أول الحكي:
وقع.. هل شعرتم بوقع الكلمة الخشبية الصادمة، الصارمة في نفسي؟ بالطبع لا علاقة لها بقصيدة محمود درويش، وضع الشرطي (بزي مدني) ورقة وحيدة بيضاء أمامي، تتذيلها نقطة صغيرة تنتظر توقيعي. خُيّمَ الصّمت بعدئذ. من المفروض أني قلت كل شيء، قلت للمحقق الذي لم أكتبه مطلقا في أوراقي الخمس. هل أجرؤ أن أقول على ماذا أوقع؟ كل ما رويته في الواقع هلوسات في شكل سيرة قصة سريالية كنت كاتبها. بدت شهادتي باهتة.. مفككة. قرأت ذلك في وجوه ضباط الشرطة.. هذا ما أثار قلقي، احتميت بالفراغ…بلاشيء. حتى الورقة البيضاء التي أمامي صارت ضدي. لا أعرف إلى حد تلك اللحظة الثقيلة لم استدعتني الشرطة؟ هل كانت القضية وطنية وذات بعد دولي أم هي مجرد سوء تفاهم سرعان ما يخلي سبيلي و أعود حيث كنت قبل أمس؟ من يدري؟
لم تكن قضية بالمعنى الحرفي و الحقيقي -على الأقل- إلى حد الآن، لا أستبق الأمور.. في كل الحالات اللّعبة اللّغوية لم تكن مجرد لعبة كما أزعم، والقصة لم تكن خيالا. هذا ما فهمته من تفاصيل المكان البارد، المثقل باللون الرمادي بالأسئلة الرّعناء، بأصوات قادمة من الدهليز المعتم. بدأ الصقيع يتسلل إلى دواخلي ثم ذاكرتي، أحسست بها وهي تُثقب بمسامير معدنية في أكثر من مكان، شخصياتي الورقية رأيتها بأم عيني عندما استسلمت،تتجمد ببطء، تنسحب من المتن كحبات البلور الشفاف..تتشكل من جديد في سيل صغير، ثم جارف. يجرف المكان المظلم، أراهم يصغرون أمام السيل.
أحدهم قال:
“وقع!” الآخر يضحك…والآخر يقترب، كأنه يستعرض أمامي رشاقة قدميه برفع أحديهما إلى حافة الكرسي الحديدي الذي جلست عليه.. يتبادلون الأدوار. بين السائل و المتهكم و المستفز..عددهم يتزايد كلما ارتجفت.
وقع!
حكاية الحكاية
قررت خوض تجربة تشبه استعراضا لغويا أو تحديا للذات. فالفكرة الجنينية لم تتعد كونها لعبة لغوية، ثم بدأت في معايشة الفكرة تدريجيا، الأمر لم يكن سهلا إذ تحولت اللعبة إلى شيء أساسي ومهم في حياتي، قلت: “هي وبعدها الطوفان” أقصد القصة التي اعتزمت كتابتها.
اخترت مدينة مثالية، مسرحا لأحداث غريبة، أخذت الفكرة منحى دراميا جميلا، غير متوقع. بدت الحكاية واعدة و مغرية منذ السطر الأول: ” الفئران كثيرة كبيرة تمرح في النهار كما الليل بغير رادع أو خوف حقيقي. مؤسف أن تجد نفسك مجبرا على العيش بهذا الخلل البيئي… مثلما تأسف و أنت عاطل عن الشغل. أجلس القرفصاء.. رأيتهم… حول جثة لا هي بكلب ولا هي بوحش..من تكون؟هل هي فأر كبر بسرعة مذ اختفاء القطط أو تحولها كما يقول العارفون. أين القطط حتى تكبر بهذا الشكل الغريب و المخيف ؟
المشكلة يا أصدقائي أني لا أعرف كل ما يحدث في أرجاء المدينة ممن هاجر من الكائنات و ممن مات ـ لا سمح الله ـ فما بالكم بالقطط. .القضية مبهمة، ازدادت غموضا بتحول القطط إن كان هذا صحيحا، في ربيع صباحه صقيع و ظهيرته أشواك تزهر،مع ذلك فالأمر مفهوم أما مسألة الفئران… اجتمعوا مساء للنظر في قضية القرن، الأكيد أن القطط سببت مزيدا من الألم إما بوجودها أو باختفائها عصر ذاك اليوم من كذا شهر في حينا الشهير بالمشاكل الكثيرة المتعلقة بالفقر والطلاق و المشدات العنيفة التي تحصل بين الحين و الآخر بين مشجعي الفريقين العتيدين بالسواطير و الخناجر. هذا ما تبقى من النص الأصلي وما أذكره.
