خاص: حاورته- سماح عادل
“نعيم عبد الأمير آل مسافر” من مواليد 1970 العراق، ابتدأ النشر عام 1988، عضو اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، وعضو منتدى الشطرة الإبداعي. صدر له: مجموعتان شعريتان (غريب الحق)، و( كبوة جواد)، ومجموعة قصصية بعنوان: (تجاعيد وجه الماء)، ومجموعة من النصوص المسرحية: (الرواق الأخير، شظايا الأصابع البنفسجية، خروج عن النص)، و نصوص أدبية بعنوان: (حسون ٣١٣)، ومن ثم ذروة أعماله رواية (كوثاريا)، ورواية (أصوات من هناك).. وغيرها الكثير… ونال جائزة “محمد الحمراني” للرواية عام ٢٠١٢ عن رواية (كوثايا).
إلى الحوار:
(كتابات) في رواية (كوثاريا) تحكي عن المجرمين الذين تحولوا لأصحاب سلطة بعد 3003.. هل هذا انعكاس لحقائق واقعية؟.
- قبيل الاحتلال تم إفراغ السجون العراقية بعفو عام عن أعتى المجرمين, الذين اختفوا وتواروا داخل المجتمع العراقي, لكنهم ظهروا في زمن الفوضى (اللاخلاقة)، بشكلهم الأول كسراق وقطاع طرق وخارجين عن القانون أول الأمر, ثم تحولوا إلى إرهابيين وميليشاويين وشيوخ عشائر ومقاوليين ورجال دين وسياسين وسلطويين وحتى إعلاميين وكتاب ومثقفين ووو…إلخ. وأعتقد أنهم السبب الأكبر في موجة العنف التي تجتاح البلاد منذ 2003.
في رواية (كوثاريا) حاولت أن أرصد كل تلك التحولات, أو حاولت أن أكتشف دورة حياة المجرم في المجتمع العراقي, وكيف يساهم المجتمع بمختلف مؤسساته في تلك الصناعة, التي يبرع فيها بشكل منقطع النظير. صناعة المجرمين الصغار الذين يكبر بعضهم حتى يصبحوا أصناما بشرية.. وربما هذا ينطبق على جميع المجتمعات العربية والإسلامية..
هذا ما حاولت قوله في (كوثاريا), ولكن بالرغم من هذا لا يمكن- برأيي- أن نقرأ الرواية أو نحاكمها من مدى مطابقتها للواقع أو مدى واقعية أحداثها, لأني أرى أن للرواية واقعها الخاص باعتبارها أدبا متخيلا بالدرجة الأساس, والذي بدوره يأخذ جذوته الأولى من الواقع..
(كتابات) في رواية (أصوات من هناك) هل حاولت الانتصار للقروي الذي تم تهميشه في الثقافة الحالية؟.
- لو قسمنا الثقافة إلى سابقة وحاليةـ حسب التقسيم الزمني ـ فإن القروي مهمش في كلتا الثقافتين. وقد صنع له السرد العراقي والدراما العراقية صورة نمطية معروفة, تبخسه صورته الحقيقية.. علما أن القروي العراقي هو الفلاح والعامل والموظف والوطني والشاعر والمقاتل والشهيد والسياسي والعاشق والدكتاتور أيضاً! والشواهد على هذا أكثر من أن تُحصى.
حاولت في رواية (أصوات من هناك) أن أقف على النقيض من المقولة السائدة أن الثقافة والرواية- بالتحديد- ابنة المدينة؛ فلماذا لا تكون ابنة القرية أيضاً, خصوصا في هذا العصر الذي أصبح فيه الفرق بينهما لا يكاد تمييزه, بعد ما أحدثته ثورة الاتصالات الحديثة التي جعلت من العالم قرية صغيرة؟! رغم أن هناك الكثير من الروايات التي كُتبَت عن القرية العراقية, ولكن كان معظم كتابها من خارج القرية, أي من وجهة نظر الكاتب المديني، أو القروي المتمدن, لذا أعتقد أن ميزة رواية (أصوات من هناك) هي أنها الرواية العراقية الأولى التي كُتبت عن القرية من داخلها, من قبل كاتب قروي يعتز بقرويته..
(كتابات) رصدت في (أصوات من هناك) التغيرات التي تحدث لقرية صغيرة على مدى أربعة عقود من الحروب والصراعات والتغيرات.. حدثنا عن ذلك؟.
