خاص: إعداد- سماح عادل
“فوزية الزواري” صحفية وكاتبة تونسية، تكتب باللغة الفرنسية، وُلدت في 1955 في مدينة الدهماني، في عائلة من ارستقراطية المدينة، والدها شيخ المدينة المحترم من الجميع وجدها الولي الصالح سيدي عسكر الذي ولد في القرن التاسع عشر، ويقال إنه كان من رفاق ابن خلدون. بعد دراستها الابتدائية في القرية لم تسمح لها والدتها بإتمام تعليمها، فقدر البنت البقاء في البيت. لكن شقيقها عبد الرحيم ساعدها لإقناع العائلة لإكمال تعليمها والمدرسة الثانوية التحقت بها في الكاف. وزاولت دراستها الجامعية في جامعة تونس للعلوم الإنسانية، ثم في باريس. و”فوزية الزواري” هي أصغر أخواتها الخمس اللاتي حرمن من التعليم. أما هي فقد تمكنت من إنقاذ نفسها من الأمية لتحصل قبل سنّ العشرين على شهادة الباكلوريا، بعدها تابعت دراستها العليا في قسم الآداب الفرنسية بجامعة السوربون.
حصلت “فوزية الزواري” على درجة الدكتوراه في الأدب الفرنسي وَالأدب المُقارن من جامعة السوربون، وهيَ تُقيم في باريس منذُ 1979، حيثُ عملت لمدة عشر سنوات في معهد العالم العربي، كما عملت رئيس تحرير لمجلة القنطرة، وفي عام 1996 عملت كصحفية في مجلة “جون أفريك”.
الكتابة..
أصدرت “فوزية الزاوري” ثلاث روايات. كما أنجزت العديد من الدراسات حول قضايا ثقافية واجتماعية متصلة بمشكلات المرأة التونسية، وبالإسلام. فازت بجائزة القارات الخمس للفرنكوفونية عن روايتها “جسد أمي” الصادرة عن دار نشر الفرنسية العريقة غاليمار. وقد احتفت الصحف والمجلات الفرنسيّة الرفيعة برواية “جسد أمي”، وحاورت مؤلفتها. وأشارت جريدة “لوموند” في ملحقها الثقافي الأسبوعي إلى أن “فوزية الزواري” لم تكتف بوصف علاقتها العاطفية بوالدتها في زمن الطفولة القاسية، بل قدمت شهادة بديعة عن العلاقات الاجتماعية في الفترات التي أعقبت استقلال تونس عام 1956.
جسد أمي..
يقول الكاتب “حسونة المصباحي” عن رواية “جسد أمي” في مقالة له: “في الرواية تقول “فوزية الزواري” أنها ظلت على مدى خمسة أعوام عاجزة عن الكتابة عن والدتها، وفي كلّ مرة تحاول فيها أن تفعل ذلك، تفرّ منها الكلمات، لتجد نفسها منتصبة أمام جثمان أمها قبل أن تحمل إلى المقبرة فيعتريها الخوف، وتصاب بالجمود. وعليها عندئذ أن تختبر قدرتها على الكتابة عن مواضيع أخرى لكي تعود إليها الكلمات من جديد. من الأسباب الأخرى التي كانت تعيقها عن الكتابة عن أمها، هو أنها كانت تعتقد أن اللغة الفرنسية قد تكون عاجزة عن نقل الصورة الحقيقية لأم بدوية يزين وجهها الوشم، أمّ كانت ترى أن اللغة الفرنسية هي لغة العدو الذي احتل وطنها، وقتل أبناءه الذين واجهوه وتمرّدوا عليه. وكيف يمكن والأمر على هذا الحال، أن تكتب “فوزية الزواري” عن أمها بغير لغة هذه الأخيرة؟ لكن في النهاية، ومضت الإشراقة.. كتبت روايتها في بداية عام 2011 الذي شهد سقوط نظام بن علي. وعندما كان التونسيون يتظاهرون في الشوارع، ويحرقون كل ما يرمز إلى النظام المنهار، كانت “فوزية الزواري” منكبة على كتابة قصة والدتها واجدة في ذلك متعة كبيرة.. وعن والداتها تقول”فوزية الزواري”: “لكن كيف أتجاسر على أن أحاكم التي وهبتني الحياة، مثلما يفعل البعض من الكتاب. صحيح أن أمي كانت تضربني عندما كنت صغيرة. وقد أوشكت على حرماني من الدراسة، لتلقي بي في حبس الأمية. وعلى جسدي ألصقت ذنب انطلاقي إلى الخارج في حين أن نساء بلادي لا يتجاوزن الحدود. وعندما ألمس جسدي، أكتشف أنه لا يزال مسكونا بمخاوفها. لكن ليس بإمكاني أن ألومها على ذلك. فكما لو أن هناك قدرات عند العرب تحتّم عليهم أن يغفروا للأمهات”.