مساءا أخرج من غرفتي مزهوا بالجمل الجديدة التي أضيفها للمتن القصصي. أو أقرأ فصولا كاملة من قصتي على مسامع أعيان قريتي إرضاء لغروري. أتجرأ وأشاركهم كتاباتي. أجلدهم جلدا بالتفاصيل والبياض الذي اعتمدت عليه كعلامة مميزة في نص استثنائي. كانوا يصغون لهذياني باهتمام، بل كانوا يتساءلون عن إمكانية حدوث أمر كهذا. تجدهم يملؤون المكان لغوا و ضجيجا و بحثا عن حلول ممكنة للمعضلة.
كلما خرجت من عزلتي أجدهم ينتظرونني في مقهاي. يسألونني عن الفصول الجديدة، عن مصير القطط إن عادت إلى شكلها الطبيعي؟ لن أتردد في قراءة الفصل الأخير، لن أتردد في الحديث بإسهاب عن الصراع الذي أخوضه ضد تلك الشخصيات الهلامية، الزئبقية(أضيف): “صحيح هي كائنات ورقية لكنها مؤذية للذاكرة و العقل. حاولت حصارها بأقل عدد ممكن من الكلمات، فكنت ـللآسف ـ أنسف الفقرات نسفا لأسباب مختلفة”
قصتي بعد كل عشية تأخذ بعدا غير متوقع على الإطلاق، فمثلا كان المنطلق من تلك المدينة الرمادية فأنهيت إلى أزقة قريتي الصغيرة التي تعج بأشخاص رماديين و فئران تعايشت معهم لعشر ليال مرغما، مرعوبا من المصير الحتمي الذي ينتظرنا.
تنحصر الحلول في قصة تشبهني. تزداد الفئران شراسة وعدوانية، بصعودها ونزولها من العمارات الشاهقة. الأغرب وغير المنتظر اختفاء القطط بفعل فاعل، أو تحالفت مع الفئران. المشكلة أعمق من ذلك بكثير. لكم أن تتخيلوا الرعب الذي أحدثته الفئران في تفاصيل المدينة. رعبها الذي وصل تدريجيا إلى ربات البيوت الحازمات على إعلان الحرب ضدها ونقل الانشغال إلى رجالهن بشراستهن.
وصلت القضية إلى البرلمان لمساءلة وزير البيئة باعتباره المسؤول عن تدهور البيئة واختلال التوازن في الريف و المدينة على حد سواء. ومعالي وزير الداخلية، طبعا علقت الصحف في اليوم الموالي “بمزحة القرن” حسبما وصفها النائب المحترم المعبأ بهذا الخبر الذي يحتمل الخطأ و الصواب، الوزير نفسه لم ينف ولم يؤكد القضية، باعتبارها جديدة ومثيرة بالفعل، إن حدث و اختفت القطط مسألة في غاية الحزن و الخطر. انقطاع سلسلة غذائية كاملة أمر محبط.
من بين النهايات التي فرضت نفسها في قصة لا تنتهي كما اشتهي، أن أضع نقطة نهاية ثم أستسلم للنوم العميق. المدهش و ربما صدفة جميلة أني لم أعط أي دور للشرطة، كالتحري مثلا لفك خيوط المؤامرة.. أو للبحث عن صياد محتمل قضى عن القطط بقصد إحراج الحكومة، بالمناسبة هذا الخلل الذي ارتكبته غير مقصود و ليس إساءة للشرطة. أنهيت قصتي على عجل. كأني بتلك النقطة المعزولة أعود إلي..أرقص و أحب وأنام بالرغم من ذاك الكم الهائل من الجمل المقموعة.
