سكان مناطق (جزاير) العراق كما هي تسميتها الأصلية قبل أن يغير اسمها ( ناصر باشا السعدون ) الى ( المدَينَـــة ) نعم سكانها أقدم من دولة العراق الحديثة ولدوا هنا وعاشوا وتكاثروا وعمروا ودافعوا وقاوموا الأحتلال بكل أنواعه منذ وجودهم على هذه الأرض ولغاية هذا اليوم فكان لهم قصب السبق في المقاومة والثورة وآخرها كانت تلبيتهم فتوى الجهاد التي اعلنتها المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف إذ قدموا مئات الشهداء من ابنائهم النجباء حتى أطلقوا على قضاء المدينة تسمية ( قضاء الشهداء ).
حاز الأمير (إبن عليان الطائي) شرف الأمارة على جزائرها جميعا وامتد سلطانه الى جنوب واسط وقاوم العثمانين حتى عجزت قوات سليمان القانوني عن قمع ثورته واسقاط إمارته الواقعة في ( نهر صالح ) شمال قضاء (المدَينَــــة ) حاليا حتى استعان العثمانيون (بمانع السعدون ) وقدموا له السلاح وقام هذا بدوره وحاصر (ابن عليان) واسقاط قلاعه والقضاء على إمارته والسيطرة على أراضيه ومصادرتها بأمر من الوالي العثماني ، كما صادر أملاك وأراضي إمارة (ربيعة) الواقعة في (نهرعنتر) جنوب قضاء (المدَينَـــة) حاليا وتقاسمت إمارة ربيعة النفوذ مع إمارة أبن عليان الطائي في منطقة ( الجزائر ) حيث إمتد نفوذها جنوب الجزائر وعلى مناطق واسعة تمتد الى ( كرمة علي والدير والشرش والسويب اضافة الى عشائر الحلاف باهلة وبني منصور. إختفت هاتان الإمارتان بفعل العثمانين وبمساعدة آل السعدون. فالسكان هنا أصل العراق وأحفاد تلكما الإمارتين العربيتين الأصيلتين وورثتهما وليس دخلاء على هذه الأرض بل أقدم من دولة اسمها الدولة العراقية التي أسسها البريطانيون عام 1921 وقادها خريجو المدرسة التركية وعملائها ، لذلك فأن سكان هذه المناطق أولى من الدولة العراقية والشركات النفطية بثرواتهم.
حملات التخريب التي تعرضت لها مناطق الأهوار عموما ومنطقة شمال البصرة خصوصا كانت عمليات متعمدة وممنهجة ، أخطرها كانت في الحقبة البعثية الصدامية التي بدأت بتغير وتحويل مجاري نهري دجلة والفرات وروافدهما عن الصب في الأهوار لتجفيفها وتهجير سكانها ، إذ كانت أغلب هذه العمليات التخريبية تحت عنوان محاربة الهاربين من الجيش والقضاء على عناصر المعارضة التي تتخذها مأوى لمحاربة نظام الحكم وكان هذا هدفا معلنا ، لكن هذا ليس دقيقا وكما يبدو كانت هناك أهدافا أخرى من وراء هذا التخريب الهائل الذي تعرضت له بيئة تلك المناطق وابادة الحياة فيها وتهجير سكانها وفي إعتقادنا أن الهدف الأهم والذي يتم التكتم عليه لحد الآن هو تجفيف هذه المساحات الكبيرة لإحتوائها على كميات النفط الهائلة والتي أطلق عليها تسمية حقل ( غرب القرنة ) يضم ناحية ( عز الدين سليم ) وقضاء ( المدينة ) وناحية ( الإمام الصادق ) والذي يعتبرمن أكبر حقول النفط في العالم ولهذا فأن عمليات التجفيف سهلت كثيرا عمليات التنقيب والأستخراج والأنتاج للشركات النفطية ولازالت الحكومة المركزية منذ عام 2003 ولحد الآن تمنع عودة المياه الى الأهوار على الرغم من وجود مشاريع تنموية حقيقية تدعو لأنعاش الأهوار وعودتها لأهميتها المناخية والإقتصادية ، بل عمدت حكومتنا الوطنية المنتحبة الى إطلاق يد الشركات النفطية وسارعت الى تجفيف ماتبقى من مساحات مائية وتجريف الأراضي الزراعية.
الأمر الأخطر أن الحكومة الأتحادية تنظر الى قيمة كميات النفط الهائلة وعوائدها المالية فقط دون الإلتفات الى أهمية الثروات الأخرى والتلوث البيئي وتطلعات سكان تلكم المناطق ودون رعاية حقوقهم وإعادة بناء مشاريع اقتصادية من خلال استثمار ثروتهم النفطية ليضمن لهم حياة كريمة وعيش رغيد ، بل على العكس تماما مضت في مشروعها لأستثمار الحقول النفطية بطريقة جشعة ومن خلال عقود مع شركات النفط العالمية التي أجهزت على بقايا البيئة والزراعة والمياه دون إكتراث..