- إنما حاولت رصد التغيرات التي مرت بالمجتمع العراقي والهزات العنيفة التي تعرض لها, والتغيرات القسرية التي حدثت له وتأثير كل ذلك على بنيته المجتمعية, من خلال ما حدث لقرية صغيرة. فمن الملاحظ إن ارتدادات الحروب والتغيرات السياسية الكبيرة؛ لا تصل إلى القرية إلا بشكل متأخر وبطئ, وإن كانت- بصورة أو بأخرى- عصية على التغيير بسهولة, وإن القرية العراقية منذ آلاف السنين هي العينة الوحيدة في المجتمع العراقي التي مازالت مرتبطة بشكل وآخر بالحضارات الرافدينية القديمة؛ فمازالت حتى هذه اللحظة آثار اللغات القديمة حاضرة في لغتها, وبعض العادات والتقاليد والأسماء والأبنية وسحنات الوجوه جلية فيها… ولكنها رغم كل ذلك مُسخت، وبشكل بطئ في العقود الأربعة الأخيرة؛ فلم تصبح مدينة ولم تعد قرية كما كانت في السابق. وقد طال هذا المسخ مدننا التي لم تعد مدناً أيضاً.
(كتابات) تقنية تعدد الأصوات تعطي حرية للشخصيات لكنها تجهد خيال الكاتب.. هل هذا صحيح؟
- بما أن تقنية تعدد الأصوات تُعطي حرية للشخصيات؛ فإنها بالضرورة ستعطي الحرية للكاتب أيضاً.. فحسب تصوري أو ربما هو أسلوبي الذي اتبعته في الكتابة, أن أدع الشخصيات هي التي تفكر وتتحرك وتتكلم وتتخذ المواقف وتحدد النهايات, وما علي أو على الكاتب- بصورة عامة- إلا أن يخلق شخصياته بعناية ويبث فيها روح السرد ويعطيها مطلق الحرية. ولا حرية لها دون تعدد الأصوات. إذن إني اعتقد أن أسلوب الرواي العليم دكتاتورية يمارسها الكاتب على شخصياته, لأنه هو من سيقول ويتصرف ـ ويفعل كل شيء ـ نيابة عنهم.
في هذه الرواية حاولت أن استخدم تقنية تعدد الأصوات بشكل جديد من خلال سرد عدة حكايات يقوم بسردهاـ وفي آن واحدـ عدة أشخاص وجمادات وأشياء معنوية أخرى, لتشكل بأجمعها في النهاية الحكاية الرئيسة للرواية..
(كتابات) بدأت بكتابة الشعر ثم اتجهت لكتابة القصة القصيرة ثم الرواية.. أيهما تستمتع أثناء كتابته؟
- مثلتْ كتابة الشعر قدراً بالنسبة لي, وذلك بسبب عمقي الأسري؛ فقد ولدت في أسرة تتنفس الشعر وبعض أعضائها يمارسه, وكذلك بيئتي الاجتماعية؛ فأنا من بيئة إن لم يكن فيها الشخص شاعراً؛ فهو حافظ للشعر ومتذوق له. وعليه كان لابد لي أن أكتب الشعر دون اختيار مُسبق.. أما كتابة القصة والرواية فقد جاءت بعد تراكم الخبرات والتجارب والقراءات, لذا أصبحت تمثل اختياري, وبالطبع؛ فإني أعتز واستمتع كثيراً بخياري الذي اخترته بمحض إرادتي وبكامل نضجي, أكثر من قدري المفروض علي..
(كتابات) ماذا تعني لك الكتابة وكيف بدأ شغفك بها؟
- كلما شاهدت تقريراً عن متسلقي الجبال قلت في نفسي لماذا يفعلون هذا؟! لماذا يتكلفون كل هذا الجهد والعناء والمجازفة بحياتهم؟! حتى شاهدت ذات مرة لقاءً مع متسلقة شابة وسُئلتْ هذا السؤال؛ فقالت بدهشة غير مصطنعة: لا أدري, ماذا يفعل في حياته من لا يتسلق الجبال؟! ومنذ ذلك اليوم أتساءل وبنفس دهشتها: لا أدري, ماذا يفعل في حياته من لا يمارس الكتابة؟! لأن الكتابة تعني لي عملية كشف؛ فقد اكتشفت بها العالم من جديد، ليصبح ثيما لكتاباتي, كالحياة والموت والحب والكراهية والإيمان والإلحاد والحاضر والماضي وغيرها… ولولا الكتابة لما اكتشفتها بهذا الشكل. وكما يقول الروائي العالمي “ماريو بارغاس يوسا”: “إن الكتابة هي أفضل ما يمكن أن يحصل للكاتب”.
