كتاب مشترك، تحرير الدكتور فارس كمال نظمي
عرض/ كاظم حبيب
صدر عن “دار ميزوبوتاميا” ببغداد في العام 2015 كتاب جديد تحت عنوان “الرثاثة في العراق، أطلال دولة … رماد مجتمع”، يتضمن “نصوصاً تشريحية للوظيفة الهدمية للإسلام السياسي” بالعراق. وقد ساهم في إنجاز هذا الكتاب 21 من الباحثات والباحثين العلميين والكاتبات والكتاب في مجالات وعلوم السياسة والاقتصاد والمجتمع وعلم النفس والتاريخ والفلسفة والثقافة والأدب والفنون الإبداعية والصحة والعلاقات العامة. وقد أخذ الدكتور فارس كمال نظمي على عاتقه مهمة تحرير هذا الكتاب القيم وإصداره. وحقق ذلك بشكل رائع وبجهد كبير ومحمود.
اسُتخدم مصطلح الفئات الرثة في الفكر الاقتصادي، وخاصة الماركسي، للتعبير عن أوضاع تلك الفئات الاجتماعية الفقيرة والمعدمة والمهملة من الدولة والمجتمع والتي تعيش على هامش الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية. والمصطلح العربي “البروليتاريا الرثة” هو ترجمة حرفية للمصطلح الألماني Lumpenprolitariat . والكُتّاب هنا لا يقصدون في مقالاتهم هذه الفئة الاجتماعية الواسعة والموجودة بالعراق وفي كل البلدان النامية، وهي ما تزال موجودة في الكثير من الدول الرأسمالية المتقدمة وفي تلك الدول التي تقف على حافة التحول أو الانتقال صوب الرأسمالية والتي يطلق عليها بالألماني Schwellenländer، كما تسمى أحياناً ببلدان العالم الثاني التي تقع في مستوى تطورها بين العالمين الصناعي الأول أو المتقدم والعالم النامي أو المتخلف اقتصادياً واجتماعياً وعلمياً وفي مستوى تطور قواه المنتجة المادية والبشرية.
ولكن هذا الكتاب الذي ساهمت فيه هذه المجموعة من الباحثين العلميين لم يقصدوا هذه الفئات الاجتماعية الفقيرة والكادحة والمحرومة والمضطهدة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً وتعليمياً، بل هم يقصدون تلك القوى والأحزاب والجماعات أو الشخصيات السياسية والمالية وغيرها التي تمارس الحكم بالعراق ونشرت عبر وجودها في السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) الرثاثة بكل أبعاد هذه الكلمة في الدولة والحكم والتشريع والقضاء والمجتمع، وفي سلوك أجهزة الدولة مع المجتمع وأدوات وأساليب الحكم، كما نشرت الرثاثة في العلاقات الاجتماعية وفي المدن والريف العراقي وشوهت الشخصية العراقية التي لا بد أن تعود إلى نقائها يوماً. إنهم ليسوا بالضرورة من فئة اجتماعية واحدة بل يمكن أن ينحدروا من طبقات وفئات اجتماعية مختلفة ولكن المحدد لهم المحك الذي نستند إليه يبرز في الفكر الذي يتبنونه والسلوك الذي يمارسون به نشاطهم الهدمي للمجتمع والاقتصاد والفكر والثقافة والبيئة بالعراق. ويمكن أن يجد المتتبع ذلك بوضوح تام في الفساد المالي والإداري المنتشر بالبلاد والذي تحول منذ إسقاط الدكتاتورية من ظواهر سلبية واسعة الانتشار، وخاصة في أعقاب احتلال الكويت وحرب الخليج الثانية والحصار الاقتصادي الذي دام 13 سنة، إلى نظام System معمول به ومقبول من قبل الدولة والسلطات الثلاث والمجتمع منذ سقوط الدكتاتورية البعثية الغاشمة واحتلال العراق في العام 2003 وبناء حكم طائفي ومحاصصة طائفية وأثنية بالبلاد، رغم رفض هذا النظام الشائن من الجماعات الأكثر وعياً في المجتمع. فالرثاثة بهذا المعنى تجد تعبيرها في السلوك والعلاقات الاجتماعية والأساليب والأدوات والأهداف التي فرضتها القوى الماسكة بقيادة الدولة والسلطات الثلاث، إنها أحزاب الإسلام السياسي الحاكمة بالعراق، إنها الأحزاب التي تمارس قوة الهدم والتخريب والطائفية السياسية المقيتة والتشطير الفعلي للمجتمع على أسس قومية شوفينية ومذهبية طائفية متطرفة وعدوانية إزاء الديانات والمذاهب الأخرى. إنها شوهت وهمشت الدولة والمجتمع!
إن كُتاّب مقالات هذا الكتاب تكشف عن زيف الإيديولوجية الحاكمة وأحزابها الإسلامية السياسية بشكل خاص وتشوهاتها والعواقب المريعة الناجمة عنها على الفرد والمجتمع. ويمكن أن نشير هنا إلى بعض من تلك العواقب الوخيمة التي تجد تعبيرها في كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والعلاقات في ما بين الأفراد والجماعات وفي التخلي عن نهج المواطنة والمجتمع المدني إلى نهج التمييز والتهميش والإقصاء بل والقتل لأتباع الديانات والمذاهب الأخرى من جانب قوى وأحزاب الحكم الطائفي. كما داست على قيم الاستقلال والسيادة الوطنية في علاقاتها مع دول الجوار والعالم، وجعلت العراق أكثر مكشوفية على اقتصاد النفط (الاقتصاد الريعي الوحيد الجانب) وعلى العلاقات الاقتصادية الدولية، وبشكل خاص التجارة الدولية تصديراً واستيراداً.
