23 ديسمبر، 2024 8:06 م

كي لا تتكرر ماساة صديقي فلحي .. على الدولة ان تكون دولة قانون حقيقية

كي لا تتكرر ماساة صديقي فلحي .. على الدولة ان تكون دولة قانون حقيقية

 بقدر ما أدين الغرب على نفاقه في تناوله القضايا العربية ، الا اني اعترف بمدى شفافية المسؤولين فيه والاسراع بالاعتراف باخطائهم  حتى لو لم يكونوا طرفا فيها الا انهم كمسؤولين يتحملون المسؤولية ، فيعتذرون وحتى يقدمون استقالاتهم السريعة ليفسحوا المجال للعدالة ان تاخذ مجراها .
   وكم يسوءني ان ارى مسؤولينا متمسكين بكراسيهم حتى لو تهدمت الدنيا من حولهم رافضين تحمل اية مسؤولية عند تكشف اية فضيحة أو تقصير في وزاراتهم ، والاسراع بالقاء التهم على الاخرين ..عازين كل شيء الى نظرية المؤامرة … وكأنهم قديسين منزهين عن الاخطاء البشرية.. ويحاولون تصوير سجونهم ومراكز الاعتقالات مثلا وكأنها سجون سويسرا ويديرها الملائكة ويحقق فيها أنبياء عادلون ..أين ألتواضع والشفافية ؟
  ” ياما في الحبس مظاليم ” مثل مصري سمعناه ورأيناه على شاشات السينما .. وهو امر ليس بلا أساس  .. وفي عراقنا أصبح ذلك امرا معتادا استنادا الى الوقائع وتقارير المنظمات الدولية المحايدة . فهل غيرنا نظام يسوق الناس الى المحابس والموت بغطاء كيدي بنظام يفعل الشيء ذاته بغطاء .. ديمقراطي ؟  …. هل نكرر مأساة ماحدث مع مع صدقي المرحوم فلحي حسن مع النظام السابق لغرض المقارنة مع مايجري لغرض الاتعاض فقط  ، فمن عرف الحق ، عز عليه ان يراه مهضوما:
  فلحي حسن ، وهذا هو أسمه ، كان شابا فقيرا مقهورا من مدينة الثورة ( قبل ان تلحقها التسميات اللاحقة ) ، اضطر للعمل كعامل بناء وهو صغير ليعيل عائلته الكبيرة بعد عجز والده ، وفي نفس الوقت اجتهد في الدراسة مساءا الى ان حصل على درجة مناسبة في الفرع العلمي أهلته للقبول في بعثة علمية في احدى الدول الغربية الكبرى ، وهناك التقينا . واصل فلحي الخجول الهادىء والمؤدب الى اقصى حدود الطيبة دراسته ويحول نصف راتب البعثة لاعالة عائلته في العراق .  الا أن تبدل نمط الحياة في الخارج ، والمتع الجديدة التي اتاحتها ، ومنها الشراب والغيد الحسان ، أفقدت فلحي البسيط توازنه ، فأدمن الشرب وكأنه يحاول تعويض كل حرمان الماضي . وما أن يتمكن منه السكر حتى يحصل له انفصام في الشخصية ، فيتحول فلحي الوديع المطواع الى انسان آخر : متمرد وعنيف وغير قابل للسطرة ، ويهدد كل ماحوله بالشرالمستطير ، وعندما يصحو يكون قد نسى كل شيء ويعود الى طبيعته .
   استمرت حالة فلحي بالتفاقم وكأنه يحاول بذلك ينزع نير الزمان الذي حرمه متعة الطفولة والفتوة والتنفيس عن مكنونات النفس الحبيسة . فاستمر باثارة المشاكل والفشل في الدراسة . واذكر في مرة من المرات وكنا في سفرة مع اصدقاء ان سمعت صراخ أمرأة تستنجد .. وعندما هرعت للمكان  وجدت ان فلحي هذا وقد تمكن منه السكر ،عاريا ، وقد طرح صديقته أرضا وهو يقفز عليها ويردد صيحات طرزان .. والمسكينة تتلوى من ألم رفساته ( لعله يعبر عن نصر حرم منه في الحياة ) … ورغم الفرص التي اتيحت له ولم تنفع ، كان لا بد مما كان … ففصل من الكلية وهو في السنة الثالثة ، وأعيد الى العراق ، وتم تغريمه مبلغ الغرامة الضخمة التي كانت تفرض على الموفدين … وعند اندلاع الحرب مع ايران كان عليه أن يخدم جنديا في الجبهات فيما أقرانه في الدراسة وصلوا الى رتب عالية في الوظائف .