(كتابات) لماذا اتجهت لكتابة قصص الأطفال؟
ـ بعد أن كتبت في الشعر والمسرح والمقال والقصة القصيرة, وتوقفت عند كتابة الرواية, اكتشفت أن كل ما كتبته قبلها كان عبارة عن تمارين لكتابة الرواية, وأعتقد أنها تستحق كل ذلك العناء. لكني كلما كتبت ظهرت معظم شخصياتي الروائية في عمر دون العشرين! ومعظم أحداث الروايات تتحدث عن تلك الفترة الزمنية من أعمارهم؛ فلفت هذا انتباهي وأثار تساؤلاتي, إلى أن اكتشفت أن كل هذا كان بسبب الطفل الذي بداخلي, الذي لا يريد أن يكبر, أو أنه يريد أن يقول شيئاً قبل ذلك؛ فسمحت له بالتنفس؛ فكانت تجربتي في كتابة قصص الأطفال, التي نُشر منها حتى الآن مسلسلين قصصين مصورين (كومكس) في مجلة قنبر للأطفال, والمدهش في الأمر أن السيناريو والرسوم لقصصي تلك كان للسينارست جليل خزعل والرسام ضياء الحجار والسينارست الرسام مصطفى البكري, وهم من كبار مبدعي أدب الأطفال ليس في العراق فحسب بل في الوطن العربي أيضاً! كما صدر لي هذا العام كتاب كومس (كنز أوراك) وسيصدر لي في هذا العام أيضا والعام القادم كتابان آخران, وكذلك رواية للفتيان جاهزة للطبع أيضا ربما ستصدر بداية العام القادم..
(كتابات) هل الرواية العراقية في أوج ازدهارها.. ولماذا في رأيك؟
- أعتقد أنها كذلك؛ فبعد زوال نظام العسكرة والحزب الواحد والرأي الواحد والمنبر الواحد, زال معه مقص الرقيب الحكومي, وجاءت مرحلة التغيير التي كان من أهم مظاهرها حرية التعبير؛ فظهر فيها عدد كبير من دور النشر الأهلية, وكُتب كم هائل من الروايات العراقية التي حصل بعضها على جوائز عربية وعالمية وتُرجم بعضها إلى عدة لغات وحظي البعض الآخر باهتمام شعبي ونخبوي ونقدي كبير.. لكن مازالت هنالك مشكلة في توزيع الكتاب العراقي وتسويقه, ومازال هنالك حاجز لدى الناقد العربي تجاه الرواية العراقية, وربما هو حاجز سياسي لا ثقافي, ولو كُسر هذا الحاجز بطريقة ما؛ فإن الرواية العراقية ستظهر بوجه أكثر نصوعاً مما هي عليه الآن..
(كتابات) ما هي روافد تكوينك الفكري والثقافي. والكتاب الذي تأثرت بهم؟
- كان والدي متديناً محافظاً حكيماً, كبيراً في قومه, ووالدتي حكاءة متميزة لها أسلوب خاص في سرد الحكايات, وخالي شاعر كبير يساري الانتماء, وكنت قد تنقلت بين القرية والمدينة, فاستفدت كثيرا من كل ذلك التنوع والانتقال.. فبين أقصى اليمين وأقصى اليسار, وبين القرية والمدينة, تعلمت الكثير وانتقيت ما كنت أراه صحيحاً. هذا بالإضافة لتجارب الحياة والمهن المختلفة التي مارستها.. أما بخصوص الكتاب الذين تأثرت بهم؛ فربما يمكنني القول أني تأثرت بجميع من قرأت لهم, وبنسب وأشكال مختلفة طبعاً, ولكن هنالك علامات فارقة؛ فعندما قرأت (النداهة) ليوسف إدريس و(المملكة السوداء) لمحمد خضير تمنيت أن أكتب قصة, وعندما قرأتُ (المسخ) لكافكا و(المزحة) لميلان كونديرا تمنيت أن أكتب رواية. هذا بالاضافة لكتاب عراقيين وعرب وأجانب كأحمد خلف ونجيب محفوظ وماركيز وكوهيليو وغيرهم..
