لطالما هذّب العربيّ روحه بالأدب النفيس، ولو قلنا الأدب الجاد لربما ما أخطأنا، كالشعر بفنونه وبحوره، ولكنّ النفس تشتهي الطرب والموسيقى في الأفراح والأعراس والأسفار والليالي الملاح. أنشد اليونانيون والبابليون والفراعنة، وكلّ له إنشاده، في معابدهم لآلهتهم، أو لأبطالهم على المسارح بين الشعب في المناسبات العامة مثل الإلياذة والأوديسة والإينوما إيليش (اسطورة الخلق). ويشير (عبد الكريم العلاف) صاحب كتاب (الطرب عند العرب) أنّ عرب الجاهلية كانت أولى موسيقاهم وهم يسوقون الأبل، ويدعى (الحداء)، وفي ذلك أنّ (مضر بن نزار) كان حادياً للإبل حدث أن سقط مرة عن بعيره وانكسرت يده فجعل ينادي (يا يداه! يا يداه!) وكان أحسن الناس صوتاً فطربت الإبل لنغمة ذلك الصوت وجدّت في سيرها فوضعوا من ذلك شعراً من الرجز وجعلوه للحداء فكان قول الحادي: “يا هاديا! ياهاديا!.. يايداه! يايداه!”، والحداء أول الترجيع في الجاهلية، فتمدّ الإبل أعناقها وترفع رؤوسها وتنظم خطواتها وتسرع في سيرها.
ثم كانت لهم أغاني في الحرب تغنيها النساء لحثّ الرجال على القتال، ومن ذلك ومما ورد في نفس الكتاب، أنّ (الفند الزماني) البطل المشهور دخل المعركة وإلى جانبه ابنتاه وهما شيطانتان من شياطين الإنس فلما اشتدت المعركة وتردد النصر خلعتا ملابسهما ومشيتا بين صفوف المقاتلين عاريتين تنشدان: “وغى وغى وغى.. حر الحرار والتظى..” ثم اقبلت من ورائهما كرمة بنت ضلع أم مالك بن زيد فارس بكر تتغنى: “نحن بنات طارق.. نمشي على النمارق..” وهذه الأبيات تغنت بها هند بنت عتبة في معركة أحد.
ويكتب (هادي العلوي) في كتابه (فصول عن المرأة) عن ضرورة وجود النساء مع المقاتلين لدعم المعنويات، فالفرار من المعركة يكون عندئذ عاراً مزدوجاً: فرار من الحرب، وترك المرأة للعدو. ويشير إلى حادثة في معركة فتح البصرة عندما كان عدد العرب قليلاً بالقياس إلى الجيش الساساني، فخرجت النساء تقودهن زوجة عتبة بن غزوان وهي ترتجز: “إن يغلبوكم يولجوا فينا الغُلُف” فاستقتلوا حتى أزاحوا الجيش عن مواقعه واستكملوا فتح البصرة. ولو أردنا الإسهاب في حوادث من ذلك، فعلينا أن نشير إلى ما ورد في كتاب (تاريخ النجف) لمؤلفه (السيد حسين بن السيد أحمد البراقي النجفي)، من أن الشيخ جعفر الكبير الملقب بكاشف الغطاء “أمر النساء أن يخرجن من خدورهن ويشجعن الرجال على القتال والجهاد، فخرجن وهن لابسات الحلي والحلل وعليهن العطور، كاشفات الوجوه، ناشرات الذوائب والشعور..” في معركة قادها ضد الوهابيين في بدايات القرن التاسع عشر. وغنّت النساء في الجاهلية في الحزن على موتاهن وقتلاهن في المعارك، فقد ناحت من نساء قريش هند بنت عتبة على أبيها وأخيها، وناحت الخنساء على أخيها صخر، وفي نفس الكتاب لعبد الكريم العلاف، إنّ زينب بنت علي بن أبي طالب (ع) قد بعثت إلى المغني ابن سريج بشعر أمرته أن يصوغ فيه لحناً يناح به فصاغ فيه وهذا هو الشعر: ” يا أرض ويحك أكرمي أمواتي.. فلقد ظفرت بسادتي وحماتي”.
