” نعم للإنسان – لا للخرفان ” يافطة رفعتها المعارضة المصرية في تظاهراتها المناوئة لقرارات محمد مرسي ومشروع الدستور الذي كانت قد وضعته هيئة جلّ أعضائها من جماعة الإخوان المسلمين ، ثم طرح للإستفتاء مع ضمان نجاحه بأية أثمان بعد هيمنة” الإخوان ” على مفاصل الهيئات المشرفة بما فيها القضائية ، فكانوا بذلك قد ذهبوا بأبعد مما كان لنظام حسني مبارك أن يقدم عليه ، وهم مطمئنون على قدرتهم في حسم النتائج بعد أن أعلنوا تمثيلهم لله على الأرض وبالتالي قيادة الجموع المؤمنة نحو الجنّة ، وقد سبق ذلك الإستفتاء مجموعة من الفتاوى التي تحرّم الإعتراض على قرارات ( السيد الرئيس ) أو الطعن بها .
ما الجديد فيما ذهبت إليه ( الجماعة )؟ أنها تستنبت من الموروث فعلاً حاضراً ومستقبلاً ينبىء بعودة ( الخلافة ) فما المانع أن يُطلق على مرسي لقب (أمير المؤمنين) ؟ ألم يسبقه إسماعيل هنية إلى ذلك من بعض أنصاره ؟
في العراق يكتسب بعض الزعماء الدينيين هالة قدسية يصبح معها مجرد إشارة لمواقفه السياسية (وليست الدينية ) جريمة كبرى يتظاهر من أجلها عشرات الآلاف ، إستنكاراً لما ذكره صاحبها إن كان مسؤولاً ،وربما إهدار دمه إن كان مجرد كاتب أو فرد من عامة الناس ،وذلك في استعادة مثيرة لمقولة” الظل الإلهي على المصير الإنساني ” وبالتالي ينبغي أن يدوم ذلك الظلّ كي يطمئن الإنسان في العراق مادام موجوداً، ولاداعي للسؤال : يطمئن عمّن ؟ وممن على وجه التحديد؟ .
يأمر أحد خلفاء بني العباس حاجبه : لاتُدخل عليّ من الشعراء من يصفني بالأسد ، فما الأسد إلى قطّ كبير ، ولا بالذئب فما هو إلا صائد أغنام ولا بالنسر فهو آكل فطائس ، ولا بالصقر فإنه زاعق بائس “.
أصاب الخليفة فيما ذكر إلا في وصف الذئب ذلك السارح المكنى ” أبي سرحان ” فهو مرعب القطيع لاصائده لأنه يكتفي بمن تقع تحت رحمته من الفرائس ، لكنه مع ذلك لايعرف للعبودية طريقاً ولاتستسيغها نفسه ، وإن صادق بعض البشر لايخضع لسلطانهم ولايأكل إلا (من عرق جبينه ) فيشنّ هجومه مختطفاً زاده من بين الرعاة ،كما إنه يحنّ لبني جنسه ويأنس لمعشرهم فيطلق ذلك العواء الممتلىء بالحزن والشكاية حين يفقدهم ومن ثم تحيط به الوحشة والوحدة ، لكن الذئب البشري لايرعب القطيع وحسب بل يستعبده ، ولايفترس الأجساد بل العقول ، ولاتكفيه فريسة واحدة ،بل يريد شعباً بأكمله ليمارس عليه سطوته ومن ثم يهتف عالياً لتمجيد أسمه .
العصفور طائر والأفعى زاحفة ، فكيف يتمكن الزاحف من القبض على الطائر وافتراسه ؟ هل تكون للأفعى قدرة المفاجأة ؟ أم يتجمد الطائر رعباً بمجرد شعوره باقترابها ؟.
ذلك في الحيوان ، أما في الإنسان ،فالجموع مجرد زواحف بلا أنياب ، أو هي نزعتها طائعة مختارة ،كرمى لنسر يزعق عليها من علّ فتطيعه راضية .
