نشأت مدينة الناصرية على يد الوالي العثمإني مدحت باشا عام (1869)لأجل إتخاذها مركزاً لردع حركات التمرد للعشائر القاطنة آنذاك وقمعها ، وسهـولة جباية الضرائب بعـيداً عن إستخدام القوة العسكرية التي كانت تستخـدم بين الحين والآخر كما سنبين ذلك ، وإيجاد نوع من التجـارة بين بغداد والبصرة([4])، فضلاًعن العامل الإجتماعي ، ألا وهو إستقرار الخارطة القبلية و الحد من هجرتها وحراكها المستمرلغرض الإستفادة من المطرفي فصل الشتاء حـيث كانت العائلة تنقسم إلى جـزئين ، جزء يستقر بمنطقته الجديـــدة ( المجتمع النهري ) وقسم يرتحل بالأغنام والجمال مستفيداً من أعشاب البادية ليعود في بداية الصيف ، وتبعاً لذلك تحولت أغلب طبيعة البدو إلى طبيعة ( شأوية ) .
إن منطقة ذي قار بشكل عام والناصرية بشكل خاص تقع مابين دائرتي عرض ( 29.5 ْ، 31.5 ْ) شمالا وبين قوسي طول ( 46.4 ْ، 47.65 ْ ) شرقا ، وتقع في الجزء الجنوبي والجنوبي الشرقي من العراق ، وبذلك تقع منطقة الناصرية في الاقسام الدنيا من العروض الوسطى في نصف الكرة الشمالي ويحدها من الشمال محافظة واسط ومن الجنوب البصرة ومن الشرق ميسان ومن الغرب محافظتي القادسية والمثنى
وإذا كانت العوامل الأفقية لبناء المدينة .. أي مدينة .. تعطي أشارات بيّنة لمدى تطورها ورقيها –ففي الجانب الاخر ً فهي تعطي إشارات أخرى على تخلف المدينة وتأخرها – فإن العوامل العمودية وبالخصوص عامل التأريخ يعطي إشارات واضحة على مدى عراقة المدينة وغناها وثراء التجربة البشرية فيها ومدى استغلال الطاقات الكامنة فيها البشرية والفكرية والطبيعية. وإن تصنيف العوامل المؤثرة في بناء المدينة إلى أفقية وعمودية لا يعني الفصل في ما بينهما ،فهي تتداخل مع بعضها ويؤثر بعضها في الأخرى على الدوام، وإذا اقتصرنا في الحديث عن عامل التأريخ فإنه يؤثر على كل مراحل بناء وتوسع وتطور المدينة بشكل ملحوظ عادة إيجابا ً وسلبا ً. فيؤثر عامل التأريخ على بناء المدينة إيجابا ً من خلال خلق نقاط وبؤر ومراكز حضرية تأريخية مهمة في المدينة تشكل في الغالب أهم وأغنى قطاعات ونقاط المدينة، توصف عادة بقلب المدينة. أي المعلم الحضري أو المديني أو ما يوصف أحيانا ً بالبؤر المهمة . وغالبا ً ما ترتبط هذه النقاط الحضرية المهمة بعامل التأريخ الذي إما أن يكون ضاربا ً في القدم والذي يمنح هذه النقاط الأهلية للبقاء، أو أن يكون مرتبطاً بحدث تأريخي معاصر يؤهله للصمود أمام التغيرات التي قد تجتاح هيكل المدينة في حاضرها ومستقبلها. ومن الآثار الإيجابية الأخرى لعامل التأريخ في المدينة هو خلق نقاط جذب اقتصادية فاعلة لكل زائري المدينة بالإضافة إلى سكانها، ولارتباط هذه النقاط بتأريخ المدينة فإنها دائما ما تمتلك قيمة استثنائية مقارنة بنقاط المدينة الأخرى، وطالما أدرك المخطط ، علاقة هذه النقاط التأريخية بالوظائف الحضرية الأخرى أو ما يسمى استخدام الأرض . فيعمد إلى ربطها بشكل وثيق بوظائف أو استخدامات مهمة أخرى ،كالتجارية أو السياحية أو الترفيهية أو الصناعات الحرفية .