وكان الناس في مصر يسمون المغنين بـ(دواخل مصر) وفي ذلك أنّ المحدثين يقولون عن حسن الصوت دخولاً وعن نشازه خروجاً. ولطالما واجه الغناء جدلية التحليل والتحريم، حتى عُدّ الغناء “أمراً هزيلاً، لا يليق أن يشغل فراغ أي مؤمن صالح”، أما المغنون فهم “محقّرون مهانون من جانب الرأي العام”. وهي عبارة من كتاب (وصف مصر) للكاتب الباحث الموسيقي الفرنسي (جيوم فيوتو) الذي جاء مع نابليون بونابرت أثناء حملته على فرنسا، والذي وصف في كتابه كل أحوال مصر النغميّة من الأذان في المساجد، وتلاوة القرآن على المقامات وحلقات الذكر إلى غناء العوالم والأفراح وحتى أناشيد المسحراتية.
ولكن في عصوره الذهبية، كتب الشعر الغنائي حتى الفقهاء والمحدثين وكلّه في الحبّ العذري والغزل العفيف أو في الذات الإلهية، ومن هؤلاء الشافعي الذي غُنيت له في محافل الذكر قصيدة “دع الأيام تفعل ما تشاء..” المعروفة، وابن الفارض الذي قيل أنّ “الصوفية في مصر لا يزالون يحفظون أناشيده عن ظهر قلب”، ومحي الدين ابن عربي، والبوصيري صاحب البردة، وغيرهم.
عنك ما كتبه مشاهير النجفيّين من المعمّمين من أمثال (السيد محمد سعيد الحبّوبي) الذي تأثّر بأسلوب أستاذه (السيّد إبراهيم الطباطبائي) بن (السيّد حسين بحر العلوم) وهو الذي كانت لجدّه الأكبر (السيد مهدي بحر العلوم) جولات شعريّة مشهودة باعتباره راعياً لمعارك الخميس الأدبيّة في عصره.
بلغ الغناء أزهى عصوره وارتقى بين قصور الأمويين والعباسيين، ولما وصل إلى عصر العثمانيين والمماليك خالط النغم الشرقي التركي والفارسي. وكانت عودته إلى ملامحه الشرقية بفضل نخبة من المشايخ، فطلع الغناء والشعر الغنائي منهم بهيئة تواشيح وأدوار وقصائد مغناة ومُناجيات ووجدانيات وأناشيد دينية أو تراثية، فالمشايخ “أنهضوا الغناء والشعر معاً، وكانوا خلاصة مثقفي الأمة الغيورين على تراثها القومي”، من أمثال هؤلاء المشايخ الموسيقيين الشيخ شهاب الدين محمد اسماعيل مؤلف كتاب (سفينة شهاب) الذي قدّم فيه مئات التواشيح ومقاماتها، وخلفه الشيخ المسلوب، ثم محمد عثمان وعبده الحامولي وغيرهم. ومن هؤلاء سنتذكر أشهرهم وأكثرهم تأثيراً:
1- عبده الحامولي وست ألمظ: روحي وروحك حبايب
كانا معاً، علامة حفلات القصور الباذخة في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، في زمن الخديوي اسماعيل وابنه الخديوي توفيق من بعده. (سي عبده) من مواليد قرية الحامول (1830-1901) من أسرة ميسورة الحال، تلّقى تعليمه الأول في كتّاب القرية شأن الكثير من أبناء الفلاحين، لكي يكمل تعليمه في الأزهر، كان حافظاً للقرآن، وكان حاضراً في فرق الإنشاد الدينية والمدائح النبوية ومن هذه الأجواء طلع صوت سي عبده وكان أحلى الأصوات في عصره. سرعان ما اكتسب شهرة وأصبح ألمع مطربي مصر، تجمهر حوله خيرة من الأزهريين والمشايخ وغنى أشعارهم وألحانهم. وفي أحد مشاهد فيلم (ألمظ وعبده الحامولي) الذي أنتج في منتصف الستينيات، نرى شيخاً أزهرياً ممتعضاً يستمع لغناء عبده الحامولي لأغنية (يلّي سامعني قول يانور عيني) الذي يقوم بدوره عادل مأمون وقد امتزجت في انغامه أنغام غير عربية فيصيح الشيخ مغاضباً :” استغفر الله العظيم هذا كفرٌ مبين، الغناء الذي يردده هذا الزنديق، وقد ترك أنغامنا الشرقية الحجاز والسيكا والبيات وغنّى نهاوند! هذه بدعة جديدة جاء بها من اسطنبول، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار!”