الزوجة الثانية..
في لقاء لها في معرض تونس الدولي للكتاب 2016 تحكي “فوزية الزواري” عن روايتها (الزوجة الثانية) التي انطلقت فيها من وقائع جريمة قامت فيها أم جزائرية بقتل زوج ابنتها لأنّه تزوج بأخرى بعد وفاة ابنتها ولم يحترم فترة العزاء بحسب أعراف القبيلة وتضيف أنّها حضرت وقائع المحاكمة في محكمة فرساي وما أدهشها في هذه الدراما الجزائرية أن الأم القاتلة كانت تنام أثناء المحاكمة وكانت هادئة كما لو أنها قامت بما يجب القيام به احتراما لأعراف القبيلة التي لم يحترمها صهرها وحضر المحاكمة أيضا والدا القتيل. وفي حين عجز الأب عن الكلام تحدثت الأم بلوعة عن ابنها الذي كان كريما مع أهل قريته في الجزائر. وذكرت الزواري أنها تنطلق من وقائع حقيقية تتخذ منحى آخر في الخيال كما أنها تستلهم كتاباتها من القصص والحكايا التي تسمعها من أقاربها في الكاف وأنها قدمت هدايا لأشخاص في قرية الدهماني فقط لأنهم ألهموها قصصا وحكايات وظّفتها في كتاباتها.
دهشة الحياة..
في حوار مع “فوزية الزواري” أجرته معها “رشا التونسي” تقول عن أحلام طفولتها وهل تطابقت مع طموحاتها: “إذا كان لأحلام الطفولة الوظيفة والقدرة على أن تتطابق مع سن الرشد، فسيكون ذلك مؤسفا للطفولة، لأن سحرها يتجاوز بكثير تلك الأحلام التي حملناها ولم تكتمل. لكنني بين أحلامي وطموحاتي أنا لست بخاسرة، فقد أدهشتني الحياة في أشياء كثيرة، وأكدت انتظاراتي في أشياء أخرى، أهمها الكتابة، التي يمكن أن تكون حلم سن الرشد لاسترداد الطفولة”.
وعن السنوات الأولى في فرنسا تحكي: “رعونة ولا مبالاة، لم نكن آنذاك (العرب) أو (المسلمين) مشار إلينا بالأصبع ومعلنين كما نحن عليه اليوم، كنا طلبة من العالم الثالث، ننشد المعرفة، لم يفكر أحدهم أن يلومنا أو يوجه لنا أية اتهامات، نضارة الشباب كانت حليفتنا كل آفاق المستقبل كانت نصب عيني، لم أكن أنظر إلى الخلف، ولا نحو (البلد), ليس من باب النسيان، بل لأن تونس ساكنة في الوجدان، في انتظار العودة، فمعنى المنفى كان صورا تجريدية نوعا ما بالنسبة لنا، أو بالأحرى غير واردة، لأن المنفى مؤسس، وإذا سألتني ماذا أسست في فرنسا، سأجيبك.. لا شيء، لا شيء ماديا، ماعدا العائلة والكتابة، وذلك ليس بالقليل على الأرجح”.