ليس هذا درساً في طبائع الحيوان ، بل هو حديث في السياسة ، عن شعوب تمجّد الذئب رغم مايلحقه من ضرر وصعوبة امتلاكه وتطويعه، فيما تقلل من شأن الغنم رغم مافيها من فوائد وماتشكله من ثروة ورغم طاعتها وحسن سلوكها وسهولة انقيادها . ينعت السيئ من الإنسان بالكلب مقروناً بالتحقير ، فيما وصف رجل بالذئب يكون باعثاً على الهيبة والإعجاب الممزوج بالرهبة ( كعضّة الذئب ليس لها شفاء ) وفوق كل ذلك فهو دليل البراءة بعد إتهامه بأكل يوسف النبي (كبراءة الذئب من دم يوسف ) ولمَ لانستطرد في القول لنكمل : كبراءة الطاغية من دم شعبه .
لماذا نستنكر ظهور الطغاة ، وهناك شعوب تستمرئ العبودية ولا تستطيع العيش إلا تحت نيرها ؟ ألم يكن ذلك مصداقاً لقول أرسطو عن الشعوب القائدة والشعوب العبدة ؟
يستطيع القاصر أن يعيش دون أب ، لكن الشعوب القاصرة لاتستطيع العيش دون طاغية إن لم ينوجد تخلقه بنفسها ، فستة آلاف عام من عمر الدولة بحكامها أنصاف الآلهة ومعتقداتها ودياناتها ورسلها وكهنتها و(علمائها )بمقولاتهم وفتاواهم، كلها عوامل محكّمة حاصرت الإنسان ودجنته بعد أن ضخّت بدواخله مفاهيم العبودية الكاملة والإنسانية الناقصة ، فتوارثتها الأجيال لتعمل بموجبها من دون الإلتفات إلى مايمكن أن تفعله العبودية من تدمير للحياة وإعاقة للإنسان .
في الشمال العراقي ، يكزّ ذئب على أسنانه فيرسلها دوياً هائلاً يطيح بأرواح العشرات من سكان ( المناطق المختلطة ) أو المتنازع عليها ) كي لاتبقى تحمل هذه الصفة ، فالتفجيرات أستهدفت مكوناً بعينه ( التركمان ) الذين يشكلون حجر عثرة أمام كردستانية تلك المناطق لأن وجودهم بالأخص هو من يمنحها صفة ( المختلطة ) وبغيابهم لايبقى للوصف من مبرر ، فتصحّ عليها التسمية التي أطلقتها قيادات الإقليم (كردستانية خارج الإقليم) وليس الخلاف على كردستانيتها بل على شكل إدارتها – هكذا .
طبيعة الإنفجارات في تلك المناطق واستهدافاتها والنتائج المتوخاة من ورائها، أمر بات واضحاً للجميع بصرف النظر عمن قام بالتنفيذ ، لكن (ذئب) السلطة المركزية ، مكبّل بالرجال المقدسين والمواقف الملتبسة والفساد الصارخ والجهل الفاضح والمحسوبيات المتقيئة والتبعية غير الراشدة وسوء الإدارة وماتلاها من ( الواوات ) فكيف يستطيع التحرّك لمواجهة الذئب الآخر الذي يعمل وفق إستراتيجية وضعت منذ السابع من نيسان 2003 ( التحرّك بقوّة ) ؟ ومن ثم ظهور الكثير من المؤشرات بما فيها تقارير أمريكية عن أن (قبائل الشمال ) قد بدأت بالتحرك منذ ذلك الحين ضد (سرجون ) لكنه هذه المرّة ليس سرجون الأكدي ذئب التاريخ النبيل باني الدولة والفاتح الأول ،بل شبح يتقوقع داخل ثيابه خشية من أن تفلت السلطة من بين يديه.
المقارنة بين وضعين لايحتاج إلى الكثير ، فذاك (صاحب الكردستان) قرأ طبيعة المعركة ووضع الخطط اللازمة لخوضها بعدة وسائل وطرق تؤدي كلها إلى الهدف المنشود ، جعل من إقليمه ضرورة إستراتيجية للقوى الكبرى بنسبة ما ، أما تدخلات القوى الإقليمية (إيران – تركيا ) فيمكن تحييدها بعد تقديم مجموعة من ضمانات غير معلنة بأن تثبيت وضعه في العراق لن يؤثر عليها بل سيمنحها الكثير من الامتيازات المجزية وبأسعار تفضيلية بما فيها النفطية منها،فيما خرجت سوريا من موقع التأثير .
