- توقظ شهد الراوي فينا طفولتنا ؛ مثل ناقوس يتناهى من بعيد، ونشم رائحة الطبخ، والأمكنة، وندخل تحت الافرشة؛ ونمشي في الأزقة.
ندخل الملاجيء ونقرأ” أية الكرسي” مع الجدة التي تصلي في الظلام لان الله لايحتاج الى الضوء كي يراها.
في “ساعة بغداد” ينزوي الأبطال في ثنايا الحارة، لانها وحدها من يصنع الأحداث. وتحتفظ الكاتبة الشابة، بذاكرة
عذبة، عن حيوات، عاشت ثلاث
حروب، أدمت قلوب ساكني الحي البغدادي؛ وألهبت خيال
الروائية؛ ودفعتها لتدوين التفاصيل؛ في سجل يؤرخ ببساطة، وبلغة تنمو مع الراوية، قصة عوائل عاشت، على مدى عقدين تقريبا؛ متجاورة مع الاحزان والمحن والمصائب؛ ولم تفقد جذوة الحياة.
ليس “عمو شوكت” و”باجي نادرة” ، و”أبو نبيل” صاحب الدكان، شخصيات متفردة ، انهم ليسوا ابطالا بالمعنى التراجيدي، انهم مع الجيران
الآخرين ، اليفون الى حد ان أشباههم مروا في حياتنا.
الفرق، ان شهد الراوي،أمسكت بهم وأعادتهم الى مخيلتنا المعذبة، وجعلت من يوميات حياتهم العادية، في مدينة ترزخ تحت الحصار والاستبداد، ابطالا يشبهوننا تماما.
لم تكتب شهد الراوي، بلغة مقعرة، لانها تسرد احداثا؛كانت تجري في كل المحلات والاحياء؛ مع اختلاف كثافة، الطبقات الاجتماعية التي يتألف منها العراق.
احداث “ساعة بغداد” تدور في حي تستكينه، وتسكنه؛ الطبقة المتوسطة التي سحقها الحصار والقمع، لكنها لم تفقد بريقها، ولم تتريف عاداتها ولهجتها، رغم الزحف الهادر للريف، وانثلام المدينة المثقلة بأعباء المعيشة.
الراوي، لم تقم مناحة او عزاء يقطع نياط القلب ويضاعف الاحزان.
“ساعة بغداد”تحن على قارئها، مثلما ترأف بشخوصها.
فالكاتبة تتعامل معهم بحساسية من يملك “عنتيكة” يخاف عليها من الكسر وتتجنب، الاوصاف القاسية، وتهذب حواراتهم، دون افتعال او تأنق مزيف، فقط لانها تحنو على بيوت
المحلة؛ مثل” عمو شوكت” الذي يطوف كل يوم تقريبا لتفقد البيوت
المهجورة.يشذب أشجارها، ويسقي ترابها، ويتحدث مع اشباح ساكنيها المهاجرين الى بلاد الغربة هربا من الحروب والحصار، وسلموا مفاتيح ماضيهم في الوطن الى ” عمو شوكت” وكلبه الخرافي”برياد”.
الراوي ، تداري قارئيها، فتبعد عنهم الصور القاسية، رغم مرارة الأحداث. ولعلها في الاعمال القادمة، ستجدها مضطرة لنهج مختلف، لا يعمد الى تدوير زوايا الكلمات الحادة، فيما لو واصلت الكتابة عن العراق، واختارت لأعمالها القادمة؛ ” موديلات” او “نمايم”من أهله.
حين فرغت من قراءة “ساعة بغداد” تذكرت تجربة الروائي الراحل الصديق غائب طعمة فرمان(ت1990)؛ الذي امضي اغلب سنوات عمره الإبداعي في الغربة. عاشها في موسكو.
لقد نهل غائب في ” النخلة والجيران”
و ” خمسة أصوات” من معين الأحياء البغدادية، ومن حيوات عاصرته في العراق، طفلا وصبيا، وشابا، وصحفيا، وزبونا مدمنا في حانات الرشيد وأبو نواس والمربعة والميدان وسيد سلطان علي.
وبعد هاتين الروايتين؛ جفت انهار الذكريات، وبات يتعين على غائب الذي هاجر من العراق، مطلع ستينات القرن الماضي، ان ينسج من خياله؛ أماكن وشخوصا، وتفاصيل، وأزقة، وشوارع وأسماء، ومحاكم، وشريعة، ووجوه.
في أوج لهيب الحصار المحيط بالعراق؛ أواسط تسعينات القرن الماضي؛ زار موسكو؛ وفد من اتحاد الأدباء في العراق؛ بينهم الناقد والمثقف المجتهد ؛ ماجد السامرائي، والقاص الذي لم يجف في صحراء الحصار؛ احمد خلف، وشاعر قلق، مات فيما يشبه الانتحار .
وبطريقة ما تمكنا ان نلتقي !
كانت المراكز الامريكية والغربية، تفتح “مختبرات ” للعناية بكتاب وصحفيين، سيدخلون الى العراق؛ مع دبابات
الغزو.
وظهر جليا ان نظام صدام حسين وآلته الأمنية الاعلامية؛ كان يخشى من انخراط مثقفي وكتاب الداخل، في تلك المراكز، فعمد الى إرسال وفود الى “البلدان الصديقة”، ومنها روسيا ، لإبداء حسن نواياه في التعامل مع مثقفي العراق الصامدين تحت القهر والحصار.
ولان النظام قلق ومحاصر، ويشك في انفاسه حتى، فقد ارفق مع الوفد عضوا أنيقا مؤدبا ، لم يقرا يوما قصة لاحمد خلف او قصيدة لشاعر قلق، ولايعرف عن ماجد غير لقبه.
كان صموتا في اللحظات التي التقيتها مع أصدقاء؛ سنوات الامل، بل انه كان غاية في الدماثة ؛ حين تركنا على انفراد.
وكان الحديث ذو شجون.
سالوني بصوت واحد:
شلون مات غائب؟
بالدمع أغلقنا السؤال.
في تلك اللحظات؛ سالت نفسي، ماذا لو ان غائب لم ينزح من العراق، وعاش كل تلك المحن والمصائب والآلام التي دفعت بالشاعر الى الانتحار، والقاص لان يكتب على ورق البردي، ولا يبلل ريقه، والناقد، لان يبحث عن المفردات الأقل سطوعا خشية الإملاق.
حينها، ادركت ان العراق، الطارد للمبدعين، سيجف نهرا، ويتيبس شجرا، ويشتعل مدنا، ويضيع تراثا ، وتعمى بصيرته ؛هواجس الأمان.
في “خمسة أصوات” غائب طعمة فرمان، يسال احد الأبطال؛ حين يرى رئيس الوزراء، يتولى تنظيم المرور في شوارع بغداد: متى يجد الرئيس وقتا للاهتمام بقضايا البلد الكبرى؟!
في ” ساعة بغداد” تكتب شهد الراوي: ماذا يفعل الرئيس بضفائر النساء؟
كانت تتحدث عن احتفالات المدراس بعيد ميلاد الرئيس الضرورة، وقص ضفائر التلميذات هدية للقائد!
لم تترك شهد الراوي، لحظة نادرة، في طفولتنا، الا ونكـأتها ، مثل ام تفتش عن قمل تتوهمه في شعر ابنائها العائدين من سفرة مدرسية.
لا تغرز الام اظافرها في الرؤوس الطرية، انها تدغدغ .
تدق” ساعة بغداد” حتى المقطع الأخير من الزمن المكتوب!
انها تدغدغنا!