وعن مرحلة التوقد والانطلاق تجيب: “التوقد، الانطلاق؟ نحو ماذا؟ كل صباح رزقني به الله، أحمل اندفاعي وتوقي نحو حياة أفضل، بحثا عن نصيبي من بهجة الحياة، أما إذا كان القصد الانطلاق نحو الكتابة، أعتقد أن الكتابة لا تحتاج لانطلاقة، بل هي قفزة مفاجئة، ونصل عميق، وحاجة لا شعورية تكشفها لنا الأيام.. يقينا. لم يكن ذلك عمدا أو عن سابق إضمار. أو ضمن خطة كي تصبح الكتابة (مهنة). هكذا بتلقائية وهدوء اكتشفت الكتابة وأنا أتقدم في مسار الحياة. كضرورة حيوية. الكتابة كالتراجيديا الإغريقية. تحمل صفة القضاء والقدر. تلتصق بك منذ الولادة. وكأنها هوائي يلتقط عند الأشخاص ولدى الأشياء ما لا بد أن يكتب. أن يسجل. أن يوصف. وكأننا في هذا الوجود نشعر بالأشياء لنورثها بعدنا. لم أذهب إلى الكتابة. هي التي أتت إلي. ومنذ ذاك الزمن أعيش معها وستبقى الرابطة أزلية وإلى الأبد”.
الكتابة حرية..
وعن سؤال هل الكتابة بالنسبة للمرأة حرية مزدوجة أو ترقية اجتماعية تقول: “أن تكون الكتابة ترقية اجتماعية كأننا نستعملها سلما للارتقاء. والبحث من خلالها عن وضع شرعي؟ هذا لم يكن مطلقا مبتغاي. لم أبحث عن الشهرة بكتاباتي. أنتمي إلى فئة من الكتاب تكتب لأنها تريد أن تكتب. لا أن يتحدث عن كتاباتها آخرون. كي تقول، لا أن يقال عنها. اليوم ما هو وضع الكتابة عامة؟ حرية؟ يقينا هي حرية. بالقدر الذي تمنحنا إياه كمساحة من الوحدة في مجتمعات تجبرنا غالبا على «حياة مشتركة». حرية أيضا لأنها سمحت لنا نحن النساء. بحرية القول، وحرية البكاء وحرية الاعتراف خلف حجاب الكلمات. بحرية مزدوجة للنساء، خدشت فضاء صمت لأنها تسمح لهن باستعمال كلمة «أنا» في عالم عربي أين القاعدة كانت أن يقال «نحن»، هذه الولادة للفردية الأنثوية عبر العالم، ندين بها للكتابة”.
وعن لغة الكتابة تؤكد “فوزية الزواري”: “هذه أسئلة يمكن طرحها على الأدباء الذين يبقون متقوقعين على أنفسهم، لم أحاول أن ألمس أحلامي عن قرب حتى أعرف بأية لغة كانت، ولم أبحث عن الصيغة الأولى لأفكاري، شيء واحد مؤكد، العربية هي لغتي الأم، لغتي الفطرية المتجذرة، الفرنسية هي لغة كتابتي، النافذة التي أعبر منها عن العالم الذي ألاحظ وأشعر به كعربية، وأعتقد أن هناك حميمية مسكوت عنها في باطن كل منا، والتي لا تطولها أي لغة، الأحرف والكلمات تعبر عن حميمية اللغة الأم التي تلجأ للغة الفرنسية من باب الاحتشام” .
رقة المرأة..
وعن سؤال ماذا يعني أن تكوني امرأة؟ تجيب: “هو أن أكون عينا يقظة على العالم، لتذكير قيمتها الأساسية. هي أن أكون الوهج المتحرك لحقيقة لم تقطع خيوطها مع أسرار أصل الأشياء. هو أيضا تلك الحصة من الجمال والرقة التي تمنح الإنسان هشاشة أزلية. وبالطبع أن أكون امرأة هو أن أكون مكملة لنصف الدنيا. نصف كل شيء: الرجل.. الحياة.. والمقدس. نصف لا يمكن أن يوجد شيء أو أن ينتصب على ركائزه دون الآخر. فبدون المرأة لا معنى للأشياء ولا توق للتناغم.
وعن الكتابة النسائية تقول: “إذا كان السؤال يعني هل للكتابة جنس؟ هل المرأة تكتب مختلفا عن الرجل؟ أجيبك دون أي عقدة أو مركب، أنني لا أنتمي إلى الكاتبات اللاتي ينزعجن عندما نتكلم عن الكتابة النسائية. أعتقد أن الأهم هو في الولوج إلى المواضيع والطريقة الخاصة للتعبير عنها. في اختيار اللغة. وإذا كانت تركيبة خصائص مميزة تجمع: الكيان كجسد وتطور عواطف مختلفة… فلماذا لا نحمل هذا كعمق إنساني يثري العالم، ويلتقطه ليرسله في صور ونغمات مختلفة، لنعتبر هذا الوجود كرفض للهيمنة الذكورية السائدة. وكطريقة مضافة للتذكير بأن النساء لسن رجالا كالآخرين”.