.. لكنّه سرعان ما يعود لهدأته بعد أن يلمس قلبه طرب الشيخ عبده، فيعود إلى مقعده وقد طوّحه النغم. أما ست ألمظ، واسمها الحقيقي سكينة سليم من مواليد الاسكندرية، فكانت فتاة يتيمة الأبوين. تزوجت أخواتها الكبريات، واحدة تزوجت شيخاً أزهرياً والثانية تزوجت متعهداً في قصر عابدين، والثالثة فكان زوجها (تشريفاتياً) في قصر عابدين، وهذا الأخير سمعها مرة صدفة وهي ترتل القرآن، فطرب واستحسن صوتها، وساعدها على أن تدخل القصر، لتغني وتعزف العود في الحرمليك، وفي رواية أخرى، أنّ مغنية السراي في ذلك العصر واسمها (ساكنة بك) سمعتها تغني وأعجبت بصوتها، فأدخلتها فرقتها، لكن ألمظ تفوقت عليها، وتركت الفرقة وغنت لوحدها، حتى إنّ الخديوي اسماعيل كان معجباً بفنها، وأشيع أنّه فشل في إقامة علاقة غرام معها. أما اسمها الفني فهو يعود لمملوك في قصر الخديوي يدعى (ألمظ)، سمعها تغني مرة فظل يضرب على رأسه لشدة طربه وهو يصيح :”أمان ربي أمان..غني كمان ياستي..إنتي ست ألمظ وتاج راسه” وقيل أنّها سمّيت (ألمظ) أو (ألماظ) وهو تحريف مصري من كلمة (يلماز) التركيّة التي تعني (الماس)، لجمالها وبريقها الذي يشبه الماس، عموماً، ومن ذلك اليوم أصبح اسمها كذلك. كان (سي عبده) قد اشتهر للتوّ وذاع صيته، وشاءت الأقدار أن يقع في غرامها، وأصبحا يغنيان كلّ لوحده لواعج الشوق والغرام في أفراح القصور، ويداعبان بعضهما بأدوار الغناء، ولكنهما لم يلتقيا تبعاً للأصول، فمازالت تغني من وراء حجاب في جناح الحريم في الحرمليك، وهو يغني في جناح الرجال السلامليك.
ومن ينسى صوت وردة الجزائرية في رائعتها (روحي وروحك حبايب)، في الفيلم نفسه، الذي تؤدي فيه دور (الست ألمظ) والذي عرفنا من قراءاتنا أنّ الأغنية الأصلية كانت بهذا الشكل (روحي وروحك حبايب من قبل ده العالم والله.. وأهل المودة قرايب والقلب مش سالم والله) وإنّ الذي غنّاها في الحقيقة (سي عبده). ثم بعد أن تمّ زواجهما، أجبرها على البقاء في البيت وعدم الغناء، وهنالك من يقول أنّ السبب في زواجه منها ومنعها، هو غيرته من نجاحها، وغيرته من إعجاب الخديوي بها. ومن حبها لزوجها، تركت الغناء وانصرفت إلى ترتيل القرآن في بيتها، حتى وافتها المنية وهي في السادسة والثلاثين، فأمر الخديوي أن يشيع جثمانها بالقرب من قصره في عابدين، أما الشيخ عبده فغنّى لها من قلبٍ حزين “شربت الصبر من بعد التصافي، ومر الحال ما عرفت أصافي، يغيب النوم وافكاري توافي، عدمت الوصل يا قلبي عليه”. مرض وتوفي بعدها بخمس سنوات وحزن المصريون على (بُلبُل أفراحهم). وغير الفيلم فقد تناول مسلسل (بوابة الحلواني) أحوال مصر تحت حكم الخديوي اسماعيل، وكوكبيّ الطرب في تلك الفترة ألمظ التي قامت بدورها شيرين وجدي، وعبده الحامولي الذي قام بدوره علي الحجار.
2- درويش: ورّينا اجدع بيه ولا باشا يقدر يعايب ع الحشاشه!