كانت تراخيص الشركات النفطية خطيئة لا تغتفر اقترفتها الحكومة المركزية بحق ثروة العراق لأن العراق لم يجن منها سوى النزر اليسير من انتاج النفط ناهيك عن الإمتيازات الكبيرة التي منحها لتلك الشركات إذ لم تتضمن عقود التراخيص شروطا لتشغيل سكان ابناء المناطق النفطية أو تقديم خدمات فعلية لهذه المناطق مثل بناء مشاريع في القطاع الصحي أو المدارس أو بناء محطات كهرباء أو بناء مجاري الصرف الصحي ومعالجتها أو محطات تحلية مياه ، وكان بالإمكان استثمار نعمة النفط لصالح سكان هذه المناطق بشكل أفضل من خلال عقود التراخيص بدلا من أن تكون مصدرا للبلاء ونزول النقمات عليهم بكل اشكالها من تلوث وأمراض وبطالة وخوف وعوز وجوع وقلق وحرمان وقتل…!
الأحداث الأخيرة المؤسفة والتي قبلها بثلاث سنوات أيضا أدت الى وقوع شهيدين على الأقل وأصابات شديدة وتركت آثارا سيئة لم تأت من فراغ إنما جاءت على أثر معاناة قاسية كان السبب الأكبر فيها وزارة النفط والشركات النفطية والحكومة المركزية التي لا تصغي أبدا لمطالب سكان المناطق والمحافظات النفطية إضافة الى سوء الأدارة المحلية في محافظة البصرة والفساد المالي للمسؤولين فيها وسيطرة الأحزاب السياسية وارتباطهم بقيادات فاسدة ومنحرفة ، نعم كل أولئك يتحملون المسؤولية بشكل مباشر عن معاناة ومأساة هذه المناطق. لم تهتم الحكومة المركزية ولا الحكومات المحلية لمعاناة سكان هذه المناطق ولم يتخذوا إجراءات جدية لحل مشاكلهم أو دراستها أو تشكيل لجان لمتابعتها في حين كان بالإمكان أن تتصدى الدوائر المعنية مثل مجالس المحافظات ومجالس الأقضية والنواحي وبعض دوائر الدولة والأحزاب الحاكمة للمشاركة في ايجاد حلول ناجعة ، مع الأسف لم يحدث وتصدى أي من هذه الدوائر ولو بكلمة حق أو تطيب خواطر. ومن هنا لابد من تشخيص المشكلات أولا ومن ثم اتخاذ اجراءات سريعة وفاعلة لمعالجتها ويمكننا أن نضع بعض المقترحات لمعالجة مشكلات الأوضاع الراهنة:
أولا: إدانة استعمال العنف وبشدة واطلاق النار على المتظاهرين وقتلهم أو اعتقالهم وتعذيبهم وتقديم الذين اطلقوا النار ومن أعطى الأوامر الى القضاء لمحاكمتهم.
ثانيا: تشكيل مجلس تنسيقي لغرض توجيه حركة المعتصمين وفق الأهداف المرسومة حصرا والحفاظ على سلمية الإعتصام والإستمرار في المطالبة بالحقوق لغاية تحقيقها كافة.
ثالثا: تشكيل لجنة عليا مشتركة تضم ناشطين ووجهاء وحقوقين من أبناء قضاء المدينة والقرنة والزبيرتتولى مهمة تحديد المطالب والحقوق وطريقة تنفيذها على الفور وتتولى أيضا مهمة التفاوض مع الشركات النفطية والجهات الحكومية.
رابعا: طرد كافة الأيدي العاملة الأجنبية فورا واستبدالهم بالعاطلين عن العمل من سكان المنطقة تحديدا.
خامسا: إجبار الشركات النفطية ووزارة النفط بتشغيل العاطلين عن العمل في قطاع النفط أو بإقامة مشاريع انتاجية في المنطقة وتشغيلهم مثل مصانع تكرير النفط وتصفيته أومشاريع اصلاح الأراضي الزراعية وإعادة تأهيلها أو مصانع الألبان الحديثة وتربية الحيوانات وغيرها…
سادسا: أن تتعهد الشركات النفطية بإعمار هذه المناطق وتنفيذ مشاريع خدمية فيها مثل بناء محطات توليد كهرباء خاصة بهم ومحطات تحلية المياه ومجاري الصرف الصحي ومعالجة مياهها وتتعهد بتبليط الشوارع التي دمرتها آلياتها ، وبناء المدارس والمستوصفات الصحية.
ختاما نود التأكيد على عدم إتهام المتظاهرين والمعتصمين من سكان هذه المناطق على أنهم ينفذون أجندات خارجية أو يتلقون معونات وأموال من دول الخليج لزعزعة الأمن في البصرة أو أنهم بعثين وغيرها من هذه التهم الجاهزة والتي أصبحت مملة وباهتة يرددها قيادات الأحزاب والإمعات من أتباعهم ، هؤلاء الشباب وتاريخ آبائهم وأجدادهم اسمى من كل هذا وأهدافهم أنبل من أن تلصق بهم هذه التهم.
فلا تقتلوا أبناءنا من أجل النفط ومصالح الشركات النفطية ومصالح الأحزاب الحاكمة المنتفعة منها لأن هؤلاء الفتية المتظاهرين هم الذين حرروا الموصل والفلوجة وتكريت والأنبار وحموا الديار ولازالت صور إخوانهم الشهداء تزين شوارع قضاء المدينة ونواحيه وقراه ولازال أيضا أخوان لهم يرابطون في الخطوط الأماميىة لصد هجمات الأرهاب.