لا تأمنن بعيش طاب أوله
وتستقل من الدنيا بمحبوب
وجرب الناس تأمن عواقبهم
لا يعرف الشيء إلا بالتجاريب
كم حذرنا السابقون من الركون الى عيش طاب أوله! وكم من نصائح ومواعظ ملأت الأسفار، ترشدنا الى سلوك طريق الاختبار والامتحان والتجربة، بغية الوقوع على حقيقة معيتنا من البشر! ومع أن “المجرب لا يجرب” إلا أن “الأحوط وجوبا” تجربته، فلعل التجربة الأولى لم تكن محكا قاسيا يظهر حقيقته، أو لعل حنكة يمتلكها مكنته من خداع بعض الناس بعض الوقت، بل قد يكون جنبذا من جنابذة المكر والدهاء، فيخدع كل الناس بعض الوقت، غير أنه في أحواله جميعها، لايستطيع تمرير خدائعه على كل الناس كل الوقت.
وفي قول آخر:
لا تمدحن امرأً حتى تجربه
ولا تذمنه من غير تجريب
تقودنا الدلائل من الأبيات السابقة -إن تمرسنا بها- إلى الحق في تصوير مايدور حولنا من أحداث، وبالتالي تتولد لعقولنا القدرة، وتتهيأ لنا الملَكة على الحكم والبت في مكانة بعض الناس، شريطة أن يكون جانب الحياد والعدل أساس حكمنا.
كلنا يذكر عام السعد 2003.. الذي ظن العراقيون أن بعبع الشر والشريرين قد انقشع دون رجعة، وعهد الظلم والبطش والقهر والذل قد ولى بلا عودة، ولم يدروا أنها خدعة كبرى، كانت مخبأة لهم ومحاكة منذ حين بتدبير وتخطيط محبك، بأيدي كثيرين ممن كانوا يسمون أنفسهم “معارضة”، حين كانوا طيلة حكم رئيس العراق السابق صدام حسين، يسرحون خارج حدود العراق الملتهبة، ويمرحون متنعمين بخيرات بلدان المشرق والمغرب، ويعيثون فيها سباتا تحت مسميات اللجوء السياسي او الإنساني، حتى نالوا مبتغاهم ومناهم في الـ green cart وحصلوا على الإقامة في دول، صارت موطنهم الأم، وسواء أكانت الإقامة دائمة أم وقتية! هم على يقين أنها ستتجدد ويتجدد عيشهم الرغيد هناك، وبعضهم أغدقت عليهم بلاد الغربة بمنحهم جنسيتها، فراحوا يكنون لها الولاء المطلق، وانحرفت مؤشرات بوصلة انتمائهم صوبها، نائية عن اتجاه العراق الذي ناء بحمل الحاكم الجائر والسلطان الظالم.
وطيلة وجودهم خارج مايسمونه وطنهم العراق، كانوا ينتظرون فرصة ليسوا طرفا فعالا في صناعتها، ولا عضوا مشاركا في ولادتها، وشاءت الأقدار أن تأتيهم الفرصة على طبق من ذهب، مرصع بالألماس والجواهر التي طالما حلموا بها يقظة ومناما، تلك الفرصة التي أمسكوا بها بكل ما اوتوا من قوة، وما كان أروعها من فرصة للعراقيين جميعا لو استغلها هؤلاء استغلالا طيبا صحيحا مثمرا، يعود بالنفع والريع للبلاد التي أجدبها سوء الحكم والتحكم طيلة أربعة عقود، وطالها ماطالها من خراب ودمار وموت ونفي لأهلها وقاطنيها.
لقد كانت سنة 2003 فرصة ثمينة جاد بها القدر للـ “معارضين” بعد تحملهم عناء الغربة والنفي والإقصاء -كما يدعون- وكان حريا بهم أن يكملوا مشوار نضالهم في منافيهم، ويتمموا مابدأوه من خطوات في مسيرتهم، فيعكسون إيجابيات مبادئهم التي ضحوا من أجلها حين سنحت لهم تلك الفرصة داخل بلدهم المحرر من براثن الطاغية، فهل فعلوا هذا؟ وهل أثمرت سنوات تغربهم ولجوئهم السياسي والإنساني ثمارا ينعم بها أبناء جلدتهم من الشعب العراقي؟ أم أنهم اقتتلوا على الغنيمة بعد الاستحواذ عليها، وعلا صياحهم واشتد ضباحهم، وتركوا مبادئهم ووطنيتهم، وانحاز كل منهم الى شأنه وشأوه!.
لقد عاش العراق منذ عام 2003 حتى اللحظة ظروفا قسرية ماكانت صنيعة الغرب او الشرق 100% كما أنها لم تكن قد انهالت على أرضه من سماء سادسة أو سابعة، كذلك لم تتفاقم ظروفه سوءا على يد أغراب من خارج البلد، لولا الأيادي التي تعهدت لها من داخله، وهيأت لها الأرض والمناخ، بعد أن تمكنت من مسك مراكز القيادة والإدارة والتحكم بمفاصل البلاد. وليست بعيدة عنا أحداث الأعوام 2006 – 2007 – 2008 التي أسهمت في تردي أوضاع البلد الأمنية فيها أيادٍ عراقية (أبّا عن جد) ولم تدع تميمة او وسيلة او طريقة إلا واتبعتها، في سبيل إيقاف عجلة البلد وإرجاعها القهقرى على أعقابها، والأمثلة على هؤلاء كثيرة، والقائمة طويلة عريضة بمن مازالوا يتربعون على كراسي صنع القرار والبت فيه، والذين يتباكون بدموع التماسيح على العراق ومستقبله.
وما يزيد الطين بلة هو تناسلهم يوما بعد يوم، ودورة تشريعية بعد أخرى، وحكومة بعد حكومة، ومجلسا بعد مجلس، الأمر الذي أفقدنا طيب عيشنا الحاضر، مقارنة بعيشنا الأول، فما بال عيشنا في العقود المقبلة، حيث خذلنا المجرب في الماضي، ومازال دأبه خذلاننا في الحاضر؟.