ليس بالضرورة ان تكون غزارة النتاج الابداعي عاملا ً أساسيا وراء شهرة المبدع وانتشاره ، فكم من عمل ابداعي واحد طارت شهرته في الآفاق ، وخلدّ دون سواه من بين كم هائل من الأعمال لنفس المبدع ، ولنا في مسيرة الأدب العربي وفي الشعر تحديدا ً أمثلة كثيرة تؤكد هذا الرأي ، حيث يزخر تاريخنا الأدبي بقصائد خلدّت دون سواها ، في حين لم تتمكن دواوين من الاستحواذ على ذاكرة القاريء حتى تبلورت ظاهرة (شعراء الواحدة) حيث اطلق هذا المصطلح على الشعراء الذين اشتهروا بقصيدة واحدة او الذين اشتهرت لهم قصيدة واحدة جعلتهم في عداد الشعراء المشهورين ، واصبحت هذه القصيدة واحدة من العلامات المضيئة في مسيرة هذا الأدب ، فالطغرائي لم يعرف الاّ بلامية العجم رغم ديوانه الضخم وكذلك الحال عند الشعراء ، ديك الجن ، مالك بن الريب ، الشنفرى ، تأبط شرا ، فكل هؤلاء الشعراء لم يعرفوا الاّ من خلال قصيدة واحدة جعلت من اسمائهم الشعرية شاخصة على لائحة الشعراء المعروفين .
ظاهرة ( الواحدة ) هذه تبلورت ايضاً في القصيدة الشعبية عبر اجيال متعددة ، فالشاعر الملا منفي عبدالعباس الجفلاوي ـ نسبة الى بلدة الكفل ـ بالرغم من ديوانــه ( الفراتيات ) المطبوع عام 1936 فاننا لم نعرف له سوى قصيدته الشهيرة ” طاب الشراب ” :
طاب الشراب الليله صب يانديم اسكيني
كلبي انشرح غنيله طار الوسن من عيني
التي تصل ذروتها في قوله :
هزني الهوه بكل حيله ولن شاعر مسويني
وكذلك الحال عند الشاعر ” عبدالامير الفتلاوي ” صاحب ديوان (سلوة الذاكرين ) الذي لم يعلق منه في الذاكرة غير قصيدته التي كتبها في رثاء زوجته ، التي طغت شهرتها على كل ماسواها من اشعار ذلك الديوان الضخم :
عني تروح وانته الروح من فركـــــــاك
عكلي وياك ، روحي وياك ، اروح وياك
……
اروح وياك اخذني وياك روحي تروح
ركص الطير ركصي لو ركص مذبوح
اٍهن روحين صارن روح روح بروح
ياسلوة سلاتي الموت كون اسلاك
أما من الجيل اللاحق فيمكن ان نعد الشاعر النجفي ” عبدالواحد معله” من شعراء الواحدة ، وذلك عن قصيدته الذائعة الصيت ” من ايدي ” ، وهي قصيدة اجتماعية غزيزة بالحكمة والندم المؤلم كتبها الشاعر عام 1951 رد على رسالة وردته من احد اصدقائه ، ولم يتمكن الشاعر من تجاوز هذه القصيدة ( فقد كتبها وانبهر بها كل حياته ونام تحت خيمتها ) :
من ايدي وياذنب تجنيه الأيام اشيجني السجه العوسج والخرانيب !!
آنه وماسواي بهاي ينــــــلام جي ما أثرت بيّه التجــــــــاريب
ومن القصائد السياسية التي تندرج تحت عنوان ( الواحدة) قصيدة ” بجينة ” لشاعرها ” كامل العامري ” ، فبالرغم من تجربة الشعرية الجميلة التي ضمها ديوانه ( كلمات على وجوه الريح) وكتابته عدد من القصائد الغنائية ( جاوبني ، افيش ، كوم انثر الهيل ) الا ّان القصيدة المذكورة التي كتبها في رثاء الشهيد المناضل اليســاري ” محمد الخضري ” الذي اغتيل في مطلع سبعينيات القرن الماضي ظلت عالقة في ذاكرة الأجيال وترجمت الى لغات اجنبية عدةّ :
بجينه .. وما بجينه اعليك
ياجلمه ابلحك تاريخ
دكت فوك وجنات الزمان ابدور
بجينه ابدم سرج مهره
كبل ماياخذ بثاره ويبشر أور
بجينه اشنعتذر ؟ لوعاتبت بابل
بجينه اشنعتذر؟ لوعاتبت آشور
وظاهرة (الواحدة ) لم تنفرد بها القصيدة فحسب ، بل تعدت الى أجناس شعرية اخرى كالموال ، فـ “قدوري “صعلوك من “الديوانية” يمتهن كتابة العرائض ويكتب الشعر بالعامية والفصحى ولكنه يوم رحل في مطلع السبعينيات ( لم يحرك رحيله اية خاطرة في ضمير الايام ، سوى هذا الموال الذي ظل راسخا ً في ذاكرة محبي الشعر ) :
ياصاح كلبـــــــي تلوّع بالمجالي انشاط
وستر الزمان انهرت ومن الذيال انشاط
ودمع البيابي جره وأصبح عبار انشـاط
من حيث العفون فوك أهل السخه ركوّ
البيهم الزود راحــوا وانكضــوا ركـــوّ
الجــانو انشــاط هسّه بهالزمـن ركـــوّ
والجانو اركاك هسّه بها الزمان انشاط
وموال آخر طغت شهرته على كتابات شاعره ” عزيز الخزرجي ” الذي ودعنا مطلع تسعينيات القرن الماضي اثرمرض خبيث لم يمهل تجربته لكي تتبلور وتأخذ مساحتها الحقيقية ومع ذلك ظل مواله الشهير ( منطلي ) يصور حالة الرعب من جراء مطاردة القتلة للعراقيين وسوقهم الى محرقة حرب الثمانينات :
بدرك عرفته جذب بليل الشته منطلـي
وعالغيـر جذبك عبر وعليه مامنطلـي
اتكلي منطيك .. حاسبني لون منطلــي
تكدر الباب الحجي المابي نفع تجفله
آنه ابتهيمه طحت وانته الذي تجفله
أنه الجنت ذيب لو مر عالغنم تجفلـــه
وبهاذي الايام جم ذيب الشرد منطلي
واتذكر يوم تحادثنا انا وصديقي الشاعر الراحل “علي الشباني” عن ظاهرة( الواحدة ) في القصيدة الشعبيـة قال لي ( ان الكثير من كتبة الشعر يملئون الورق بقصائـد لم يبق منها شيء في ذاكرة الشعر … ويظل الشاعر المبدع خالداً حتى لو كتب للاٍنسان بيتا واحدا جيدا ً ) .