17 نوفمبر، 2024 9:53 م
Search
Close this search box.

سياحة في فكر المرجعية – 1 / عرض وقراءة لكتاب (المعالم المستقبلية للحوزة العلمية الشريفة)

سياحة في فكر المرجعية – 1 / عرض وقراءة لكتاب (المعالم المستقبلية للحوزة العلمية الشريفة)

الكتاب الذي بين أيدينا هو من الكتب الصادرة حديثا والمهمة في مجالها، كتاب يمثل رؤية مستقبلية لمؤسسة لا يمكن تجاهل دورها في المجال الفكري والثقافي والديني والسياسي وكتب عنها الكثير من الدراسات والبحوث ألا وهي الحوزة العلمية الشريفة في النجف الاشرف.
والمؤسسة لها من الامتداد التاريخي ما يؤهلها للبقاء والاستمرار والتطور لان ارثها مما يغبطها عليه الصديق ويحسدها العدو. هذه المؤسسة التي كانت المحور والمنطلق للكثير من الثمار التي قطفها أبناء الأمة الأسلامية سواء على صعيد رعايتهم دينيا أو ثقافيا أو سياسيا. وامتد تأثيرها ليشمل جميع الطوائف والمذاهب والأديان حتى إنها تبؤت القمة عند كل طارئ ومعضلة، وما التفاف الأمة حولها إلا لبعدها الإلهي الروحاني والذي ربما لا يدركه ويفهمه من تأدلج تماما على المادية البحتة فلا يتصور كيف لها هذا التأثير على الأمة. وهذا البعد الإلهي يعود إلى ارتباط هذه المؤسسة بالنبي واله عليهم جميعا سلام الله فكانت صمام الأمان والأم الرحيمة التي تحتضن أبناءها وتساعدهم كلما وقعوا في مشكلة أو أرادوا استبصار الطريق الصحيح من منابعه فكانت مرجعا دينيا ودنيويا يلتجأ إليه. وغالبا ما تفوض الأمة أمرها إلى الحوزة وتنتظر القول الفصل منها وتطبقه وتسير على ضوئه ولو كان في ذلك ذهاب الغالي والنفيس. وعلى الرغم من أن هذه المؤسسة تعرضت للكثير من محاولات التشويه والقتل والإلغاء إلا أنها صمدت وقاومت وأظهرت قدرة عجيبة في تخطيها للصعاب والمحن وما هذا إلا للطف الإلهي الذي يشملها ويرعاها، ويكفينا أن بعض الدول أو المؤسسات أو الأحزاب أو التيارات تسقط وتزول بمجرد تعرضها لهجمة واحدة لا تقاس بالذي تعرضت له هذه المؤسسة. وقد كان ولازال دورها رياديا وقياديا  في شؤون  الحياة وما هذا إلا لمسؤولياتها المتعددة والتي منها :
١ ــ  الدفاع عن الإسلام والمسلمين .
٢ ــ  المطالبة بحقوق الأمة .
٣ ــ صد الشبه والانحرافات .
٤ ــ رفد المجتمع بالطاقات الفاعلة والواعية .
٥ ــ  اغناء الحركة الأسلامية والفكرية والثقافية بالكثير من الكتب والبحوث .
٦ ــ تنبيه الأمة إلى ما هو صالح لها ورفض ما هو طالح.
٧ ــ الحفاظ على وحدة الأمة.
٨ ــ مساعدة العوائل الفقيرة والمتعففة .
٩ ــ رعاية الأيتام والأرامل وكبار السن .
١٠ ــ دعم وإرشاد للطاقات الفاعلة والنشطة في كافة المجالات .
١١ ــ دعم مؤسسات المجتمع المدني .
وغير ذلك مما هو من نشاطات هذه المؤسسة ومسؤولياتها كالحفاظ على الهوية الإسلامية والوطنية والاهتمام بلغة القران لانها لغة توحد العديد من الشعوب وبيان العقائد الصحيحة من المنحرفة …
وقدمت المؤسسة في سبيل ذلك الكثير من التضحيات والشهداء من العلماء حتى ان الشيخ عبد الحسين الاميني (رحمه الله تعالى) ألف كتابا جمع فيه أسماء العلماء الذين استشهدوا على هذا الطريق واسماه (شهداء الفضيلة). واستمرت التضحيات بعد هذا الكتاب ناهيك عن حملات التشويه والتسقيط. ومؤسسة تجاوز عمرها الألف عام ولا تزال المحور الذي يلتجأ إليه في الملمات وتتقدم وتنتج من الطبيعي أن تكون هناك عوامل وتوجهات مختلفة بداخلها، يمكن اختزالها بتوجهين الأول تقليدي والثاني تجديدي. وأصحاب التجديد رغم إنهم القلة إلا أنهم كانوا دائما الأبرز في التأثير الايجابي في مجريات الأمور وما هذا إلا لما يمتلكون من وعي وثقافة بكافة المجالات وليس فقط في اختصاصهم الفقه والأصول.