(كتابات) هل أنت راض عن أدائك كروائي أم ترى أن الخبرة تكتسب بمزيد من الأعمال المنجزة؟
- بالطبع شغفي لم يتوقف بالرواية, ومازال في جعبتي الكثير الذي أريد انجازه من مشاريع سردية لن أتوقف عنها حتى آخر لحظة, وما يديم جذوة الشغف تلك هو التجريب في الشكل والمضمون, الذي يأتي بمزيد من الكشف لكل ما يحيط بي, وهذا يقود إلى مزيد من الكتابة والتي تستلزم المزيد من البحث والقراءة, في دائرة سردية ممتعة تبدأ من التجريب والكشف وتنتهي به؛ فتتراكم التجارب والخبرات. أنا راضٍ ومستمتع بكل ما أنا عليه, وكل ما أقوم به, لكني بالطبع أتمنى ـ وأسعى ـ إلى أن يكون بشكل أفضل, وأطمح إلى المزيد..
“أنا”
قصة قصيرة لنعيم آل مسافر
“”شرفتان متجاورتان في الطابق العلوي, تطلان على ساحة العالم بمختلف الوسائل.. ينتظر فيهما عجوزان منذ بداية الصحو حتى نهايته, بضجر شديد.. لكنهما مولعان بالاختلاف والخلاف فيما بينهما.. ضجران كموظفين متقاعدين لا شغل لهما غير الجلوس كل في شرفته.. ومراقبة ساحة العالم برتابة عمر الشيخوخة وانطفاء ألق الآمال العريضة فيه. لا يثير أحدهما ويخرجه من هدوئه ورتابته واستكانته شيء سوى تصرفات الطرف الآخر.. كأنهما ضرتين تجلسان في شرفتين متجاورتين في الطابق العلوي مما يسمى (أنا) ..
القلب في الجهة اليسرى من القفص الصدري فيفترض أن يجلس في مكانه الطبيعي, الشرفة اليسرى.. لكنه يرفض الجلوس فيها زاعما أنه سئم اليسار ويصر على الجلوس في اليمين.. وبما إن القلب يساري فلا يتبقى للعقل إلا اليمين.. ولكنه يرفض الجلوس في اليمين, زاعما أنه سئم اليمين هو الآخر.. فيصر على الجلوس في اليسار. وهذه القضية الوحيدة التي يتفقان فيها.. وما أن يعرفا إنهما اتفقا على الجهة التي يريدها كل منهما حتى يختلفا من جديد وكل يريد شرفة الآخر.. كاد (أنا) أن يصاب بالحول جراء ذلك لكنه رضي بقسمته ونصيبه.. كأي عربي.. لكي يرتاح من خلافاتهما المستمرة ومن محاولات تنغيص أحدهما على الآخر ما يريد القيام به, أو ما هو مقتنع به.. فإذا أراد العقل أن يقرأ يشغل القلب- وبمكبرات الصوت- موسيقى صاخبة لينغص على جاره في الشرفة الأخرى متعة القراءة.. وإذا رأى القلب إحدى الفاتنات تمر بساحة العالم, انتفض من مكانه كقط ينتفض من الماء ووقف على حافة الشرفة يغازلها.. كأي مراهق وقح. فيقوم العقل بتوبيخه على تصرفاته التي يعتبرها صبيانية ويرسل رسائل إلى عقلها عبر شبكة اتصالاته المجنونة.. يقول فيها إن هذا المخلوق الذي ترينه في الشرفة على شكل كتلة لحمية كمثرية الشكل, مخادع كبير يريد.. أن يخدعك ويسبب لك المشاكل وما هو إلا مضخة تضخ سائل أحمر إلى الجسم وتستقبله لتضخه مرة ثانية, بعملية غبية رتيبة, ويدعي نفسه حالم وعاشق كبير وعاطفي وهو مدع ليس إلا..
ويقوم القلب بإرسال رسائل هو الآخر إلى قلبها عبر شبكته الوردية يقول فيها أيتها الفاتنة لا يغرنك هذا المخلوق الذي ترينه في الشرفة على شكل كتله بيضاء رخوة يكاد يسيح من الكرسي إلى الأرض, فهو مدع كبير.. يحسب لكل شيء حسابا دقيقا كما يدعي ولكنه يخطئ في أحيان كثيرة.. وأخطاءه لا تغتفر دعيك منه وصدقيني.. ما هو إلا مركز لاستلام وتوزيع الرسائل.. على أخواتنا الحواس المسكينات.. ويمارس عليهن بذلك أستاذية ودكتاتورية متعصبة.. عنده كل شيء أما أبيض أو أسود.. أما أنا فعندي الرمادي والوردي والبنفسجي..
فتتركهما وتذهب متحيرة في أمرهما أيهما الصادق وأيهما الكاذب؟؟ لا تدري!! لكنها تخلص إلى نتيجة أنهما معتوهان كبيران لا شغل لهما غير الجلوس في الشرفة ومراقبة ساحة العالم منتظرين.. وتقرر أن تسألهما في اليوم التالي عما ينتظران..