   وكأن سوء النكد لم يتخل عن فلحي فتم سوقه في حرب الكويت وكان عليه ان يعاني مأساة مابعدها الى أن تبسم له الحظ بالعمل لدى تاجر كبير رأف بحاله فشغله عنده واعتمد عليه لامانته . ويأتي عام   1992 وقد بدأت اثار الحصار ترخي بذيولها على حياة الناس فازدات الاسعار بشكل جنوني ، واصبحت حياة الناس ، خاصة الطبقة الوسطى ، معاناة يومية حقيقية . وكعادة الحاكم الذي لا يعيش معاناة الناس الحقيقية وينظر لها من أعلى ، فقد توصل الى استنتاج أن زيادة الاسعار وتدهور المستوى المعيشي للشعب ليس بسبب مغامراته الفاشلة وما تفرضه من حقائق في عالم الاقتصاد ( كلما قل العرض ازداد الطلب وازدادت الاسعار ) ، فاعتبر ما يجري عبارة عن مؤامرة من التجار يتم تحريكها من الخارج لتقوض الحكم والدولة.
   تفتق ذهن الحاكم عن حل عبقري ، وفي لحظة تجلي نادرة  ، أمر أجهزته الخاصة ، بالقاء القبض على بضعة عشر تاجرا كبيرا  ( اكباش فداء ) باعتبارهم مسؤولون عن الازمة الاقتصادية وتقديمهم أمام محكمة صورية شكلت في نفس اليوم لتحكمهم بالاعدام الذي قرره الحاكم سلفا ( من قال ان الاجراءات الشكلية غير مهمة ، ويجري الان للاسف تغييبها حتى ) . وهو يتصور ان اعدامهم سيردع الاخرين ليخفضوا الاسعار ( عملا بقول عنترة العبسي اضرب ضعيفهم ضربة هائلة يختل لها قلب الشجاع ) . فانطلق الزبانية يجمعون ضحاياهم بقائمة معدة سلفا وكان التاجر الذي وظف فلحي من ضمنهم . وصل الزبانية الى مكان عمل التاجر الا انه لم يكن هناك ووجدوا فلحي فقط  فاسقط بيدهم ، فسالوه عمن يكون ، فاخبرهم بسذاجة او ببساطة انه مستخدم لكنه يمثل رب العمل … فانفتحت اسارير الزبانية ، اذ كان المطلوب منهم اكمال عدد المدانين والا تعرضوا الى مسائلة والوقت لا يسمح بالبحث عن التاجر ، فاصطحبوا فلحي على أنه التاجر المطلوب وهو المسكين الذي يستلم أجر عمله يوما بيوم ، وسيق امام المحاكمة الصورية ولم تنفع توسلاته وصرخاته امام القاضي والزبانية والجلاد أنه ليس المطلوب وان اسمه فلحي وليس فلان  …. لكن في دولة اللا قانون .. أنت أرنب حتى وأن كنت غزالا .
   وهكذا وفي فجر اليوم التالي اقتيد المسكين فلحي للمشنقة لتكتمل تراجيديا حياته … وهذا لا يحدث الا في بلدان العجب … وكم تألمنا بصمت لنهاية العزيز فلحي .. وتأملنا أن ينتهي حكم دولة قرقوش بحكم دولة قانون … لكننا ما نزال نتساءل .. هل استبدلنا قرقوش بـ…. طرطوش ؟  فان لم يتبدل شيء او تغير القليل ، فهل يساوي ذلك كل التضحيات التي قدمت …دولة القانون تعني دولة العدالة … ومتى تحققت العدالة فان سكينة السماء سترفرف على الانسان المواطن وعلى الانسان الحاكم  ، وكما قال الامام علي ” اجعل من نفســــك ميزانا مابينك وبين غيرك “. المعتقلون كان من كانوا لا بد أن يعاملوا وفقا للقانون وعدالة السماء ، والا  ففصرخات فلحي وأمثاله لا بد أن تصل الى السماء تستصرخ القصاص .