لا أخفي فرحتي و أنا أنهيها و أنا أرقص وأنا أخرج إلى أحياء حقيقية. تفاءلت خيرا بالقصة. لحظتئذ أو بعد كذا ساعة أذكر أنها أمسية حافلة بالأحداث و النكت، إذ أتفاجأ برجال الشرطة أمامي بالزي الرسمي، احتلوا المكان كما يجب أن يكون الاحتلال….أنت!
هو السطر الذي ينقص القصة.. قلتها بوعي. حتى ولو تناسيت دورا، فالشرطة لا تنام في أحيائنا، أبدا الأمن ضروري في مدينتنا.
أحدهم يسألني: أنت السيد…؟
قلت: أنا..
كانوا كرماء جدا معي في مساء أرجواني، طبعا جاءوا كما قيل لي منذ البداية طلبا في مشورتي في قضية الفئران التي هاجمت المدينة!
لم أصدق ما سمعت. بهتت للحظات. أمرني السيد الواقف أمامي قائلا:
ـ تفضل معنا.
استجبت للدعوة كما يفعل كل الطيبين في هذا البلد. ركبت السيارة التي شقت الطريق الترابي، ثم انعطفت إلى الجنوب بسرعة جنونية. يتبادلون النظرات البريئة. أتفهم جيدا تصرفاتهم، تخوفاتهم من أدنى حركة من أي مصدر مجهول، أتفهم تلك السرعة وتلك العنجهية التي يقابلون بها مستعملي الطريق الضيق.. “شكرا للشرطة التي تذكرتني بينما نستني كل الفراشات الصغيرات، وتلك القصص الجميلة التي حدثت بالصدفة”
أرتب أفكاري، مستبعدا الأفكار السوداء، بالأحرى أفكر في الحل الذي ارتأيت إليه في قصة لم تنشر بعد، تلك التي أنهيت فصولها للتو. كنت متفائلا رغم كل ما يقال عن شرطة البلد، متفائلا رغم أني أستشعر أخطاء كثيرة في القضية..مع ذلك بقيت في الكرسي الخلفي أراجع فصولا من قصتي، لعلي أنقذ المدينة، بل سأكون الأكثر شهرة على الإطلاق، بأني الكاتب الذي تنبأ بالكارثة البيئية..رغم أني كتبت بسخرية لاذعة و لم أقصد أن أسيء إلى سمعة البلد -لا سمح الله-لا علينا. في مخفر الشرطة استقبلني أفراد الشرطة، ضباط كثيرون، و ذوي الرتب الدنيا يملؤون المكان. أحدهم متهكما على ما يبدو قائلا:
“ليس غريبا أن تستدعى إلى مقر الشرطة أليس كذلك؟”
-” بلى… واضح و معقول..”
جلست على كرسي خشبي.
عذرا إن نسيت بعض التفاصيل، إذ لم أصف لغة الشرطة الدقيقة المحكمة، كل كلمة في قاموسهم لها موقعها من الإعراب. نسيت، كوني أول مرة أدخل مخفر الشرطة، أصلا لم أعرف أن في هذا المقر الجديد الذي يتربع على بضعة أمتار مربعة يسع لهذا الجيش العرمرم من الشرطة، يملؤون الرواق، يدخلون و يخرجون، يثيرون هلعا.. تراهم يخرجون من الغرف الضيقة كالنمل، مسدسات و هراوات و بنادق و كل أنواع الأسلحة. كلابات وبقع…دم للأسف، حكايات، قهقهات مروعة تسمعها بين الحين و الآخر، رنين الهاتف. أقرأ شعار الشرطة الأنيق:”الشرطة في خدمتك” لا أعرف ما يقصدون “بكاف المخاطبة” يخاطبونني أو يخاطبون من في هذا الدهليز ؟
دخل شرطي أخر.