وعن الدول الإقليمية الأخرى – كإمارات الخليج والسعودية – فالاحتمال الأكبر في حسابات الكرد أنها ستقف إلى جانبهم نكاية بالشيعة – خاصة بعد موقفهم من نظام الأسد وانضمامهم إلى المعسكر الإيراني / الروسي – وفي كلّ حال لن تكون تلك الدول إلى جانب المالكي الإ في حال دخول السنّة طرفاً في الصراع أي أن يتحول الصراع قومياً بين العرب والكرد.
ذلك هو الخطر الأكبر الذي مازال يؤرق القيادات الكردية وتتجنبه بقوّة، لأنه قد يقلب الطاولة ويجعل الأمور تسير لغير صالحها،إذ من شان ذلك أن يحرّك تركيا في الإتجاه المضاد بتفضيلها الوقوف إلى جانب العرب وحلفائهم التركمان ، مما يهدد بنسف المشروع الكردي برمته، وربما كان ذلك سبباً في إعاقة بعض مما يمكن أن يقدم عليه الكرد من تحرّك ميداني ، وإذا تطورت الأوضاع على تلك الصورة ،فقد تخلق تقارباً في الموقف بين إيران وتركيا المختلفتين على سوريا والعراق وملفات أخرى ، كما ستجد أمريكا صعوبة في التدخل لحماية الكرد مجدداً بعد تعقيد الوضع سياسياً وميدانياً وهي المنهمكة في العديد من المواضيع الشائكة .
ذلك إعتبار ينبغي أن يأخذه المالكي بجدّية تجعله يعيد رسم خارطة تحالفاته الإقليمية والدولية ليسارع من ثم إلى ترميم علاقاته مع أكثر من طرف ، والخطوة الأهمّ على الصعيد الداخلي هي ترشيح شخصية سنيّة لها ثقلها في الساحتين السنيّة – والعربية استطراداً – لشغل منصب رئيس الجمهورية كصالح المطلك مثلاً أو سلمان الجميلي أو أياد السامرائي أو أية شخصية أخرى مناسبة ، ذلك مابات بحكم الضرورة بعد أن تبينت صحة القول بإن العراق بإمكانه أن يُبنى ويتطور دون الكرد حتى في حال إنفصالهم كما حدث للهند بعد انفصال باكستان ، لكنه لن يكتمل ناهيك بان يتطور دون العرب السنّة الذين يحملون الخاصيّة الأكثر أهمية
( الحفاظ على وحدة العراق ) .
مايظهره المشهد إن لعبة الذئاب لن تقف عند حدود معينة أومحسوبة سلفاً ، ففي الإقليم الكردي حسم أمر الديموكتاتورية منذ زمن ، وفصّلت قماشة الحُكم على مقاس زعيم خالد وعائلة واحدة ، وفي بقية العراق يجري الإستعداد لتفصيل مماثل يناسب (زعيم ) سيكون خالداً بدوره وإن ببعض تفاصيل مختلفة نسبياً ، لكن في كلتا الحالتين سيكون على ( القطيع ) العراقي في الجانبين أن يدفع الثمن من دماء أبنائه لتكون قرباناً لصراع ( الذئاب ) ذاك .
في مصر ، يرفع الذئب الفرعوني يديه منتشياً لفوزه في تطويب ( القطيع ) له زعيماً ربما سيكون مدى الحياة مادام هو ( الخليفة المؤمن والمؤتمن ) يحكم بدستور من صنع يديه وبناء على طلب “الجماعة “.
والى الشرق حيث ( الجمهورية المقدسة) مازال وليّ الأمر يثبت بأن رؤيته هي الوحيدة التي تقود إلى الطهر والتطهر وما على ( القطيع ) سوى الطاعة .
” : إفسحوا لي – تقدم الكبش من بين خراف مرتعبة تلوذ ببعضها ، ليقف أمام الراعي عارضاً أن يقود القطيع حيث يشاء صاحب الأمر ، فهزّ الراعي رأساً قائلاً : شكراً لك ، فلا احتاج اليوم سوى خروف واحد – لذبحه ” جيمس جويس .