وآثار هؤلاء ونتائجهم واضحة المعالم ويشار لها بالبنان وحضورهم تجده في كل واقعة مادامت تمس شؤون الحياة، ومن هؤلاء في عصرنا الحاضر مؤلف الكتاب سماحة المرجع آية الله العظمى الشيخ اليعقوبي (دام ظله).
بقي علينا قبل الدخول في قراءة الكتاب أن نوضح ان كلمة (مؤسسة) فيها مسامحة إن أطلقناها على الحوزة في وقتنا الحالي لان العمل المؤسساتي له شروطه ومزاياه ومؤسسة الحوزة نراها في الأعم الأغلب خلاف العمل المؤسساتي حتى أن بعضهم يصرح ويقول حول نظام الحوزة ومؤسساتها ان: (النظام في اللانظام) فرؤيته ان نظامنا هو اللانظام ولا يرى للعمل المؤسساتي من جدوى وينتقده، وهذا الرأي وأصحابه هم الأغلب لذا نرى غالبا العلماء الواعون ينتقدون هذا الأمر ويعرضون البديل من إصلاح وتجديد ويتعرضون في سبيل ذلك إلى شتى التهم والتسقيط والتشويه والأمر لازال ساريا وكأنه من سنن التاريخ فكم لاقى الشيخ المظفر (رحمه الله) في محاولاته الإصلاحية والشهيدين محمد باقر الصدر ومحمد محمد صادق الصدر والمرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) من صعوبات ومحن، وما أرادوا بحركتهم الإصلاحية التجديدية إلا الخير لهذه المؤسسة وبالتالي ينعكس هذا على الأمة إلا أنهم لاقوا من أصحاب الاتجاه الآخر عكس ما متوقع لا اقل كان المتوقع عدم المساعدة لا المهاجمة والإلغاء مع العلم ان التطور والتجديد ثماره للجميع …
وكتابنا (المعالم المستقبلية للحوزة العلمية الشريفة) هو خطوات مستقبلية تصب في اتجاه الإصلاح والتجديد وهو في حقيقته قد وضعت الخطوط العامة له في زمن النظام السابق وبفترة حرجة من تاريخ الحوزة في النجف ألا وهي ما بعد استشهاد واغتيال المصلح والمجدد السيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) فنرى عبارة ذكرت في بداية الكتاب توضح ذلك نصها:
“مجموعة كتيبات وكلمات صدرت متفرقة أبان حكم النظام الصدامي المباد وألحقت بها ما يتحد معها في الموضوع مما صدر بعد سقوط النظام واختير للمجموعة عنوانا جامعا وهو (المعالم المستقبلية للحوزة العلمية الشريفة لإنه عنوان جامع لأفكارها“.
إذن عنوان الكتاب هو مختص بأحد هذه الكتيبات ثم سمي الكل به لاتحاد الجميع بالهدف والفكرة.
والكتاب مكون من خمسة فصول، الأول بعنوان المعالم المستقبلية للحوزة العلمية الشريفة، والفصل الثاني جامعة الصدر الدينية الهوية والانجازات، والفصل الثالث وصايا ونصائح إلى الخطباء وطلبة الحوزة الشريفة، والفصل الرابع ثمار الخطابة بين المنبر الحسيني ومنبر الجمعة، والخامس أحاديث وحواريات تتعلق بشؤون الحوزة العلمية والمرجعية، ولكل فصل عدة فروع تمثل بمجموعها الكتيبات والكلمات التي صدرت سابقا …
وقبل الدخول في تفاصيل الفصل الأول نوضح ان الكتاب يمثل عملية صحية في النقد البناء هدفه الإصلاح وهو أول خطواته لان كل عمل يراد البدء فيه بالإصلاح والتجديد تكون أولى خطواته تشخيص الخلل ثم بعد ذلك يقدم  العلاج، والنقد البناء هو جزء من حركة الإصلاح والتجديد ويترقى أحيانا الناقد بوضع البديل الأفضل لما نقده أو العلاج وهذا ديدن المصلحين والمجددين.
ومن هنا كان هذا الكتاب وما فيه محاولة إصلاحية بل محاولات إصلاحية كانت أفكارها مختمرة في ذهن سماحة الشيخ المرجع  قبل عدة سنوات وازداد يقينا بها بعد مرور هذه السنوات من تاريخ كتابتها.