ربما، وقد يكون ذلك مجرد رأي شخصيّ، أنّه يصح تلقيب سيد درويش (1882-1923) بلوركا العرب، ولن يصح القول (لوركا الشرق)، لأن لوركا كان إسبانياً شرقياً بقدر ما كان إسبانياً أوربياً، وكلاهما كان يستعمل أدوات من مدارس الفن الحديث لتجديد الفن الشعبي الأصيل، كلاهما قدم مسرحاً يمزج بين التقليدية والطليعية، فأعمالهما الأدبية، أغانيهما، أناشيدهما، كانت عن هموم الناس ومعاناتهم اليومية تحت قمع الديكتاتور فرانكو أو قمع المستعمر البريطاني، لا فرق، فالوجع من الظلم ذاته إسبانياً أو مصرياً. وردد الشعب أن للثورة ضد المستعمر زعيمان سعد زغلول وسيد درويش. كان شيخاً أزهرياً لكنه غنّى في الأفراح الشعبية، وعلى هذا عوقب بأن طرد من الأزهر، لكنه ظل يحمل لقب الشيخ. وإن كان القارئ يوماً قد مرّ على أعمال نجيب محفوظ الأدبية، سواء رواياته أو الأفلام المأخوذة منها، فإنها تماماً من رحم البيئة التي قدِم منها وغنى لها سيد درويش، بين أزقة الحارات المصرية، بعد أن كان الغناء محبوساً بين جدران القصور (لأولاد الذوات). ومن يعلم ربما تكون (جليلة) العالمة التي وقع في حبها وغنى معها سي السيد في ثلاثية بين القصرين لمحفوظ أن تكون هي ذاتها (جليلة أم الركب) قاهرة الرجال التي أحبها سيد درويش وشغف بها، وغنى لها (أنا هويت وانتهيت) إذ كان معروفاً عنه ولعه ب(العوالم) والغواني، ومنها أنّ اسمه ارتبط لفترة مع (نعيمة) التي علمها العزف على العود وغنت له (يا بلح زغلول) التي جاءت رداً على منع البريطانيين تداول اسم (سعد باشا زغلول). وحياة سيد درويش الأدبية القصيرة التي لم تكن أطول من ست سنوات، إذ مات بعمر 31 سنة، استطاع فيها أن يخلق ما أسماه الكاتب عبد النور خليل بذكاء (الموسيقى المصرية القومية)، فهو من لحن النشيد الوطني المصري (بلادي بلادي بلادي. لكِ حبي وفؤادي)، ومن تلك الموسيقى ما وصل لأسماعنا فعرفنا منها (زوروني كل سنة مرة) أو (أنا هويت وانتهيت) أو (قولوا لعين الشمس ماتحماشي) وهي عن شاب مصري يقتل ضابطاً انجليزياً ويحكم عليه بالإعدام، وقد كانت في الأصل (أحسن غزال البرّ صابح ماشي)، فغنتها المطربة شادية بالصورة المعروفة (أحسن حبيب القلب صابح ماشي)، والأغنية إحدى ثلاث أغانٍ أحبُّ أن أسمّيها (وداعيات شادية)، مع (قال لي الوداع) و(خلاص مسافر) أجادتها بصوتها الذي تصفه أم كلثوم بأنه (الحنان ذاته). أما عن أغانيه الشعبية مثل سلمى يا سلامة، وبلدي يابلدي، والحلوة دي، فهي مثل كل أغنياته، ليست سوى حكايات مريرة عن طبقة مقهورة منسية، حتى أغنية (التحفجية) الحشاشين، فهي وإن كانت في ظاهرها عن الحشاشين، لكنها وشاية معلنة عن الحال في تلك الأيام في هيئة طقطوقة، ومن ذا يلوم الحشاش المصريّ إذا ما صدحت عقيرته بالغناء ضد الحكومة: “هو احنا يعني علشان غلابة .. لا بتوع قراية ولاكتابة، تهينونا؟ فلتحيا التفانين”.