خلافاتهما المستمرة تسبب لـ ( أنا ) صداعا فيقوم بمساعي حميدة للمصالحة بينهما.. يقول لهما أين الحرية في التعبير والديمقراطية؟ أين احترام الرأي والرأي الآخر؟ أين حق تقرير المصير؟ أين الأخلاق والقيم والمبادئ؟ فيعفطان له مستهزئين عفطة أولاد الشوارع.. تجعله يعود خائبا لينام.. لعلهما يتركان شرفتيهما وينزلان للنوم (أنا) أيضا لا يدري ماذا ينتظران.. يسأل نفسه كلما حاول أن يخلد للنوم..
ينزلان من شرفتيهما أثناء الموتة الصغرى, لكنهما لا ينامان.. يتجولان في متاهات مختلفة من الماضي والحاضر..كل على حده.. يدخل القلب في غرفة الذاكرة يستخرج كامرتة ليشاهد ما سجلته أثناء فترة الصحو. أحيانا يشاهد ببطء شديد تلك الأفلام والمشاهد, أو بسرعة في أحيان أخرى.. فتنفلت بعض المشاهد من كاميرته, وتخرج من غرفة الذاكرة لتتسكع قليلا هنا أو هناك.. وليل المتسكعين طويل فتتغير ملامحها تصبح مشوهه وتظل طريق العودة إلى غرفة الذاكرة.. تذهب إلى (أنا) تطرق بابه يتكاسل عن النهوض لكي يفتح لها.. فالنهوض يعني الصحو والصحو يعني أن يستيقظ العجوزان المختلفان دوما.. ويجلسان في شرفتيهما يطلان على ساحة العالم ينتظران.. ومن شدة ضجرهما يبدأن بالصراع مما يسبب له الصداع. لكنها تتسور جداره الخارجي وتدخل من شباك أحلامه.. وتحاول خداعه بمراياها السحرية.. فيرى نفسه حرا طليقا يعيش في بلد ديمقراطي آمن.. يمارس حقوقه كانسان. فيضطر (أنا) المسكين.. للقفز من فراشه كمن لدغته أفعى خوفا من الحكومة.. ويستعيذ بالخوف الرحيم من شر الأحلام الرجيمة.. يقرأ جميع آيات الخضوع التي تعلمها من تجارب اقتراف جريمة الحلم التي مارسها سابقا.. وأمسكوه متلبسا بها..فيعود للنوم ثانية بصعوبة بالغة..
لكن الكتلة البيضاء الرخوة لا تتركه في حاله.. تتجول هي الأخرى بعد أن تنزل من شرفة الوعي المحظورة دوما وأبدا, إلى سرداب اللاوعي السري الذي لا يعرف له الأمن السري من سبيل.. تتسكع فيها ما شاء التسكع, تنبش في كل المحظورات الماضي والمستقبل.. وتدع الحاضر جانبا, لأنه غائب تماما عن الوعي.. وترسل لـ (أنا) بين غفوة وأخرى رسائل على شكل كوابيس مرعبة تطلب منه رفض النوم.. ليس رفضه فقط بل الثورة عليه بكل ما يملك من قوة.. فيرد تلك الرسائل المحرضة قبل أن يقرأ أي كلمة منها.. لا يفتح المظروف أصلا كي لا يمسكونه متلبسا بقراءة الكوابيس التي تدعو لرفض النوم والثورة عليه.. لكن المتسكع البغيض في سرداب اللاوعي يعيد إرسالها مرة ثانية.. فيعيدها (أنا) بإصرار أكثر وهكذا حتى يستيقظ.. فيجد المخلوق الرخو مستلقيا على ظهره من شدة الضحك كحشرة جندب تحاول الانقلاب على بطنها.. وعدوه الصديق الكمثري الشكل يفعل ذلك أيضا.. وبمجرد استيقاظه يعودان إلى شرفتيهما في طابقه العلوي يتشاجران ويتعاركان بعدما يسئمان من الإطلال على ساحة العالم والانتظار, فيعود الصداع من جديد..
يئس (أنا) من التوفيق بينهما أو الخلاص منهما.. ولم يعرف لماذا يختلفان دوما؟؟ وماذا ينتظران؟؟ لكن عدم معرفته أي شي ينتظران.. وفضوله لمعرفته يعطيه دافعا للاستمرار بالحياة..
طبعا هذا ألـ (أنا) ليس أنا.. إنه هو.. وقد يكون هم.. أو نحن.. وربما أنا..””.