموم الحكومة ومعها الشعب في تحقيق الايرادات المالية وتوفير السيولة النقدية من العملة الصعبة ليس الا للسياسيين و رجال الدين بالدرجة الاولى لأنهم المتحكمين بخيرات الوطن والسبيل الوحيد لذلك هو من خلال عمليات استخراج النفط من باطن الارض وبيعه للحصول على الاموال التي يعتاش عليها و بها رموز السياسة و الاحزاب وهي المورد الوحيد للشعب العراقي ، واستخراج النفط يعني الحصول على الاموال بدون اي جهد و اجتهاد انساني صناعي او زراعي ولا حتى فكري .. ويمكننا ان نحسب ان هناك ايراد اخر تعمل الاحزاب و الحكومة على تنشيطه الا و هو المراقد الدينية و مواكب الزيارات والنذور و الاضاحي حيث تصرف الاموال في كرم الضيافة لزوار الحسين عليه السلام على امل جني الايرادات وتحريك نشاط الفندقة و السياحة و اغلبها على نفقة العراق و الحكومة العراقية ، اذ يسعى القائمين على المراقد و المواقع الدينية ان يتم الارتقاء الى افضل استثمار لها . وبالمقابل تجمع مبالغ العطايا و النذور لصالح المرجعية و لا تستفيد منها الحكومة ولا الشعب الا الشيء اليسير.
لا احد يعلم متى سيعود العراق ليمارس دوره الطبيعي الحضاري بين اقتصاديات دول العالم الذي نعيش فيه … العراق اليوم في اسوأ احواله وفي عزلة متعمدة بدأت هذه العزلة بالحرب الايرانية وترسخت في عدوان العراق على الكويت مع العلم ان ايران و دول الخليج تتصارع منذ اتفاقية الجزائر ، هي و دول الخليج على حرمان العراق من المنفذ البحري من اجل اجبار العراق على اشراكهم في استثمار موارده الداخلية النفطية او غيرها (المعادن و المواد الاستخراجية و التعدينية) بطريقة الابتزاز ليتم التصدير عبر موانيء دولهم حين لا يكون للعراق منفذ بحري للتصدير .. او اجباره على العودة لمشاريع الستينات في مد انابيب التصدير الى الاردن وسوريا و لبنان و تركيا و قد تتحقق امنية اسرائيل في التصدير عبر موانئهم باعتبارهم اقرب نقطة عن العراق الى البحر.
ومن المؤسف ان العراق على مدار عدة عقود ، انجر الى تنفيذ كل ما يصب في مصلحة تنفيذ مخططات الغير ومصالحهم دون التفكير بمصالح العراق و شعبه… وها هم , ايران و تركيا ودول الخليج ينفذون مشاريعهم الاستثمارية والتطويرية في دولهم و يعيشون بمستوى معاشي جيد وبوضع اجتماعي واقتصادي جيد يفوق الوضع في العراق بنسب كبيرة جدا يصعب قياسها للفارق الكبير ، وتراهم متواجدين حضاريا بين دول العالم ويتسابقون ويتنافسون للحاق بالركب الحضاري العالمي في كل ما هو جديد … الا العراق .. الذي تراجع وانجرف الى اسفل الركب الحضاري بحيث اصبح اغلب فئات الشعب تزحف بحثا عن لقمة العيش وسط غياب الامن وتفشي الجريمة وانعدام الخدمات بابسط اشكالها ناهيك عن سوء الاوضاع الصحية المتردية مع ضعف التعليم و غياب الصناعات الوطنية حتى اصبح العراق مستهلك 100% لكل احتياجاته بما فيها الاغذية و المنتجات الزراعية حتى الاستيراد اصبح للعراق حق استيراد ما يسمح له باستيراده فقط . من جهة اخرى اصبح العراق ساحة مفتوحة لتصفية النزاعات و الخلافات .
ان الملاحظة الكبرى التي قد يتغافل عنها العراقيين هي ان السياسييين الجدد لم يستغلو فرصة التعامل مع اميركا بعد سقوط النظام السابق في 2003 .. كثيرون هم المتربصون بالنظام السابق من الداخل ومن الخارج ومن دول الجوار وقد ادت سياساته (النظام السابق) الى مناصبة العداء مع انظمة ودول اثبتت الوقائع ان النظام السابق كان دكتاتوريا في مخططاته وافكاره التي تعارضت مع تطلعات ومصالح دول المنطقة بحيث لم يبق ولا حليف واحد مع العراق . اميركا قادت دول التحالف لتنهي النظام المتهالك المعزول دوليا والذي سبب خسائر كبيرة في اقتصاد العراق بسبب الحروب ، لكنها (اميركا) كانت بعد 2003 تراقب تحركات وتوجهات السياسيين الجدد وخططهم العملية في تغيير مسار العراق لأستثمار ما متوفر فيه من كوادر وامكانات وخبرات علمية وصناعية ، وقد حاولت اميركا وبعلم وتنسيق وتعاون الكثير من الخبراء العراقيين في اعادة بناء وتنظيم وتشغيل منظومات الادارة الحكومية من جديد ، وقدمت العديد من المقترحات و المشاريع العملية و التنظيرية و الفكرية من اجل اعادة بناء وتشغيل العجلة الصناعية لكن بتوجهات وافكار مدنية بدلا من الصناعات العسكرية ، وقدمت الدعم والاسناد للصناعيين و العلميين و الخبراء العراقيين من اجل أعادة بناء الدولة العراقية على اسس ديمقراطية جديدة .
