الصوم الكبير في شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن … لعلكم تتقون. والتقوى، وهي محاربة شهوات النفس وملذات الدنيا والتذكير بالله وحسابه بأنه يراك وإن كنت لا تراه. فهو عملية إعداد روحي للمؤمنين وزيادة التواصل الرحيم فيما بينهم ومع الآخرين.
لم يكن الصوم في هذا العام عندنا عما كان في الأعوام السابقة، فقد انعدمت المظاهر التعبدية التقليدية من مدننا واختفت فيها السمات الروحانية الاجتماعية بل وكل ما يتعلق بشهر الصيام المبارك. فانتشرت عندنا حالات الإفطار العلني (وخاصة عند الشباب) والعزوف عن الصيام بشكل ملحوظ أصبح يشكل ظاهرة يرثى لها. رمضان هذا العام كذلك سبقه ببضعة أيام الانتخابات النيابية الذي كثر فيه اللغظ والعويل حول ما تخللها من شبهات تزوير وفساد حول آليات إحصائها وإجراءات عَدّها، فأصبح الجو الاجتماعي العام مشحوناً بالجدال السياسي الغاضب والصراع الحزبي الجارح، فلا يكاد أن تحضر أي تجمع لثلة من المؤمنين وقليل من الصائمين على موائد الإفطار حتى تواجهك تلك النقاشات المتوترة والتحليلات المتشنجة بين مؤيد ومعارض. مع أن أيام رمضان وليالي الصيام فيه هي أصلاً جعلت للتقرب من الله وانشغال الإنسان في عبادته وذكره ودعائه والتهجد اليه والتدبر بقراءة آيات كتابه المجيد.
وتوالت الأحداث تباعاً في هذا الشهر الكريم. ففاتحته كانت الانتخابات بكل مساوئها وتشكيل التحالفات من خلالها وأشدت حدتها بكل تعقيداتها، فكثر الاحتجاجات والعويل حول التجاوزات التي حلت بها، فأخذت حيزها الكبير في الاسبوع الأول من رمضان؛ أعقب ذلك حالة الانقطاع الحاد في الطاقة الكهربائية في عموم العراق، فخرجت التظاهرات وانتشرت الاعتصامات في المحافظات فترابطت مشكلة الكهرباء بمشكلة الانتخابات في الاسبوع الثاني من رمضان، بين وزير يدافع عن جهوده المضنية في استمرارية الكهرباء (المنقطعة) وبين سياسيين يشيدون بإنجازاتهم في تحقيق ما لم تستطع جميع الحكومات السابقة من القيام به بتوفير خدماتها؛ وأطلت علينا في الأسبوع الثالث مشكلة جفاف الرافدين، حتى أصبح الشغل الشاغل فيعلوا على كل تلاوة ودعاء في رمضان، بين من يلقي اللوم حول الجفاف على دول الجوار وانقطاع تلك المياه الحيوية عن دجلة والفرات، حتى أصبح ذلك الصراخ والبكاء ليس من أجل تكفير الذنوب والدعاء لله والتقرب اليه بالتهجد والسؤال، وإنما من أجل التملص من المسؤولية والحساب، بين من يوجه أصابع الاتهام على دول الجوار لكلٌ من تركيا وإيران، وبين وزير يحذر وسياسي يتوعد وآخر يهدد دول الجوار؛ ليطل علينا الاسبوع الأخير من رمضان، الذي من المفروض أن نشهد فيه ليالي القدر والتي هي خير من ألف شهر، وإذا بنا نستفتح على خبر تفجير في مدينة الصدر ببغداد، فألقى بنفوس الكثيرين نحو الموت، ليهدم بيوتهم ويحرق أجسادهم وينهي آمال حياتهم ويحطم مستقبل أولادهم، بين قتيل وجريح ومشوه وفقيد ومشرد وصريع.
وفي النهاية، ولا نهاية تبدوا لمآسي العراقيين، فستنقل الجنائز وتحفر المقابر وتلقى الأجساد في التراب لتستريح وتشكو ربها بما حل بها في شهره الكريم، وستقام الفواتح وتبلى السرائر فما لهم من قوة ولا ناصر. إن ما يؤلم ويشق الأنفس هو استمرار السياسيين على حالهم وكأن كل شيء هادئ، فترى رؤساء يقيمون الولائم للجياع من المسؤولين، وزعامات تفرش الموائد للمساكين من أعوانهم ورفاقهم، ولا كأن أحد فيهم يشعر بما يجري خارج أسوارهم، وإن تلطفوا حول المعاناة التي تجري خلف حصونهم، فيعطي أحدهم إشارة هنا وأخر يذكر خبر هناك وغيره يعزي من بعيد حول جراحات الناس التي تتلوى من انقطاع الكهرباء ونشف المياه، فتُشكل اللجان ويجرى التحقيق لمعرفة ماذا جرى! وبأي ذنب قتلت تلك الأنفس البريئة؟ ولو أن أمير المؤمنين علي عليه السلام (والذي مرت ذكر استشهاده يوم أمس) كان حاضراً بينا اليوم لقال ما ردده خلال حياته: فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هـذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً; فَيَا عَجَباً ! وَاللهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَجْلِبُ الْهَمَّ مِن اجْتِمَاعِ هؤُلاَءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَن حَقِّكُمْ!. فلم ينكس أصحاب (العزايم) الأعلام ولم يقم أصحاب الموائد الفواتح ولم يؤبن البرلمان القتلى ولم يزر المسؤولون الجرحى ولم تعوض الزعامات المترفة المشردين الذين فقدوا كل ما عندهم، فَقُبْحاً لَكُمْ وَتَرَحاً، يرددها عليٌ في آخر كلامه هادرة مدوية.
هذا حال شهر رمضان عندنا ،،، فماذا عندكم يا أهل جهنم والنار؟