ترى كم كبش سيتطوّع لدفع القطيع نحو مذبحة القائد؟
انه الربيع – يا للقسوة
عقل يفكر أم فم يثرثر ؟ لامجال للإختيار بين الإثنين على مايفترض، فالعقل هو الزينة والخزينة التي تحوي كلّ مايجعل الإنسان يقترب من كينونته والحضارة تزدهر بإنجازاتها،أليس كذلك ؟
لكننا ننظر إلى تلك البداهة بشكل مقلوب فنفضّل من يثرثر على من يفكّر ،ومن يداهن على من يراهن ، لماذا ؟
المسألة غاية في الوضوح ، بإمكان الثرثار أن يشبع أولياء الأمر مدحاً وتعظيماً فيجنّد مواهبه الكلامية ليجعل من الآخر (نصف إله) وإن لم يكف النصف فيمكن رفعه إلى مرتبة إله كامل مادام ذلك لايكلف سوى ثرثرة فضائية أو كلام على صحيفة ،هل من دليل على مانقول ؟
: راقبوا الفضائيات وإقرأوا الصحف ، تجدون مصداقاً فاقعاً ، فحسب أصحاب الأفواه المتحركة والأقلام الراعفة، المالكي نصف إله أما البارزاني فمكتمل الإلوهية،هل سمعتم مرّة عن أحد من المتحمسين لكلّ منهما ، أن كشف عن خطأ واحد ارتكبه زعيمه ؟ الأخطاء من نصيب الآخر حصراً .
وماداما بتلك الصفة ” القدسية” ، فكلّ مايفعلانه هو الخير كله ، ذاك للكرد وهذا للعرب – أو لبعضهم على الأقل- وهكذا فما على العراقيين سوى إنتظار ربيع سيكون مزدهراً حينما (يتكامش ) الطرفان بدماء (أبناء الخايبة ) عرباً وكرداً لتتوسع دوقية ذاك ويثبت الهلال في زعامة هذا ، عندها يكثر الصراخ المفوّه حول الحقّ والأحقيّة في ربيع نتمنى الإ يجعلنا نصرخ بدورنا : أنه الربيع – يا للقسوة ,خاصة بعد أن تستمر الأفواه التي تثرثر ، بقهر العقول التي تفكّر.
إمتلاك المعرفة- نبذ الآيديلوجيا
المهتم بشؤون الفكرّ ومايصدر في هذا الشأن ،يلاحظ إن هناك صنفين من المفكرين يشغلان واجهة الحضور: صنف إستفاد من منهجية الفكر الماركسي بعد نزعه من همينة آيديلوجيته ، فكان الأقرب إلى إنتاج معرفي يحمل من المرونة ماأهّله الدخول إلى الحداثة ، كمحمد أركون وعلي حرب ومحمد شحرور ورشيد الخيون وسواهم,أما الصنف الآخر فقد إتبّع منهجية الفكر الإسلامي بثوابته وروابطه ،فاكتسب المعلومة وحاول توظيفها في إنتاج المعرفة ، لكنه لم يتمكن الإفلات من طوق الآيديلوجيا ،فتشابهت أعمالهم وتكررت مواضيعهم وافتضحت مواقفهم المتناقضة من هذه القضية أو تلك فكانوا مروجين سياسين أو طائفيين ،أكثر من كونهم مفكرين موضوعيين ، ومن أمثالهم محمد عمارة وفهمي هويدي ويوسف القرضاوي وغيرهم .
في العراق ، تكاثر الصنف الثاني بشكل لافت باتت معه سلاسل طويلة من صنع الإعلام المتكاثر بدوره ،تظهر أو تتكرر كل يوم حاملة البضاعة ذاتها مجردة من المعلومة ناهيك بالمعرفة أو الفكرة ، أما الصنف الأول ، فلا يكاد يظهر حتى يختفي ، ربما لأن الفكر يحتاج إلى تأمّل وتركيز ، وهو ثمن لايريد الإعلام دفعه لاعتقاده بأن جمهور المشاهدين لايميل إلى المواضيع الدسمة بمقدار ميله إلى المآكل الدسمة ، والتخمة تحدث كسلاً وتتطلب هضماً وذلك ماتضمنه البرامج الخفيفة والحديث السطحي والسجالات المسلية لسخافة ماتطرحه وإثارته للسخرية، ما يسهم بدوره في المزيد من الضحالة لشعوب يسهل خداعها فتصبح السياسة ” عمل عاطفي أولا ًوأخيراً ، ومن يخاطب العواطف يتغلب على من يخاطب العقول ” كما يقول تعميم داخلي لحزب قائد ، أليس في ذلك حلقات يكمل بعضها بعضاً ؟فلماذا نشكو من فساد الساسة وبؤس السياسة في بلاد تزداد خراباً ؟