” أنا شخصياً ، أنا اليهودية ، أنا سليلة العائلة اليهودية التي فقدت عائلتها في المحرقة النازية، شاهدة على ما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي بأم عيني، شاهدت الفظائع التي يرتكبها هذا الاحتلال وجرائمه ضد الشعب الفلسطيني” هذا ما جاء في كتاب “بأم عيني” للمحامية اليهودية فيليتسيا لانغر المعادية للصهيونية والمدافعة عن حقوق الأسرى الفلسطينيين والعرب في السجون ” الإسرائيلية” ، وهو شهادة عادلة ومنصفة على الانتهاكات السافرة لحقوق الإنسان التي يرتكبها الاحتلال “الإسرائيلي”.
وكان اسم فيليتسيا لانغر قد ارتفع في المحافل الحقوقية الدولية بالتدرّج بعد نكسة 5 يونيو (حزيران) العام 1967، وارتبط حينها بأسماء عدد من المثقفين والأدباء الفلسطينيين الذين بدأ أدبهم وشعرهم ينتشر في العالم العربي الذي أخذ يقرأ محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وأميل حبيبي وغسان كنفاني وإميل توما وإدوارد سعيد وناجي العلي وغيرهم، في موجة من الإعجاب لدرجة الانبهار بالأدب الرفيع واللغة الأنيقة والكلمة المقاومة والريشة المحرّضة.
أطلق الأسرى الفلسطينيون على فيليتسيا لانغر لقب”الحاجة فولا” التي قامت بتمثيلهم أمام المحكمة العسكرية وكان مكتبها في القدس قد رفع دعاوى بالآلاف ضد الجيش “الإسرائيلي” و”المخابرات الإسرائيلية الداخلية – الشاباك”، وقد نجحت في الكثير من القضايا على إطلاق سراح الأسرى وحالت دون تنفيذ قرارات ترحيل آخرين أو إبعادهم، إلى جانب مساندتها نضالاتهم داخل السجون ودفاعها عن مطالبهم العادلة لتحسين ظروف اعتقالهم وتطبيق اتفاقيات جنيف لعام 1949 بشأن ” معاملة الأسرى”.
وعملت لانغر على فضح جهاز الشاباك بكشفها حقيقة ما يتعرّض له الأسرى من عمليات تعذيب وحشية جسدية ونفسية، ولاسيّما للنساء والأطفال، وساهمت بتزويد الإعلام والمنظمات الحقوقية الدولية بمعطيات وشهادات حيّة وحقيقية عن أساليب التعذيب التي تمارس في السجون والمعتقلات “الإسرائيلية” خلافاً للمواثيق والاتفاقيات الدولية وللقواعد القانونية العامة كاشفة حقيقة النظام العنصري الاستعلائي الاستيطاني ودعاواه “الديمقراطية” الزائفة.
وكان أهم ما تركّز عليه لانغر في دفاعها عن الأسرى مسألتين أساسيتين هما:
الأولى أن المعتقلين هم “أسرى حرب” ينبغي أن تطبّق عليهم اتفاقيات جنيف لعام 1949 وفيما بعد بروتوكولي جنيف لعام 1977 الأول – الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة والثاني- الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية.
والثانية- إن من حق الفلسطينيين مقاومة الاحتلال، وإن من يجب محاكمتهم هم قادة الاحتلال وذلك طبقاً للقانون الدولي المعاصر والقانون الإنساني الدولي والشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
وكنت بسبب انشغالاتي بالقضية الفلسطينية قد قرأت بإعجاب شديد، في أواخر السبعينات، كتابين لفيليتسيا لانغر: الأول- بعنوان ” بأم عيني” والثاني- الموسوم “أولئك أخواني”. وقد أدركت منذ ذلك الحين وعلى مرور نحو خمسة عقود أهمية “المقاومة القانونية” في مواجهة الاحتلال “الإسرائيلي”، لاسيّما في الدعوة لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية، إضافة إلى جريمة شن الحرب وتشريد شعب واغتصاب وطنه، وأعتقد أن المعركة الفكرية والثقافية، سواء على المستوى الدبلوماسي والدولي، ولاسيّما في جانبها الحقوقي والقانوني لا تقلّ شأناً على المواجهة بمختلف جوانبها من أجل تمكين الشعب العربي الفلسطيني في حقه بتقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
وتتأكّد هذه الحقيقة يوماً بعد آخر أن “القوة الناعمة ” يمكن أن تكون سلاحاً مؤثراً وفعّالاً استكمالاً متوازياً مع الأسلحة الأخرى ، علماً بأن الدبلوماسية والقانون وحقوق الإنسان تتداخل مع الحقول الأخرى السياسية والثقافية والاقتصادية إلى حدود كبيرة وهي في ديناميتها جزء من حركة مقاومة سلمية مدنية ضرورية، وهو ما يحتاج إلى استراتيجية تكاملية بين وسائل الكفاح المختلفة، لتفنيد الرواية “الإسرائيلية” ومزاعمها الخرافية.
توفيت لانغر عن عمر ناهر الـ 88 عاماً، فقد ولدت في العام 1930 في بولونيا من أبوين يهوديين وهاجرت إلى فلسطين المحتلة العام 1950 برفقة زوجها ميستيو لانغر الناجي من معسكرات الاعتقال النازية، ودرست القانون وتخرجت من الجامعة العام 1965، وقد انضمت إلى الحزب الشيوعي، ولكنها تركت ” إسرائيل” في العام 1990 وهاجرت إلى بلدها الأصلي ألمانيا، لأنها كما قالت لصحيفة الواشنطن بوست: لا تريد أن تكون “ورقة التين لتغطي على الاحتلال”.
نالت في العام 1990 جائزة الحق في الحياة (المعروفة باسم جائزة نوبل البديلة) لدفاعها عن حقوق الشعب الفلسطيني. وحصلت على جائزة كرايسكي (النمسا) العام 1991 لانجازاتها في ميدان حقوق الإنسان ومنحها الرئيس الألماني هورست كولر في العام 2009 “وسام الصليب الفيدرالي لجمهورية ألمانيا الاتحادية”، كما منحتها السلطة الوطنية الفلسطينية “وساماً فلسطينياً” رفيع المستوى .
مارست لانغر قناعاتها الفكرية برفض الاحتلال بكل شجاعة وجرأة ولم تثنها الحملة الصهيونية ووصفها “بالخائنة” والإساءة إليها عن مواصلة كفاحها الحقوقي العادل، بل دفعها ذلك لتكريس حياتها كلّها للدفاع عن القضية الفلسطينية ومناهضة الصهيونية، ولم تمنعها رؤية المحرقة من وقوفها ضد اضطهاد شعب آخر تم وضعه تحت محرقة مستمرة.
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية ، الاربعاء 4/7/2018