أما النقاط ذات الوظائف الدينية ، فعادة ما يأتي ارتباطها بالنقاط التأريخية طبيعيا ً ودون تدخل التخطيط الحضري ولكن عليه الاستفادة منها بشكل فاعل. كان ذلك كله حاضر في ذهن المهندس البلجيكي .. جولس تيلي .. وعقلية القادة من ال سعدون الذين ازمعوا انشاء حاضرة لهم .. اخذين بعين الاهميةسكان وادي الرافدين المفعمون بالحيوية والنشاط والحركة الدائبة والبناء، والذي شاهدنا ماتحتضنه أرضهم من كنوز أُكتشف قسم منها والآخر لم يزل مطمور تحت ثرى العراق ليكون شاهداً على عظمة هذا البلد بل على عظمة أنسانه وقادته عبر التأريخ، بل أن الخصائص الأولى للمستقرات البشرية نشأت في العراق، وفي قسمه الجنوبي على وجه الخصوص. فكانت المدن والممالك السومرية والأكدية والبابلية والآشورية وما تنطوي عليه من عناصر التكوين الحضري من حيث الأصالة والملائمة للبيئة العراقية تؤكد أيضاً على أنها نتاج شَعب جُبلَ على البناء وشَغف بالعمل والأعمار.[5]. كما وأن مايميز تلك المدن هي مجموعة من الخصائص والعناصر الحضرية التي أنتجها فكر الأنسان آنذاك، فأستمر تطورها وأبداعها في تشييد المدن اللأحقة التي كان يراعى فيها الشكل والتركيب، ومنطقة القصور والمعابد والحارات والأسواق التي تطورت وظيفتها وأصبحت مراكز دفاعية ذات بوابات لها وظائف محددة أيضاً. وبعد الفتح الأسلامي على وجه التحديد بدأ التفكير بتمصير المدن، فكانت البصرة 14ه_635م والكوفة 16ه_637م، وهكذا واسط في الزمن الأموي وبغداد في الزمن العباسي، ولكن أمر الخليفة في بداية التمصير كان يشترط على البناة أن تكون المدن غير بعيدة عن الماء والمرعى ولايفصلها عن دار الخلافة موانع طبيعية. وبتصميم هندسي فيه أهم شئ هو الجامع الذي ينبغي أن يتوسط المدينة وهكذا. والناصرية هي سليلة تلك المدن ووريثتها الشرعية؛ إلا أنها شُيدت بأمتزاج الخبرة العربية مع الخبرات الأوربية، فكانت من طراز مـدن القرون الوسـطى وبخدمـات دفاعية وأجتماعية لتضاهي المـدن الأوربيــة آنـذاك [6]. وبعد الأتفاق مع مدحت باشا على بناء حاضرة، عاد ناصر باشا الى مقر الأمارة ليفتش عن قطعة الأرض التي ستقام عليها المدينة المزمعة، بعد أن زوده مدحت باشا بالمال والمحاسبين على رأسهم نعمة الله أكوبجيان، الحلبي المشهور، وأتبعه بأداريين ومهندسين وصناع زادَ عددهم تباعا على 1500 شخص[7]. فلقد كان الرأي أن تنشأ المدينة الى الشمال من مدينة سوق الشيوخ ومنهم من أقترح على ناصر باشا أن تكون على أنقاض مدينة العرجاء(مركز أمارة المنتفق منذُ عام 953ه_ 1546م, تقع في شمال مدينة الناصرية الحالية بثلاث كيلومترات)، وأختيرت قطعة أرض في بساتين السديناوية ،وآخر أقتراحَ أن تكون في ناحية العكيكة التابعة لقضاء سوق الشيوخ. وهكذا كان لكل واحد من الذين أختاروا أسبابه ومبرراته ودوافعة[8]. ولكن ناصر باشا غَلّبَ الجانب السياسي، وكما أتفق مع أخيه منصور في بغداد بأن أختار أرض منخفضة الى جانب بحيرة أبي جداحة، تلك البحيرة التي فيها مواد فسفورية تنعكس عليها الأضواء في الليل لذلك سميت أبو جداحة. وكانت تلك القطعة المختارة لإنشاء الناصرية هي أوطأ من منسوب المياه فأذا ساءت علاقة آل سعدون مع والي بغداد أو متسلم البصرة فيصبح من السهولة أغراقها بالماء؛ سواء من البحيرة المجاورة أو من الفرات، التي هي على الجانب الأيسر، ولكن مدحت باشا بذكائه المعروف وعيونه في ديرة المنتفق أمر بتقوية السداد من الجانبين أبو جداحة والنهر، وفعلا تم تقوية السداد وفوت الفرصة على نظرية المؤآمرة، والتي أدركها ناصر باشا وصرف النظر عنها[9]. البدء بالتنفيذ, لقد أرسل مدحت باشا مع الصناع والمهندسين والمحاسبين مهندسا بلجيكيا أسمه جولس تلي، الذي وضع خرائط للمدينة وأطلع عليها مدحت باشا ونالت رضاه، وأرسله لينفذها