وتجلّتْ رايةُ النصر، كصورةٍ وضاءةٍ مشرقة، حملها فرسانٌ لاذوا بقلبِهم ووجدانِهم بكل القيم الروحية، ساروا متوغلينَ بين دروب الإنسانية، قاطعينَ العهدَ بطردِ الطغاة من أرض نينوى، و ردّ الحقوق المغتصبةِ إلى أهلها غير منقوصة، عاقدينَ العزمَ على أن يُعيدوا للحدباءِ أمجادها، التي تمتدُ جذورها في أعماق التأريخ، فتوّرق أثمارها، وتغرّد أطيارها، ويستظل الناس من فيئها بظلٍ ظليلْ.
ففي السنوات العجِافِ السود الحالكة، أيامَ جثَمَ الدواعش على نفوسِ أهلِ نينوى، وقضّ مضاجِعهم، وأرّقَ ليلهم وأقلَقَ نهارهم، وشغلَ كل فردٍ بمصائبهِ ورزاياه. وعملَ على تمزيق النسيج الموصلّي وتقطيع أواصرهم وخلق عداواتٍ وهمية. فإنّ الشعب ظلّ مؤمناً إيماناً راسخاً في حنايا قلوبهم بتلكَ الأواصر التي تشدّ بعضَهم إلى بعضِهم. وأصدقُ ما يكون هذا الإيمان، عند المحن والشدائد.
فبعدَ أن كانت الحالةُ ضيقٌ وألمْ، فزعٌ وضجرْ حتى بلغتْ عنفوانها قُبيل التحرير ليكون النصرُ مؤلاً ومغيثا، ليكون النجاة من حياةٍ أصبحَ جحيمها لا يُطاقْ وأستمرارها ضرباً من المستحيل.
قامَ فتيةٌ من أبناءِ المدينة، وبتلكَ الروح الخالصة المتيقنة، تحالفوا وأنتفضوا على أن يقصموا ظهرَ الإرهاب ويقضوا على التطرف ومفاهيمها إلى الفناء، فقعدوا لهم كل مقعد وقارعوا عناصر داعش في الأزقّةِ والطرقاتْ وأستخدموا الكواتمَ والمنشورات، حتى أمتلأت تلك الأيامُ بالحوادثِ العِظام ذات الأثر البعيد في حياة الموصلّيين، فلاقى على أثرها أغلبُ أبطال المقاومة ضروب العذاب. لكن النفسَ المؤمنة حقاً، هي التي تؤمن بتحمل الشدائد والأهوال، وشتى المِحَنْ وأنواع البلاء.
وما هذهِ الأحداث المضطربة، والنفوس المتوثبة، والصيحاتِ المدّوية والصراع العنيف، إلاّ طبول النصرِ تتجهزُ للمستقبلِ الباسم القريبِ بجهازه.
فما أن دقت ساعة الصفر، حتى تجاوبتْ معها القلوب، وتطلّعت إليها الشعوب، وصارَ نورها كالبرق يبددُ الظلم ويوقض الغافلين. فقد وقفَ أهالي نينوى مع الجيش وقفةً غيرّت التأريخ، وضربت العدو ضربة قاتلة، فلم تقم لهم بعدُ قائمة، و ردّتهُ خزياً أسفاً مهزوماً ومدحوراً، فيالها من وقفة. كتبت الوحدة بين الجيش بمختلف تشكيلاته، والشعب بكافة أطيافه بالدماء والأرواح.
وتدور الأيام دورتها، ويتألقُ نجمُ المؤمنين، و يواتيهم النصرُ بعد النصر، حتى تم التحريرُ والإستقرار الكامل للمدينة.
بهذهِ البطولة المستمدة من وحي الله التي أوحتْ لكلِ ذي لبّ، أن النصر معقودٌ بالصبرِ والإخلاص والتقوى. فليس يومٌ أحقُ بالتأريخ وأولى بالإحتفال من هذا اليوم. وما غُرِسَ في الإنسان من حبِ الأوطان هو المنهاج المستقيم لأبطال الحقِ في هذه الدنيا، والنبراس لمن أرادَ أن يحفظ من التأريخِ دروساً.
وها نحنُ أولاءِ نقولُ للدواعش الطغاة. إنّ حقاً على الله أن لا يرفعَ شيئاً في هذه الدنيا إلاّ وضعه، وهو عزّت قدرته يمهل للظالم حتى إذا ما أخذه لم يفلته.
وقدْ قذفَ في قلوبكم الرعب وأذِنَ لمَجدِكم بالمغيب، بعدَ أن عُثتم في الأرض فساداً حيناً من الدهر، لم يكن شيئاً قليلا.