قصة “رجالكنّ حرث لكنّ”..
لفوزية الزواري
“حلّ الليلُ دون سابق إنذار. رأيت القمر بعيدا، يرتفع سريعا وخيّل لي أنّه يسمع هفهفة النّجوم التي ترافق موكبه.عندما نمت حلمت هذا الحلم الغريب. الوقت وقت عاصفة. تندفع نحو الغرب سحب متراكبة كثيفة كأنّها مواكب رجال قريتي الجنائزيّة وهم يتقدّمون إلى المقبرة، أو كأنّها نّساء أخرجهنّ مصاب من ديارهنّ جاريات يتعثرن في جلابيبهنّ.. ينصبّ غضب الله مطرًا مدرارًا فالطّبيعة نبع ظلمات. ولم يعد لقريتي التي التهمها الليل من وجود إلاّ على خريطة من خيال. بعيدا، تهوي رؤوس قمم الجزائر الجبليّة ويظهر في حقل نظري طيف رجل. يثير سلوكه فضولي. الرّجل يدور حول المنزل منحني الظّهر حينًا ممدود العنق إلى الأمام أحيانا وعيناه تبحثان في الظّلام.
وإذ أندفع خارجة لأعرف هويّة زائري أجدني طفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها سنوات عشرا. أنتقل في لمح البصر إلى وسط الحقول قرب نبع يخرج من مكان لا يبعد غير أمتار قليلة عن مقام سيدي الميزوني. أرى نفس الطّيف ينحني فوقي. إنّها قسمات زوج أختي توفيق. يدفعني بين سنابل القمح. أنا تحت قدميه. حيوان مرتجف مذعور. يثـبّت، بيد، جسمي فوق الأرض ويرفع ثوبي ويعرّي بطني وفخذيّ. يفكّ باليد الأخرى، قـفل سرواله. ها هو فوقي يسحقني ثـقله. لم أعد أرى، غير ركن في السّماء ملطّخ بالدم، وعينيه المغلقتين على خيبتي.
في هذه اللحظة يسمع ضجيج تنـفّسُ. أتعرّفُ نبرات “كيكي” الصوتيّة. تتصاعد في يديّ قوّة خارقة فأرفع كتلة مغتصبي الضّخمة وأفلح في التخلّص منه. وإذ يرى مجنون “إبّه” رأسي يطلّ من بين السّنابل يفرّ صائحا:
ـ عفريت! ساحرة!
أعدو خلفه دون تفكير. وكلّما أسرعت لألحق به وأنا أعرف أنّ ذلك أفضل وسيلة للفرار من الرّجل الذي هاجمني في الحقول، ازداد “كيكي” هلعا. فهو يجري واضعا يديه فوق رأسه وقد برزت عيناه من محجريهما وأنا على أعقابه كالرّيح، مطيّتي خوفي هكذا ندخل القرية. أتلفتّ. لا أرى لمغتصبي أثرا.
ثمّ أراني أدفع الباب من جديد وأخرج من المنزل، كما لو أن الأمر يتعلّق بإعادة المشهد نفسه. غير أنّني أعود من جديد إلى سنّ الكهولة. أبتعد دون نأمة. في الخارج الديكور هو ذاته: “إبّه” وحقولها. العاصفة والليل.
ينغلق الباب ذو المقبض النحاسيّ دون صرير. أمشي، تتقدّمني يداي لأفتح لي مسلكا في الظلام. أولّي وجهي شطر المقام مستسلمة لغريزتي ذاهبة إلى وجهة قاتلة كثور الأضحية.
يتعقّبني زوج أختي “توفيق”. أعرف ذلك، لا من صوت ما، لكن بصدى أفكاره في أفكاري. ولا ينتابني هذه المرّة خوف ولا ضيق. وإذ أجلس بالقرب من مقام سيدي الميزوني يقترب منّي وئيدا في حذر دون أن ينبس بكلمة. أتلفت نحوه وبعنف أمسك به. نفس القوّة التي كانت لي وأنا صغيرة في الحلم السّابق، صلّبت أصابعي التي طوّقت عنقه. لم يعد زوج أختي سوى شيء أعرّيه وأعنّفه وأمزّق جلده. مزّقت بأسناني قميصه الذي ينفتح أخيرا. يغمض عينيه ولا يكاد يدافع عن نفسه وقد أخفى وجهه بين يديه وضمّ رجليه إلى صدره. ها هو عار. أنثر ملابسه حولي فيجثو كحيوان جريح. أركبه، مثبّتة يديه إلى الأرض، نازلة بكلّ ثقلي على حوضه.