3- الشيخ زكريا أحمد: أهل الهوى يا ليل
كانت زوجة الشيخ أحمد الثانية، تنجب له أولاداً لا يلبثون أسبوعاً في الحياة حتى يدركهم الموت، هكذا حتى أنجبت له واحداً وعشرين ولداً كلّهم ماتوا، فلما قدِم إلى الحياة الولد الثاني والعشرون، كان الشيخ أحمد يائساً، حتى إنّه لم يسمِّه، فلما تجاوز أسبوعه الأول وأيقن من حياته، استخار له من القرآن اسماً، فكان الطفل زكريا المولود 1907.
دخل زكريا الأزهر، درس فيه لست سنوات، حفظ القرآن وتعلّم تجويده، وكان شيوخ الأزهر يطربون لتلاوته ويعدونه بمستقبلٍ مزهرٍ كقارئ قرآن، وهو لم يتجاوز الثانية عشر من العمر. كان الشيخ يتردّد بعمامته وجبّته إلى المقاهي التي يأتيها الموسيقيون والمطربون، فمنع من دخول الأزهر، من ثم فصله من الدراسة فيه وهو في الثالثة عشرة من عمره، إثر اعتدائه على أحد المشايخ المدرّسين بعد أن نعته بالولد الغبي. فقرر أن يصبح منشداً للأغاني الدينية وقارئاً للقرآن، وتشهد له مشايخه على طلاوة صوته، ثم إنّه في طفولته ورث عشق الغناء من والده الذي كان يهوى التواشيح والأغاني التراثية، أما والدته التركية فزرعت فيه شيئاً من التراث الطربي التركي. خلع عنه العمامة والجبة وقرّر أن يكون ملحناً ومغنياً رغم التقاليد التي كانت تمنعه، فأبوه كان يضربه كلّما سمعه يغني أو عرف بوجوده في سهرة طرب، ويحاول إقناعه بإكمال دراسته، وحذّره من نهاية المغنين ويذكر له مثالاً عن أشهرهم عبده حمولي الذي مات فقيراً مُعدماً، لكن دون جدوى، فالصبي نذر نفسه للغناء وهرب من البيت.
كوّن الشيخ زكريّا مع أم كلثوم وبيرم التونسي (ثلاثي النغم الذهبي)، وكان لا يؤلف الموسيقى إلا في سهرات بوجود رهط من صحبه يلقبّهم بأهل الهوى، وكان بينهم الشيخ زكريا (سيد المتحدثين) كما لقبّه عبد الوهاب، وغنت لأجلهم أم كلثوم (أهل الهوى يا ليل) ولحنّها الشيخ على مقام النهاوند وكلمات بيرم فطلعت الأغنية لتكون تمام الرقة والجمال والطلاوة. وصف نجيب محفوظ إحدى ليالي أهل الهوى بأنّها: “ليلة عيد كبير، اجتمعنا في بيت شيخ الملحنين زكريا أحمد. كنا جمهرة من الأصدقاء منهم من يقرض الشعر ومن يرتجل الزجل ومن يشتغل بالموسيقى..” وعلى مقام الصبا لحن لها (هوى صحيح الهوى غلاب) ومن كلمات بيرم أيضاً. ومما يروى أن خلافاً وقع بين زكريا وأم كلثوم وصل إلى المحاكم فحدثت قطيعة بينهما لمدة اثني عشر عاماً، وكان القاضي سمّيعاً من الطراز الأول فأبى أن يستمر الخلاف أكثر مما كان، فصالحهما وكانت أغنية (هو صحيح الهوى غلاب) هي أول أغنية يلحنها الشيخ زكريا لأم كلثوم بعد تلك القطيعة، لحنها في البداية على مقام الرست ثم على مقام البيات لكنّ الست كانت تنتظر مقاماً آخر، أكثر صعوبة وأكثر ندرة بين الملحنين والمغنين، فكان مقام الصبا، وهو المقام الأكثر شجناً ولوعة في الطرب العربي. ومن براعته في التلحين أنّه الوحيد الذي كان يقدم النفائس الطربية بهذا المقام فحتى عبد الوهاب –نقلاً عن الكاتب كمال نجمي- لم يلحن سوى قطعتين من هذا النغم طوال حياته. وكانت هذه الأغنية هي العمل الأخير المشترك بين الثلاثة قبل أن يدرك الموت (أمير الزجل) وبعده بأربعين يوماً التحق به (شيخ الملحنين).