وإذا كان حكم البعث قد كرس بالعراق دعائم وسياسات الاستبداد والقهر السياسي والاجتماعي والحروب الداخلية والخارجية والحرمان في فترتي حكمه الأولى (1963) والثانية (1968-2003)، وحوَّل البلاد إلى سجن كبير على مدى نيف وثلاثة عقود، فأن نظام الحكم الطائفي السياسي الجديد قد استثمر واعتمد ذلك الخراب الروحي والسياسي والأخلاقي ليمعن فيه ويعمق في خراب البنيان الهش ويجعل من العراق والفرد والمجتمع عمارة خربة وبؤس حقيقي لملايين البشر وفاقة فكرية وسياسية واجتماعية وتسييد تربية ثقافة صفراء جرداء وينشر حياة قاحلة بكاءة، ويمعن في تكريس مخلفات النظام الدكتاتوري السابق.
سيكتشف القاري أو القارئة لهذا الكتاب بمقالاته الـتي بلغت 22 مقالاً ودراسة بأنه يقرأ في سجلٍ مفتوح ما سطَّره الكتَّاب العراقيون بموضوعية عالية ووعي عميق بالواقع العراقي حول سمات وخصائص الأحزاب والقوى والبلد والحكم والمجتمع في واحدة من أسوأ المراحل التي مرًّ بها العراق وما يزال يعيش فيها حتى الآن. إذا كان الفساد هو المنجز الأول لهذا النظام السياسي الطائفي بالعراق فأن المنجز الثاني هو الإرهاب الذي تسلط على رقاب الناس والذي مارته ميليشيات طائفية سياسية مسلحة، سواء أكفرت الإنسان أم لم تكفره ولكنها في الممارسة العملية استخدمت العنف والقسوة في القتل على الهوية وفي قتل المزيد من البشر أو تشريدهم وتهجيرهم. إن المليشيات الطائفية المسلحة، سواء أكانت شيعية أم سنية، هي أحد منتجات النظام السياسي الطائفي الذي ابتلي به العراق منذ إسقاط الدكتاتورية، وسياسات هذا النظام الطائفية الشرسة هي التي أدت إلى اجتياح العراق من بوابة الموصل وما لحق بسكان نينوى من عواقب وخيمة، وخاصة بالنسبة للإيزيديين والمسيحيين والشبك وتركمان تلعفر. والذي أدى إلى تشريد عدة ملايين من البشر من محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار وديالى وكركوك على وجه الخصوص. كما قتل الآلاف من الناس الأبرياء على أيدي جحافل الأوباش عصابات داعش وقادة البعث العسكريين وسبي النساء الإيزيديات من سنجار وزمار وغيرهما واغتصابهن وبيعهن في سوق النخاسة واختطاف المئات من الأطفال الإيزيديين وتربيتهم على القسوة والقتل والتدمير، إضافة إلى محاولة تدمير الذاكرة العراقية التاريخية من خلال تدمير تراثه الحضاري بمحافظة نينوى.
لقد أبدع الدكتور فارس كمال نظمي في التمهيد أو المقدمة التي وضعها لهذا الكتاب والتي أوجز فيها ما يعاني منه العراق في ظل الرثاثة الحاكمة والتي جاء في بداية التمهيد المقتطف التالي :
” أوانَ تتهرأ الحياة اليومية في أي مجتمع بشري، حد انفراط العقد الاجتماعي، واندثار المعايير الجامعة، وانحطاط الوعي بالذات المشتركة، وتهشم الذاكرة الوطنية، وتفتت الهاجس المستقبلي، وزوال الذائقة الجمالية، وازدراء الجدوى من أي فضيلة، وازدهار ولع التنكيل بالآخر، وهيمنة العدمية السلوكية، وطغيان الأسطرة الكهنوتية؛.. حينذاك تختفي الغاياتُ كلها، ويصير الوجودُ العاقلُ محضَ فوضى بيولوجية لاستقواء اللحظة على الزمن، ولاحتفاء الخواء بالألم، ولتجذّر الموت في كل حياة!
هل يبتعد العراقُ اليوم َ- إنساناً ومجتمعاً وسلطة ودولة – عن هذا التوصيف كثيراً؟ هل نغامرُ بعيداً بسعينا لإشتقاقِ تأطيرٍ فكري لكل هذا التهرؤ والانفراط والاندثار والانحطاط والتهشم والتفتت والزوال والازدراء والتنكيل والعدمية والأسطرة، ضمن مفهومٍ تشريحي/ استنتاجي، متعدد الأبعاد والاختصاصات، أجدني منقاداً لتسميته بـ”نـزعة الرثاثة” التي باتت تغلف الحياة العراقية، بوصفها تعبيراً عن ثقافة الإسلام السياسي العراقي الحاكم منذ 2003م. وهذه الرثاثة الإسلاموية ما كان لها أن تتسع وتتسلط بكل هذا “العنفوان” لولا عامل ممهد أساسي هو الأرضية السوسيوسياسية التي وفرتها حقبة الاستبداد البعثي (1968- 2003)م إذ جرى وقتها تدميرٌ منظم للثقافة السياسية المستنيرة والمتحدية للمجتمع العراقي، على نحو فريد في تسلطيته وساديته وشموليته.”
المصدر/ موقع الناس