تصّاعد أغنية في أعماقي وترتدّ في الوادي. لا أعلم أخرجت من صدري أم من هضبة للّا شاردة. لتكن النّجوم شهودي! يعتريني شعور أنّني سيّدة الليل وربّة القرية. عشيقة سيدي الميزوني. أرمق العالم بعيني جنيّة بريئة. وأجلس بفرجي فوق إير رجل خاضع. يستسلم توفيق لي. لا أرى قسمات وجهه المخفيّ وراء يديه وقد استطاع أن يخلّصهما من قبضتي. لا أسمع سوى حشرجته التي لم يعد يخفيها. أمتطيه كما أرغب. أجعل من جسده المنتصب كضوء في الظّلام وشعره الذي يسيل عرقا ومطرا، مضجعي. قدّر جنونَ حركاتي التي تلصقه بالعشب المبلّل فيصدر نفس صوت الفقاقيع المنفجرة التي يصدرها حذاء بيّة الرّياضي. أين “بيّة” ؟ لتشهد انتصاري الليلي.
ترتفع الأغنية من جديد: لتكن النّجوم شهودي! يعتريني إحساس السّعالى التي لا تعرف الشّعور بالذّنب ولا تعتنق المبادئ. يعتريني شعور غريب وأنا أحرث هذا الرّجل تحتي بأنّني أتصالح وهذه الأرض وأوقّع على عودتي إلى أهلي. وبأنني أجد، في هذا القلب الرّجالي الذي يدقّ مذعورا، الإيقاع القديم الذي كاد البعد أن يعطلّه فيّ. لا بدّ لي أن أظفر في هذا الليل بجسد عدوّي لكي أتصالح مع أهلي.
لقد دفعتِني في الختام، يا أمّي إلى الاقتناع بأنّ اللذة مرجل فيه يدفع الشّيطان بالهالكين، وأنّ أبسط حركة تأتيها المرأة نحو الرّجل قد تكّلفها الطّرد من الجنّة التي وضعها الله تحت قدميك! وهذا الّذكر حبيس جسدي يشبه شبها غريبا ذاك الذي اعتدى على جسمي الغضّ في حلم سابق وسط الحقول التي لو كانت تستطيع كلاما لحدّثت بما وجدته من شعور كبير بالعار.
هكذا أسبّح نشيدي. يردّ صوت عليه كأنّ معجزة حصلت: منذ ذاك اليوم ما استطعت لرجال بلادك نظرًا دون أن تنتابك خشية على عفّتك. كما لو كانوا وحدهم مكلّفين بانتهاكها.
كانت معرفة الرّجال تعني عندك أن تغامري بعيدا عن الدّار وأن تفتحي أبواب الخطيئة على مصراعيها وأن تخاطري بارتكاب معصية. كان لابدّ لك من أجنبي، كسارق الليل يحتاج أجنبيّا، لتحبّي دون أن يقبض عليك متلبّسة ودون أن تظلّ صورة الخطيئة الأولى ماثلة بين عينيك.
أيـّتها الهضاب والوهاد. لو كنت قادرة على أن تشهدي! ها أنا ملطّخة بالطّين والعشب وحيوانات صغيرة. أنا جزء من هذه الأرض، خفيفة كغبار نجم، سريعة كالجدول. يزداد المطر عنفا ويرتفع هدير الوادي. إنّ الفيضان لوشيك والفجر لقريب. يدفع الماء سور سيدي الميزوني حتّى يبلغ قبره، وفجأة يطلع من القبر رجل له قسمات منصف. ألتفت فيختفي توفيق. وإذ أنهض لأتقدّم نحو ولد مسعودة يهتزّ جسمي كلّه وأفيق من نومي. السّاعة الثّالثة فجرا. صفّر القطار ومن نافذته التي ظلّت مفتوحة يسيل قبس من نور أسهر على صمت النّجوم عاجزة عن النّوم من جديد”.