فعن تاريخ هذه الأفكار يقول المرجع (دام ظله): “يعود تاريخ الانتهاء من كتابة هذه الأفكار إلى ليلة ميلاد الصديقة الطاهرة الزهراء عليها السلام 20 جمادي الثانية 1420 أي بعد استشهاد سيدنا الأستاذ الصدر بعدة أشهر…”، وهو بهذا يكون ملتفتا إلى الأثر الذي خلفه هذا الاستشهاد من فراغ في الحوزة بعد غياب مصلحها الشهيد الصدر فكان لزاما ألا يغيب هذا الفكر والتيار الإصلاحي وان غاب الأشخاص،  لذا وضع الشيخ المرجع كل ذلك أمام عينيه وكتب هذه الأفكار التي تمثل الفكر الإصلاحي الذي لم يغب يوما عن تاريخ هذه المؤسسة فيقول عن هذه الأفكار: “قد شعرت بعد غيابه (قدس سره) عن ساحة العمل الاجتماعي وعدم نهوض احد بهذه الوظيفة الإلهية بتعين الحاجة للقيام بهذه المسؤولية التي تشمل مساحة عريضة وتحديات واسعة وتجاذبات بعدة اتجاهات…”، فلو أن سماحة الشيخ المرجع (حفظه الله تعالى) وجد ان هناك من يقوم بهذه القيادة والريادة للحركة الإصلاحية لما تصدى لها وفيها ما فيها من المخاطر والتحديات، المخاطر لان النظام حينها كان لا يرحم أحدا ممن سار مع السيد الشهيد فكيف بأهم طلابه ومرشحه الوحيد لقيادة الحوزة من بعده.
وأما التحديات فهي على قسمين داخلي وخارجي، والأول نقصد به الاتجاه الفكري التقليدي السائد لدى الأغلب في الحوزة والذي يرفض ويحارب ويعرقل أصحاب الفكر التجديدي وقد حدث هذا مرارا وتكرارا تجاه الكثير من العلماء المصلحين كما قلنا وهو من الوضوح هذه الأيام نتيجة ما يلاقيه سماحة الشيخ المرجع (دام ظله) ، وهذا الاتجاه التقليدي سيعرقل بل يمنع هكذا خطوات إصلاحية ، وأما التحدي الخارجي فهو النظام الحاكم الطاغوتي المتسلط على رقاب الأمة.
 ولحنكة ووعي الشيخ المرجع وإدراكه لهذا الأمر جعله يستخدم الإصلاح التدريجي الهادئ، أي المتدرج في الخطوات والمتأني في طرحها وهي طريقة قرآنية مباركة في الهداية والإصلاح، وبذا يكون قد سار نحو طريق الإصلاح دون جلب الانتباه إليه لا من قبل أصحاب الفكر التقليدي ولا من قبل السلطة الصدامية الحاكمة، لا أقل عدم لفت انتباههم مبكرا …
والقائد الذي يريد ان يتحرك ضمن خطة عمل مدروسة وله منهج ودستور يسير عليه يستعد لذلك مقدما، لذا يقول المرجع: “فبادرت فور استشهاده رغم الزخم العاطفي الذي يملؤنا إلى تسجيل ستراتيجية عملي للفترة المقبلة في نقاط”، ويقول (دام ظله) حول هذه النقاط انه كتبها في قصاصة صغيرة ليمكن إخفاؤها وهي تمثل الخطوط العريضة لبرنامجه المستقبلي الذي سيسير عليه مع التوسع في بعض الأمور كلما سمحت الظروف وإيجاد غيرها وبطرق مختلفة كلما انسد طريق ما لسبب ما حتى انه شبه طريقته بمثال الإشارات الضوئية المرورية حيث قال مرة ما مضمونه: “إنهم إذا أشعلوا بوجهنا الإشارة الحمراء نتوقف هذا صحيح لكننا لن ننتظرهم حتى يشعلوا الضوء الأخضر، لإنهم قد لا يشعلوه أو يتأخروا في ذلك، علينا أن نبحث عن طريق آخر للمرور دون كلل أو ملل”. والنقاط التي سجلها سماحته عديدة الأغلب منها نفذ على ارض الواقع وتمثل فقرات هذا الكتاب الذي بين أيدينا فيقول (دام ظله): “ثم بدأت بتوسيعها وتسجيل تفاصيل أخرى حتى صار هذا الكتيب الذي اعتز به“.
وكما قلنا إن أي إصلاح  وتجديد مكون من مرحلتين قد تتقدم الأولى رتبة وقد تتداخلا على ارض الواقع إلا أنه تصورا وإعدادا يكون بتقدم الخطوة الأولى على الثانية، والأولى هي تشخيص الخطأ والمرض والثانية العلاج وإيجاد البديل وسد النقص، أما مجرد تشخيص الخلل فقط فهذا غير صحيح ويدخل غالبه في النقـد الغير بناء وكــذلك مجرد العـلاج لوحده دون الوقايــة من أسـباب الخلل فغير صحيح أيضا وعمل غير متكامل لذا يقول سـماحته: “ولإيماني العميق بان الإصلاح والعلاج لا يكـون ناجحا إلا بعد تشـخيص علل الخلل والفساد، أما الاكتفاء بمعالجة الظواهر الفاسدة والمنحرفة التي هي معلولات ونتائج لتـلك العلل فهذا علاج ناقص ….“(يتبع في الحلقة القادمة).

أحدث المقالات