“…قف…” تقول الشرطية الواقفة وعينيها في وجه الداخل الطويل المخيف..
سألني بلا مقدمات:
-“اسمك و هويتك وعنوانك بالكامل؟”
تلعثمت، نسيت في تلك اللحظة فعلا من أكون؟
قلت:
-“……كاتب”
واصل وهو يحدق في عيني.
-“نشاطاتك الأخيرة؟”
أضاف:
-“تحدث نحن على كل نعرف القدر الكافي عنك، مثلا..كنا نعرف أنك كاتب متواضع، قصصك مبهمة لنقل غير ناضجة، لكن المثير ونحن نبحث في القضية التي تعرفها جيدا بل السؤال الذي حيرنا حقيقة لم عدت إلى الكتابة في هذا الظرف الصعب من تاريخنا؟
ـ تكلم.
وآخر:
ـ”لم توقفت عن الكتابة منذ سنوات؟ لم استهوتك الكتابة الآن عن اختفاء القطط؟”
تصوروا شرطيا بزيه المدني يسألني بإلحاح عن الفائدة التي أجنيها ككاتب من الكتابة عن قضية تافهة كتلك التي يروج لها أنصار البيئة ؟
منح لي الوقت الكافي لأتحدث عن نفسي، كان ذلك الشيء الرائع الوحيد الذي أسجله للشرطة كفعل حضاري و ايجابي، كأني أكتشف نفسي مجددا ، أتذكر لحظة الميلاد و الموت و الاضمحلال ولحظات أخرى أكثر بؤسا وفقرا، أتوجع.. خاصة من تلك النظرات التي تثقب هيكلي و روحي و الشرطي يدوّن كلماتي الضائعة في الهواء، في الدهليز. في الحقيقة، حينها انتظرت كلابة تنهش ما تبقي من لحمي، أظافري..إذن أتوخى الحذر بالقول الجميل المداهن مرغما، حتى لغتي تواطأت، كانت أقل شعرية و أقل عنفا مما اختزلته كل هذه السنين الأخيرة. قلت بشكل مباشر أن موضوع الفئران في نهاية الأمر هو يشكل تحولا في مساري، لا أقصد طبعا التحولات السياسية الأخيرة، كل ما في الأمر كنت أتساءل بصوت مسموع: لو تتكاثر الفران في قريتي ماذا سيحصل؟ لنفرض جدلا أن القطط أيضا اختفت فجأة من أزقتنا و بيوتنا الآمنة؟
أحدهم يسجل كلماتي المبعثرة عن مساري المهني، عن هوايتي كعاطل عن الشغل، لم أغادر الحي أبدا، أخيرا استهواني موضوع لا يخفي على أحد: القطط من باب الاكتشاف أو الاستمتاع و أنا الذي فقدت الرغبة في النوم و العشق. فكتبت القصة على أساس أنها استعراض لغوي أو فنتازيا في الأخير هي لعبة لغوية حقيقة لا أكثر.
المحقق يسأل عن جمل مثيرة جاءت في سياق القصة.
ماذا تقصد بهذه الكلمات: وزير الداخلية؟ مساءلة، مؤامرة…؟
قلت:
ـ “سيدي..تقرأ الجملة تلك كما جاءت في سياقها الطبيعي، تصورت مبنى ضخما هاجمته الفئران الكثيرة جدا جدا..”
قاطعني: أعرف هل تظنني بليدا مثلك.
لا..
ضحكوا…
قهقهاتهم اخترقت حياتي..
طلبوا نسيان ما كتبت كإجراء سريع ثم..
واصل المحقق قائلا:
ـ “ما لفائدة التي تجنيها ككاتب من قصة…؟ طبعا في هذه الحالة لا نستبعد فرضية المؤامرة، أتمنى فعلا أنك بريء..”
حكاية أخرى
وقعت شيئا ذي أهمية بالغة بابتسامة عريضة. لا، كنت أضحك لأني برئ، من يدري؟