في ديرة المنتفق[10]. وبعد أختيار الموقع الذي يبعد عن بغداد جنوبا 387كم، ومن البصرة شمالا 214كم ، وبموقع يتوسط أرض الريف والبطائح وعلى أطرافه الغربية بادية الجزيرة العربية أو أمتداداتها[11] ورغم أختيار الموقع كمنخفض للأسباب التي ذكرناها؛ إلا أنه يتميز بأهميته العسكرية لصد الهجمات الوهابية والتصدي للأطماع الفارسية؛ وكبح جماح النفوذ البريطاني المتزايد في الخليج ونهر الفرات؛ ومن ثم السيطرة على أمارة آل سعدون ذات التقاطعات الكثيرة مع الدولة العثمانية. ويتميز كذلك بأهمية أقتصادية؛ وخاصة في الجانب المتعلق بتوطين البدو وقيامهم بالزراعة؛ والأختلاط مع المجتمع النهري وحدوث عملية الأستقرار الى جانب سهولة جباية الضرائب للدولة من الشخص المستقر؛ حيث تلاقي الدولة صعوبة من أستحصالها من البدوي. وكذلك للحاضرة وموقعها ميزة أجتماعية مما يولده مجتمع الحضر من وعي وثقافة في شؤون الحياة، وقيام صناعة وتجارة وتطوير الزراعة وأنتشار التعليم والأرتفاع بالمستوى الصحي وغيره، أضافة الى الموقع المميز بالنسبة الى مدن العراق الأخرى[12]. وأن الخرائط التي وضعها المهندس المذكور فيها من الذوق والجمال والهندسة البارعة والحداثة مما جعل مدينة الناصرية لاحقا من أجمل مدن العراق[13]. فجاءت الشوارع مستقيمة هي عبارة عن سبع شوارع متعامدة مع بعضها وبأستقامة رائعة[14]. وقد أخذ المهندس جولس تلي[15]الساحات والجزرات الوسطية بعين الأهمية؛ وكذلك الحدائق كمتنفسات للسكان والتي سرعان ماتحولت الى مروج خضراء غاية في الجمال، وعندما أرتفعت الأبنية على الشوارع كانت من الدقة بمكان بحيث تسر الناظرين، ويمكن القول أن مدينة الناصرية أول مدينة في العراق تجمعت فيها هذه الخصائص الهندسية،.. ولقد كان التخطي للمدينة على الجانب الأيسر للفرات، وقد وُضعَ حجر الأساس لها في 22/جماد الأولى/ المصادف 1286ه_ 1869م[16]. اما المنشآت الأولى هو سراي الحكومة، ومن ثم خططت البيوت والأسواق والخانات وجامع فالح باشا الكبير[17]. فكانت عملية البناء تتم بالآجر المشوي واللبن والجص والطين،كانت أجور العمال والصناع مجزية؛ بحيث كانوا في سباق مع الزمن. فمضى البناء يرتفع والأسواق تُعمر، وشيدت الحمامات ووزعت بعض الدور والدكاكين والخانات مجانا على بعض الأشخاص لتشجيع السكن في هذه الحاضرة، التي سرعان ما أصبحت مركز جذب، وأخذت بالتوسع السريع حيث وفدت اليها عوائل من الحلة وكربلاءوالسليمانية وكركوك والموصل وبعقوبة وسوق الشيوخ. مارست هذه العوائل شتى الأعمال التجارية والصناعية والوظيفة العسكرية[18]، وماهي إلا أقل من سنتين حتى بلغ عدد سكانها 30000 ثلاثون الف نسمة، وعدد دورها 5000 خمسة آلاف دار[19]، وتم بناء سوق خاص بالعمال والصناع وجامع آخر صغير أيضا أسمه جامع فالح باشا؛ في موقعه الحالي المعروف لأهل الناصرية، وبذلك بدأت تكبر المحلات والأسواق فكان ميلاد محلة السيف ومحلة السراي ومحلة السويج تصغير سوق ومحلة الجامع نسبة الى جامع فالح باشا الكبير. وفتحت دوائر حكومية مهمة منها دائرة التلغراف والبلدية ومدرسة رشيدي[20]، وقد أُنشئ حولها سور على هيئة نصف دائرة وترها نهر الفرات وله أربعة أبواب, هي باب القلعة وباب الشطرة وباب الزيدانية نسبة الى بساتين سيد زيدان المختار، حيث يقع الباب في بساتينة وباب السديناوية المطل على بساتين الحاج عبود الجازع، الذي يعد بداية بساتين السديناوية[21] .
