مضى عليًّ وقت طويل وانا أقرأ مستلقيا على كومة من التبن في البيدر . وعلى حين غرة تملكتني موجة من السخط على نفسي . ها أنا أقرأ مرة اخرى منذ الصباح الباكر . مرة اخرى الكتاب لا يفارق يدي . وهكذا يوماً بعد يوم منذ طفولتي . أمضيت نصف عمري في عالم وهمي بين أناس لم يكن لهم وجود قط . أناس أشاطرهم مصائرهم وافراحهم واحزانهم ، كما لو كانت هي مصائري وافراحي واحزاني انا بالذات . ربطت مصيري حتى آخر يوم في حياتي بمصائر ابراهيم واسحاق ، وبالبيلازكيين (1) ، والأوتراسكيين ( 2) وسقراط ويوليوس قيصر وهاملت ودانتي وجريتشين (3) وتشادسكى ( 4) وسوباكيفيتش (5 ) واوفيليا ( 6) وبيجورين ( 7) وناتاشا راستوفا ( 8) . .
وانّى لي الان ان اميّز بين الحقيقيين منهم والوهميين من أصحابي في وجودي الارضي ؟ كيف امّيز الواحد عن الاخر ، وكيف أحدد درجة تاثري بكل واحد منهم ؟
عشت في عوالم ابتدعتها خيالات اناس اخرين غرباء عني ، وفي غضون الزمن الذي امضيته في القراءة ، كان الحقل والدار والقرية والفلاحون والخيول والذباب والنحل والطيور والغيوم تعيش حياتها الخاصة ، حياتها الحقيقية . .
وها انا أحس بذلك بغتة . افقت من سحر الكتب ، والقيت بالكتاب الذي كان في يدي الى كومة التبن ، واخذت في دهشة وسرورغامر انظر فيما حولي نظرة جديدة ، وبعيون جديدة . ارى بجلاء وحدة ، واسمع ، وأشمّ . والاهم من ذلك أشعر بشيء ما بسيط للغاية وجد معقد في الوقت ذاته ، ذلك العميق الرائع الذي لا يمكن التعبير عنه ، الموجود في الحياة وفيّ أنا بالذات ، والذي لا يعبر عنه الكتّاب كما ينبغي ابدا .
و في الوقت الذي كنت فيه أقرأ ، حدثت في الطبيعة تحولات خفية : كان الجو رائقا وبهيجا ، اما الان فقد تغير كل شيء . ساد الهدؤ والظلام ، وتجمعت الغيوم شيئا فشيئا في السماء . ولا تزال في الناحية الجنوبية مناطق مضيئة وجميلة . واما الى الغرب ، وراء الباب وخلف أشجار الصقصاف فالجو ممطر وكئيب ومشوب بالزرقة . ومن بعيد تأتي رائحة الامطار دافئة وناعمة من الحقول . وثمة في الحديقة صفارية وحيدة تغني ، وعلى أمتداد الطريق الأرجواني الجاف ، الذي يفصل كومة التبن عن الحديقة ، هناك فلاح في طريق عودته من المقبرة ، يحمل على كتفه مجرفة ما زالت بقايا التراب الاسود عالقة بها , وجهه متورد ومشرق مثل شخص أستعاد شبابه ، القبعة منحرفة عن جبهته التي تتفصدعرقاً . ابتدرني بحيوية قائلاً :
– طاب نهارك . زرعت شجيرة ياسمين على قبر ابنتي ، اما زلت طوال هذا الوقت تقرأ وتؤلف الكتب ؟
انه سعيد ولكن لماذا ؟ فقط لأنه يحيا في هذه الدنيا، أي انه يقوم بما هو الأكثرغموضا في العالم ، والذي لا يمكن ادراكه .
الصفارية تشدو في الحديقة ,ما عدا ذلك فكل شيء يلفه السكون , حتى الديكة صمتت ، ولا يسمع صياحها . الصفارية وحدها تغني وفي هدؤ تطلق زغاريد غنج ودلال .
لماذا ؟ ولمن ؟ لنفسها ، او لتلك الحياة التي تحياها الحديقة والمنزل الريفي منذ مائة عام ؟ ولكن ربما كان المنزل الريفي هو الذي يحيا من أجل غنائها الفلوتي ؟
” زرعت شجيرة ياسمين على قبر ابنتي ” . ولكن هل البنت تعرف ذلك ؟ الفلاح يعتقد انها تعرف ذلك ، ربما كان على حق . الفلاح سينسى أمر هذه الشجيرة بحلول المساء . لمن تزدهر الشجيرة اذن . ولكن لِمً يبدو ذلك عبثا . انها تزدهر لشخص ما ولسبب ما .
اما زالت طوال الوقت تقرأ . اما زلت تلفق الكتب , ولكن لم التلفيق ؟ لم الابطال والبطلات ؟ لم كتابة الرواية والاقصوصة ذات العقدة والحل . الخوف الازلي من ان لا تظهر بمظهر الكتبي بما فيه الكفاية ، الخوف من ان لا تكون شبيها بالمؤلفين المشهورين بما فيه الكفاية .والعذاب الأبدي، والصمت الأبدي عن ذلك الذي يعود لك شخصيا وفعلا , ذلك الحقيقي الوحيد الذي يطلب التعبير الأكثر مشروعية ،أي الاثر المجسد والمحفوظ في الكلمة على الأقل .
ملاحظات المترجم :
* ايفان بونين ( 1870 – 1953 ) كاتب كلاسيكي بارز ، وأول كاتب روسي حاز على جائزة نوبل في الآداب عام 1933
1- الاسم الذي أطلقه المؤلفون اليونانيون القدماء على الشعب الذي سكن اليونان قبل الحضارة الميسينية (في فترة ما يسمى فترة هيلاس في التاريخ اليوناني) ، كما كانت موجودة لبعض الوقت بعد وصول الإغريق .
2- اتروسكي ، هو الاسم الحديث لحضارة عاشت في إيطاليا القديمة ( حوالي الف سنة قبل الميلاد ) في منطقة توسكانا الحالية تقريباً .
3- قصة حب فاوست وجريتشين في مسرحية ” فاوست ” لغوته
4- الكسندر أندريفيتش شاتسكي – الشخصية الرئيسية للكوميديا الشعرية التي كتبها ألكسندر غريبوييدوف “ويل من العقل” .
5- الإقطاعي سوباكيفيتش هو واحد من أكثر الشخوص إثارة في الرواية الملحمية الساخرة ، التي كتبها الكاتب الروسي نيقولاي غوغول في 1842
6 – أوفيليا، إحدى الشخصيّات الرئيسة في مسرحية «هاملت ” لشكسبير” .
7- بيجورين ، بطل رواية ميخائيل ليرمنتوف ” بطل من هذا الزمان ”
8 – ناتاشا روستوفا – إحدى الشخصيات الرئيسية في رواية ” الحرب والسلام ” لتولستوي .