وأخيرا أعاد قاسم سليماني عصفورَه النافر إلى عشه الأول، وجعلَه يتخلى، مرغما، عن بالوناته الدخانية المزعجة حول (شلع قلع) وحول (استقلالية) القرار الوطني العراقي.
ويبدو أن تفجير مستودع سلاحه في مدينة الصدر كان جرة الأذن النافعة التي أفهمته أن خروجه عن النص قد زاد عن حده، وأن الأوان قد آن لأن يعود إلى قواعده سالما، وأن يلتمَّ تحت العباءة الإيرانية جنبا إلى جنب مع (المليشيات الوقحة) التي كان يجاهر باستحالة تحالفه معها، رغم ما في هذه العودة من خسائر سياسية وشعبية، وسقوطٍ منعيون كثيرين من العراقيين.
ولا غرابة في أنَّ أولَ المهللين والمزغردين لعودة الفرع الصدري إلى الأصل الخامنئي يكون نوري المالكي وقيس الخزعلي ومرجعية السيستاني وقادة آخرون بارزون في الحشد الشعبي.
ولكن هذه العودة المفاجئة تسببت في كثيرٍ جدا من الحرج لحلفائه في ائتلاف (سائرون)، وفي مقدمتهم قادة الحزب الشيوعي العراقي ورئيس قائمة الوطنية أياد علاوي، وتنظيمات صغيرة أخرى جمَعَها مع الصدر وقوفُها الدائم معه في ساحة التحرير ببغداد للتظاهر ضد الفساد والفاسدين، وللدعوة إلى مدنية الدولة، ولإسقاط حكم المحاصصة الطائفي الذي ترى أنه المسؤول الأول عن الكوارث التي شهدها الوطن وأهله، من أول العام 2003 وحتى اليوم.
إن عودة الصدر إلى البيت الشيعي (الطائفي) الموكل بتنفيذ الأجندة الإيرانية في العراق، وربما في المنطقة، كانت متوقعة وغير مستغربة لدى المتخصصين بالشأن العراقي، ولدى من عرفوا مقتدى من أول ظهوره في النجف بجريمة اغتيال عبد المجيد الخوئي، لعدة أسباب.
أولها أن إيران تعتبر العراق، خصوصا في أعقاب الخسارات التي تسبب فيها النهج الأخير للرئيس الأمريكي ترمب، قلعتها الصامدة التي لا تتحمل كلفة خروجها منها، بأي ثمن وتحت أية ذريعة.
وثانيها أن نتائج الانتخابات الأخيرة أثارت مخاوفها من أن يفلت زمام العملية السياسية من يدها، ويتمكن خصومها وأعداؤها المحليون والعرب والدوليون من إبعاد وكلائها العراقيين عن قيادة العراق لأربع سنوات قادمة قد تكلفها الكثير.
وثالثها أن سيرة مقتدى نفسه وتكوينه النفسي عودتا أصدقاءه وأعداءه، على حد سواء،على التقلبات والاندفاعات المتناقضة. وعليه فإن ثباته على معاندة قاسم سليماني ورفض تحالف مع مليشيات بدر والحشد الشعبي ونوري المالكي كان أمرا مشكوكا فيه إلى حد كبير.
يُضاف إلى ذلك كله أن مقتدى لم يجرؤ يوما على شق عصا الطاعة الإيرانية ذات يوم، من أول ظهوره كزعيم مليشيا.
ثم إن مقتدى لم يكن لينجو من الملاحقات القانونية والأمنية والعسكرية أيام بريمر، ثم أيام أياد علاوي، ثم نوري المالكي، بسبب ارتكابه أعمالا اعتُبرت إجرامية، ومنها جرائم قتل وتخريب مؤسسات حكومية، لولا العطف الإيراني والحماية الكاملة التي كان يأمر بها الولي الفقيه عند اشتداد الأزمات.
والآن وقد تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من مخطط إيران بشأن الرئاسات العراقية الثلاث، وخاصة رئاسة الوزراء والبرلمان وأغلبية مقاعده، والوزارات السيادية والخدمية، فإن الدولة العراقية ستكون دولة الحشد الشعبي، بلا منازع، وسيكون رئيسَ وزرائها وزعيمَها الأوحد هادي العامري، ويصبح نوابَه ومعاونيه نوري المالكي وقيس الخزعلي وأبو مهدي المهندس. أما القابلون بالعمل تحت قيادتهم ووصايتهم من شيعة إيران وسنتها وكردها سوى واجهات استعراضية لاستكمال الديكور الداخلي، لا قرار لهم ولا شأن سوى مكاسب ومناصب ورواتب زهيدة لا تمس العصب الحساس من الدولة الجديدة.
ويظل السؤال الأهم هو كيف ستخرج قيادة الحزب الشيوعي من هذا المأزق الخطير؟، هل ستأخذها العزة بالإثم فتتمسك بتحالفها مع جماعة مقتدى، حتى وإن أصبح لزاما عليها أن تعمل مع المتهمين الكبار بالفساد، أم تنسحب وتتعرض لمخاطر التصفية وسوء العقاب؟
ثم كيف تحالفت معه، من البداية، وهي تعلم أكثر من غيرها بأنه رجل دين سطحي جاهل لم يتعلم، ولم يُعرف عنه تاريخٌ من العلمانية والحداثة ومقاومة المحتل الأول الأمريكي ثم المحتل الثاني الإيراني، وكان صاحب مليشيا، وواحدا من المتحاصصين الكبار في حكومة من الفاسدين؟.
ولا عزاء لحلفائه الآخرين من الوطنيين الحداثيين المستقلين الذين أحسنوا الظن بالتيار الصدري، وظنوا أنه مُخلِص، مثلهم، للدعوة إلى مدنية الدولة العراقية، وإلى التصدي لوكلاء الاحتلال الإيراني، ومنهم فاسدون كبار، وخونة كبار، كانوا وما زالوا يباهون بأنهم قاتلوا الجيش العراقي في صفوف الحرس الثوري الإيراني في حرب الثمانينيات،ويعلنون دون خوف ولا حياء أنهم، إن حدثت حرب جديدة بين إيران والعراق، سوف يقاتلون في صفوف الإيرانيين، من جديد. ولنتهيأ لأربع سنوات جديدة من الفساد، والعمالة، وعلى المكشوف.