لقد بينا أن المدينة أصبحت مركز جذب، والتي عين لها ناصر باشا السعدون كأول متصرف في 13/آب/ 1286ه_1869م، تقصدها الباعة والتجار والصناع والمستثمرين وذوي الحرف والمهن من جميع أنحاء العراق والمنطقة الأقليمية مثل بلاد الشام وبلاد فارس والجزيرة العربية والدولة العثمانية وغيرها. ومن الطريف أن المتصرف ناصر باشا عندما رآى البناء يشمخ وتتبين الجوانب الجمالية فية وتتضح معالم المدينة بشكل جميل، أخذ ينفق من ماله الخاص على بعض البنايات غير المكتملة، وخاصة عندما أراد ربط الجانب الثاني من النهر صوب الشامية بالمدينة، حيث أمر بتشييد جسراً لذلك، وكذلك قلعة حصينة وألحق بها بعض الثكنات العسكرية[22]. وأستمرت هذه الحاضرة الجميلة تستكمل نظامها الأداري فقد عين والي بغداد مدحت باشا للمدينة معاون للمتصرف, وقاض, ومحاسب, وعدد من الموظفين الإداريين الآخرين اللازمين لدوائر السنجق، فجاءوا عن طريق البصرة بعد وصولهم اليها عن طريق دجلة وصعدوا في الفرات الى أن بلغوا الناصرية في أوآخر آب 1286ه_ 1869م[23].
(2) أحمد سوسة ، حضارة وادي الرافدين بين الساميين و السومريين ، سلسلة دراسات ، العدد (214) ، بغداد ، 1980، ص91 .
(3) خالص حسني الأشعب ، مدينة بغداد ، الموسوعة الصغيرة ، العدد (108) ، دار الجاحظ للنشر ، بغداد ، 1982 ، ص 6 .
(1) عبد العال وحيد العيساوي ، لواء المنتفق ( 1914 ـ 1921) ، دراسة في أحوال الإدارة و السياسة الإجتماعية و الإقتصادية ، رسالة ماجستير ، كلية الآداب ، جامعة الكوفة ، 1999 ، ( غير منشورة ) ، ص 12 .
* ( الشاوي ) : و هو الذي تتراوح حياته بين الريف و البداوة و عادة ما يكون شبه مستقر و أغلب مقتنياته من الأغنام و الحمير .
(2) أحمد البدوي محمد الشريعي ، الدراسة الميدانية : أسس و تطبيقات في الجغرافية البشرية ، ط 1 ، دار الفكر العربي ، القاهرة ، 2004 . ص297 .
(3) عثمان كايد أبو صبحة ، جغرافية المدن ، ط 1 ، دار وائل للطباعة و النشر ، الأردن ، 2003 ، ص 226 .
(4) يعقوب سركيس ، مباحث عراقية في الجغرافية و التاريخ و الآثار و خطط بغداد – القسم الأول ، شركة التجارة للطباعة المحدودة ، بغداد ، 1948 ، ص 79 .
(5) عبد الجليل الطاهر، العشائر العراقية، دار لبنان للطباعة و النشر، بيروت، 1972 ، ص 7 .
.
(6) عبد العال وحيد العيساوي ، مصدر سابق ، ص 15 .