بعد اتمام إتفاقية وستفاليا التي وضعت حداً للحروب الدينية في أوروبا، إستمر القتال بين هولندا وألمانيا لعام كامل، وهو الوقت المستغرق لوصول خبر الإتفاقية إلى المتحاربين ، مما يشير إلى بطء وصعوبة نقل ونشر المعلومة انذاك . من الطبيعي إذاً -مع ندرة وسائل الإتصال المعرفي- أن تكتسب المعرفة طابعاً نخبوياً، ويكون للثقافة آلهتها التي تتحكم بصناعتها ونشرها، ولما كانت الثقافة السائدة ذات مضامين دينية فإن رجال الدين هم أبرز النخب الثقافية آنذاك، و عامة الناس هم أطفال الرب، وبالطبع لن يبلغ الأطفال سن الرشد طالما لا يكلمهم الرب إلا باللاتينية التي لاقدرة لهم على فك حروفها، وهكذا فرجل ألدين هو المصدر الوحيد للمعرفة و التي هي مصدر للسلطة أيضاً حسب دراسات ميشيل فوكو. قبل الطباعة كانت الذاكرة والإستنساخ اليدوي هما الوسيلتان الوحيدتان لحفظ المعرفة، وكان للذاكرة مكانة هامة لدى الأغريق بحيث أن سقراط يرى الحكمة المكتوبة حكمة ظاهرية على عكس الحكمة المحفوظة بالذاكرة فهي متأصلة بالروح ، كما أن العرب يدينون بحفظ ثقافتهم للموهوبين من حفظة الشعر والأحاديث والحكمه. وكان النساخون ينجزون فقط الأهم من الكتب وخاصة الكتب الدينية وأمهات الفلسفة، فمعدل إنجاز الكتاب يستغرق ثمانية أشهر على الأقل.
جاء إختراع الطباعة على يد الصائغ المبدع يوهان غوتنبرغ ليشكل منعطفاً كبيراً ساهم في دمقرطة المجتمعات، عبر خلخلة النظام النخبوي للمعرفة ونشرها بين العامة. في البداية كانت طباعة الإنجيل و بإعداد كبيرة حتى سميت الطباعة بالفن الإلهي المقدس،ثم بدأ الناشرون -سعياً وراء الربح – بطباعة الإنجيل باللغات المحكية، فلا بد للرب أن يكون متعدد اللغات ليفهمه كل عباده، وهكذا تراجعت أبوية رجل الدين وبلغ أطفال الرب سن الرشد، وقد وجدت حركات الإصلاح الديني ضالتها في الطباعة لتضع العبد وجهاً لوجه مع الرب دون وسيط. إذاً لا غرابة أن تنعت النخب -التي تهالك نظامها الإحتكاري للمعرفة- الطباعة بالسحر الشيطاني، (مثلما تحرك النرجسية بعض مثقفينا فيشيرون بسخرية لما يسمونه ثقافة الإنترنيت) ، وقد كثرت شكاوى رجال الدين ضد الناشرين بسبب أخطاء مطبعية بدعوى أنها تسيء للدين، ومن طرائف ذلك أن طباعاً أسقط سهواً كلمة “لا ” من أحدى الوصايا العشرة فأصبحت ( على المؤمن أن يزني بجارته) فأنعكس المعنى.حركة النهضة هي الأخرى كانت تعاني قبل الطباعة من محدودية الوسائل لنقل افكارها النهضوية إلى عقول الناس. فلم تخرج عن دائرة النخبة حتى بدأت طباعة الكتب وكانت في معظمها كتب في الفلسفة الإغريقية والملاحم . أما الثورة العلمية فقد تعززت بطباعة الكتب وكان من أوائل الكتب المطبوعة كتاب كوبرنيكوس الذي أحدث صدمةً عنيفةً للكنيسة باكتشافه أن الأرض ليست مركز الكون وما هي إلا تابعاً يدور حول الشمس .كذلك كان للطباعة أثرٌ هائل على الإقتصاد، فقد ازدهرت المكتبات والمطابع وانتعشت التجارة ووفرت عملاً لأعدادٍ كبيرة.
رغم أن الطباعة كان لها دور كبير في كسر الإحتكار النخبوي للمعرفة، إلا أن دورها لم يكن حاسماً بسبب طبيعة النظام الإقتصادي والإجتماعي السائد، فالأمية متفشية و ليس بمقدور الكثير من العامة شراء الكتب، علاوةً على رسوخ المفاهيم الإقطاعية والدينية آنذاك ، وعلى عكس الإنتقال السريع للتكنولوجيا الحديثة كالإنترنت، كانت تكنولوجيا الطباعة تعبر الحدود ببطء شديد، فقد دخلت لأول مرة في روسيا مثلاً في عهد ايفان الرهيب ، أي بعد أكثر من مئة عام من اختراعها.
العولمة الإقتصادية و سرعة إنتشار التكنولوجيا الحديثة جعلت معظم أجزاء المعمورة تنعم بالأنترنيت، فأنحسرت المسافات حتى أصبح بالإمكان نقل المعلومة من أقصى المعمورة إلى اقصاها بجزء من الثانية وفي متناول من يسعى إليها، وقد ساهم ذلك في إثراء ديمقراطية الأوساط الثقافية في الدول المتقدمة، إلا أن الوسط الثقافي العربي ظل متشبثاً بهيكليته العمودية ونظامه النخبوي. لطبيعة الأنظمة السياسية والبنية الإجتماعية المثقلة بالإرث الإقطاعي والعشائري انعكاسات جلية على الوسط الثقافي والإعلامي، فقد حظي الكثيرون بمكانةٍ ما في هذا الوسط إما بمحاباة السلطة وإستخدام دعايتها الإعلامية أو بالإعتماد على دعم الماكنة الإعلامية للأحزاب أو بالمحسوبية الشخصية والعائلية، مما أنتج ظاهرة “المثقف السماعي” الذي يكتب أكثر بكثير مما يقرأ، ومصدر حصاده الثقافي أجهزة الإعلام الصوتية وأحاديث المقاهي والمنتديات، ولما فتح الإنترنت أبواباً واسعة للنشر ، شجعت ظاهرة المثقف السماعي إعداداً كبيرة ممن لا يرون في الكتابة أكثر من صياغة انشائية لانفعالات ومواقف شخصية، أو هي تدوين لما تمتلئ به المقاهي والشوارع من جدل ومشاحنات، فبرزت صحافة إلكترونية هي أشبه بمقهى تضج بالهياج الطائفي والعرقي وتتناثر على طاولاتها الشتائم والبذاءات وعدة كتابها لا تتعدى كليشيهات مملة تفتقد إلى أية قيمة معرفية ، إلا أن الإنترنيت قد كشف أيضاً عن مواهب وإمكانات ثقافية -وخاصةً من الشباب- كانت تحجبها بالأمس الرقابة وحواجز النخبة المهيمنة على المشهد الثقافي، ومع ذلك تغافل المثقف النخبوي عما تقدمه صحافة الإنترنت فأصبحت تثير فيه الإستخفاف والتندر، حتى أن مجلةً ثقافية ورقية قد وضعت لنفسها هدفاً صريحاً ” إحياء الثقافة الحقيقية التي تحتضر بفعل الإنترنت” ( الإنترنت هو السحر الشيطاني هذه المرة ). المفارقة أن المثقف النخبوي رغم هجومه وسخريته من صحافة الإنترنت، إلا أنه يبني معبده في صفحته على الفيسبوك ويجمع أطفال الرب فيطرب لتراتيل مديحهم ويستأنس بإطرائهم المبالغ به.