لكن ولا يخفى على احد ان قرار حل وزارتي الداخلية و الدفاع كان خطأ كبير من قبل السيد بريمر القائم بالاعمال في الادارة المؤقتة للعراق بعد 2003 بعد ان استلم الادارة من سابقه السيد كارنر … لكن ما لا يغتفر للعراقيين انهم لم يستفيدو مما طرحه الاميركان من مبادرات وافكار بل تغلب على العراقيين حب الامتلاك و التسلط المبني على اسس طائفية بتغذية من عملاء ايران وكان هم السياسيين الجدد جني الاموال وبناء النفوذ والتسلط عن طريق بناء المليشيات وقد ساعد ذلك الفراغ الامني الذي خلفه قرار حل وزارتي الدفاع و الداخلية . ويبدو ان اميركا لم تحسب حساب العمق الطائفي في العراق المتجه الى ايران لذلك خسرت كل جهودها وخسر معها العراقيين فرصة اعادة بناء العراق على اسس ديمقراطية بما وفرت لهم اميركا من دعم علمي وتهيئة الكوادر المتقدمة من ذوي الاختصاصات الهندسية و الفنية و العلمية ، لكنهم كانو فئات قليلة اختصاصية (تكنوقراط) من الذين تدربو على مناهج علمية مدروسة لتحويل وتحوير المنظومات الصناعية من الجهد العسكري الى منتجات مدنية واغلبهم بعيدين عن عالم السياسة و التحزبات الدينية … هؤلاء لم يستطيعو مواجهة المليشيات المسلحة المتكئة على المرجعيات الدينية للاطراف المتناحرة مذهبيا والتي انتشر بيديها السلاح وانتشرت معها التصفيات الجسدية على اسس الانتماء الديني والعرقي او على الاقل تنفيذ قرارات حزبية داخلية في القضاء على الرؤوس الادارية لمن تولى في النظام السابق مسؤلية ادارية باعتبارهم من ازلام النظام السابق وحرصا منهم على ضمان عدم بقاءهم او ظهورهم من جديد. ولم يمتلك السياسيون الجدد اي بعد نظر ولا خطط تخدم المصلحة العامة للعراق بل كان همهم الوحيد بناء دولة قوية مبنية على اسس دينية وطائفية بحتة محسومة الولاء.
ان ما قدمه الاميركان كان فرصة تاريخية لو استغلها العراقيون لتغير مسار الوضع القائم 180 درجة وذلك اعتمادا على خطط الانفتاح الاقتصادي و المالي و الصناعي و بناء المشاريع التي كانت ستشغل كل ابناء الشعب وتغير طريقتهم في التفكير للمستقبل .. خسر العراق الفرصة التي يرى كثيرون انها الفرصة الذهبية التي لن تتكرر ، وخسرت اميركا جهودها وتوقعاتها لبناء منظومة ديمقراطية في واحدة من العوالم العربية الاسلامية المشهورة بتاريخها العريق .
بعد هذه الخسارة والانفلات شاع في العراق فوضى كبيرة نتيجة الصراعات المتخالفة لمصالح السياسييين , و بسبب اختلاف ولائاتهم الخارجية بين ايران و السعودية و تركيا و بعض المؤسسات التخريبية مثل الكويت الهادفة الى تحطيم الامكانات العراقية انتقاما ومعاقبتا للعراق على غزو الكويت وضمان تعجيزه واضعافه للمستقبل البعيد. وكانت احداث سنوات ما قبل 2008 قاسية جدا وخلقت ارباك كبير لدى الاميركان من الاوضاع الداخلية القلقة وتحجج السياسيين بان الانهيار الامني كان بسبب عدم امتلاكهم للسلطة .. فسارعو على اقناع اميركا الى ان استلام السلطة سيحقق الامن و الاستقرار الداخلي . وبناء عليه نفذت اميركا قرار تسليم السيادة للسياسيين للعراقيين المملوئين باقذر الافكار رغم ان الكثير منهم تميزو بالخيانة او الفراغ الفكري و ولائاتهم لدول الجوار … لذلك وبعد الحاح السياسيين العراقيين قررت اميركا تسليم السلطة الى العراقيين ، وكان هذا القرر متفقا مع السياسة الامريكية وتوجهاتها في منح العراق السيادة و الاستقلال وانهاء حالة الاحتلال وكذلك من اجل حفظ و حقن دماء الطرفين و الابتعاد عن مبررات وحجج استمرار المقاومة المسلحة . لذا قررت اميركا سحب قواتها وكل المظاهر العسكرية التي توحي بالاحتلال ، و بقيت تتفرج على سلوك العراقيين الغريب في وطنهم من الصراعات الداخلية و الخلافات العقائدية و التوجهات الغبية في التصرف بعائدات النفط الوطنية وتهريب الاموال والانفلات الامني وتعطيل مشاريع الانماء والمعارك الاستخباراتية و الدسائس و المؤامرات التي جعلت من العراق وكرا مناسبا وامنا للارهاب العالمي .
هذه نظرة واقعية عاشها العراقيين ولمسها الكثير ملمس اليد في الحزن على ضياع فرصة كانت بيد العراقيين لكنهم اضاعوها من اجل مصالح شخصية و ذاتية والسبب الاعظم هو تسيد الجهل المقدس بلباس الدين وتسلط الجهلة على مقادير العلم و الثقافة والتخطيط ، وضرب عرض الحائط كل تجارب الحضارة و التقدم في العالم .