18 ديسمبر، 2024 10:19 م

نريد الوطن النزيه ..!

نريد الوطن النزيه ..!

في عام 2003 وبعد السقوط بأيام قليلة  ، ذهبت مع مجموعة من طلبة العلم وخطباء المنبر في زيارة لمقر الأمن السابق في قضاء الهندية (طويريج) والذي كان يتواجد فيه مجموعة من الشباب الذي تطوعوا لحفظ المدينة من السلب والنهب والفوضى بعد دخول قوات الأحتلال الأمريكي إلى مدينة كربلاء وضواحيها وهروب أزلام النظام البائد من المؤسسات الأمنية والحكومية ..فطلب مني أحد الأخوة المجاهدين أن أستعد لأكون ضابطاً برتبة ملازم أول وأن أمسك مركز شرطة الهندية مع الآمر(الجديد)  وجماعة آخرين من رجال المدينة وشبابها  ..!!
فقلت له مبتسماً : ولكنني لست ضابطاً …لافي الجيش ولافي الشرطة السابقة ..!! فقال الشيخ : إن الأمريكان خيرونا بين أن ننخرط بجهاز الشرطة الجديد تحت إشرافهم وتدريبهم وأن نقدم وثائق ودفاتر خدمة تثبت رتبنا العسكرية السابقة وأن نرشح من بيننا ضباطاً وشرطةً ليحفظوا أمن مدينة طويريج ..وإذا لم نفعل فأنهم سيقومون بإعادة البعثيين والشرطة الصدامية السابقة لمراكز الشرطة والأمن لحفظ النظام العام ..فهم لايسمحون ببقاء المليشيات المدنية المسلحة في المدينة فقد قالوا لنا : (نحن لانريد مليشيات مثل طالبان ثانية في العراق) ..فهل تقبل – والكلام موجهاً لي-   أن يعيدوا علينا رجال الأمن والشرطة الصدامية من جديد ..؟
فقلت للشيخ: ولكنني لست ضابطاً حتى أعود للخدمة ..ولماذا أنا بالذات ..أختاروا غيري ..!!
فقال الشيخ : نحن أخترنا مجموعة من المؤمنين المجاهدين أن يكونوا ضباطاً وأنت واحداً منهم لأنك من الذين تضرروا من النظام السابق وقد أعتقلت وُسجنت وهُجّرت كثيراً وجاء الوقت لتعوضوا كل ذلك الحرمان وتؤدون دوركم في ضبط الأمن في المدينة لأنكم من ثقاة المؤمنين وأنتم خير من ينتفع بهذا العهد الجديد ..وهو أفضل من عودة البعثيين وأمن صدام أوتواجد الجنود الأمريكان في مدينتنا..!!
قلت : ولكن كيف أكون ضابطاً وليس لدي مستمسكات تثبت للأمريكان ذلك سوى أني كنت جندياً سابقاً في الجيش العراقي ..؟
 فقال (أحدهم ) : بسيطة ..! نعمل لك دفتر خدمة نجلبه من سوق مريدي برتبة ضابط ملازم أول ..وتنتهي المشكلة ..!!!
فألتفت إليهم بكل لطف وقلت : (والكل شاهد على هذا الكلام ) :
أخوتي الكرام ..أولاً شكراً لثقتكم العالية بشخصي وترشيحي مع هذه النخبة الطيبة لخدمة الناس ..ولكن إذا قبلت هذا المنصب الرفيع  (بالتزوير ) وأصبحت مسؤولاً أمنياً في هذا البلد ، فلماذا جاهدنا وقاتلنا النظام الفاسد وطالبنا بسقوطه إذا كنا نحن أول من سيزرع آفة التزوير والفساد في كيان الدولة العراقية الجديدة ..؟؟ ثم كيف لي أن أحاسب الناس المخالفين الذين يأتي بهم الشرطة إلى المركز وهم من المزورين والمفسدين وأقوم بسجنهم وأعتقالهم ومحاسبتهم ؟؟..كيف لي الحق أن أحاسب  المزورين والمفسدين وأنا أول من زور وأفسد في البلاد ..؟؟؟؟
هذا كان جوابي بالنص …ولاأريد أن أخوض ببقية التفاصيل وماجرى بعد ذلك ..
…وهكذا فوّتُ على نفسي فرصة ذهبية لأستغلال تلك الظروف وقبول المنصب وتحسين الحال الذي كان بصالحي وشخصي وعائلتي ..ولكنني فوّت كل ذلك في سبيل المحافظة على نظافة المبدأ وصيانة الوطن من كل مايشينه حتى وإن كان ذلك من باب (التورية ) أو دفع الأفسد بالفاسد ….!
وجاء العهد العراقي الجديد الذي كنت أنتظر فجره ..وأتحين إطلالة صباحه المشرق بكل لهفة وشوق  ..
وكم ..وكم … أراني الدهر عجباً ..!! وأنا أرى كيف يتسابق المزورون (لتزوير الوطن) وكيف يتفنن المفسدون (في أضاعة الوقت وتمييع القضية ) وكيف يتلّون الأنتهازييون (للركض نحو المناصب والمراتب ) وكيف يتبدل المنافقون وينزعون كل يوم جلداً  ويلبسون جلداً آخر …..!!
نعم رأيتهم يفعلون ذلك جهاراً نهاراً ..لارادع لهم ولانكير ..ولاشك بأنهم يسخرون مني في دواخلهم قائلين :
كم أنت بطران ….يامن تفكر وتحلم ببناء وطن خالٍ من المزوريين والمفسدين والمنافقين والأنتهازيين ..!!
فما عليك إلا أن تبقى  قابعاً في (خربة التجاوز التي لاتزيد مساحتها أكثر من 60 متراً فقط ) .. يَنثُ عليك سقفها المتداعي التراب ، وتتسلل الحشرات  من شقوقه حيطانه المتآكلة كل  يوم ..ويقرص بردها وشتائها جلدك مع جلود أطفالك كل ليل ..وتتلف أمطارها جرائدك وصحفك وأحلامك في كل رشة مطر عابرة  …!
أبق أنتظر …أبق لاراتب ولاسكن ولاوظيفة ..وعش بقيمك (الوطنية البلهاء ) تنتظر  أحلام الدولة الفاضلة …!! ..وهكذا …أبقى يومياً أسمع كل ذلك العواء الوحشي ..وكل ذلك الصفيرالساخر ..!!
لكن داخلي ..يصرخ في وجه جبروت السخرية :  نعم ..سأبقى أعيش بدون كل ذلك ..وأتحمل من أجله كل شيء ..ولكنني لاأستطيع العيش في وطنٍ يصول المفسدون فيه ويجولون ، لاأستيطيع العيش في وطن ٍيمرح ويسرح فيه المزورون دون رادع أونكير.. !!
نعم : سأبقى أعيش من أجل الوطن الخالي من المنافقين  …….الوطن الخالي من المزورين والمفسدين والأنتهازيين ..
سأبقى أنتظر الوطن النزيه ….الذي هو قادم لامحال …!!!