كان للتحذير الذي وجهه الرئيس الراحل صدام حسين في 2 نيسان 1990 للكيان الصهيوني بضربه في حالة اقدامه على تنفيذ تهديداته بشن أي هجوم سواء على العراق او أي قطر عربي آخر، بمثابة تلميح من جانب العراق، على انه يعلم بكل سيناريوهات المؤامرات والتهديدات المعدة سلفاً. وان لديه الامكانية الاكيدة للرد عليها بقوة. وهو امر مشروع يندرج تحت بديهيات الامن القومي والحفاظ على السيادة لأية دولة لا سيما وان الدلائل كانت تشير الى ان الكيان الصهيوني يحضر لعدوان على العراق يضاف الى ذلك- وهذا ما كان احد اسباب الحملة الامريكية والغربية الشعواء ضد العراق- تحذير صدام حسين في قمة عمان في شباط 1990، من خطورة بقاء القطع البحرية العسكرية الامريكية في الخليج العربي، بعد انتهاء الحرب العراقية- الايرانية، على مصالح دول المنطقة بقوله: (ستصبح منطقة الخليج محكومة بالارادة الامريكية وربما يتطور الامر اذا ما حصلت الغفلة واستمر الضعف في موقعه، الى الحد الذي تسعى فيه امريكا الى تحديد كمية ما ينتج من نفط وغاز في كل دولة، والكمية التي تباع الى هذه او تلك من دول العالم، وتحديد اسعاره طبقا لنظرة خاصة تتصل بالمصالح الامريكية وتغفل فيه مصالح الاخرين). لهذا راحت الولايات المتحدة تخطط للعدوان على العراق الذي اخلت قوته العسكرية بالتوازن الاستراتيجي في المنطقة والذي كانت كفته قبل ذلك تميل لصالح الكيان الصهيوني.
وعند دراسة البيئة السياسية الدولية التي سبقت 2/ اب/ 1990، ندرك ان لقاء القمة/ الوفاق الذي تم في نيويورك بين الزعيم السوفياتي غورباتشوف ونظيره الامريكي ريغان انذاك في مطلع كانون اول/ 1987، كان بمثابة القدحة المباشرة التي فجرت الانتفاضة الفلسطينية، لان لقاء القمة هذا تعمد عدم التطرق للصراع العربي- الصهيوني، ومن خلال ذلك اللقاء بدأت الادارة الامريكية تعمل على جعل منطقة المشرق العربي ميدان اختبار لمصداقية القيادة السوفيتية في الاستراتيجية المعلنة للتخلي عن الحرب الباردة والانتقال من سياسة المواجهة الى سياسة الوفاق الدولي من جانب الاتحاد السوفياتي السابق.
يضاف الى هذا المتغير، انتهاء الحرب العراقية- الايرانية في اب/ 1988، التي كانت مفاجئة بالنسبة (لبعض) الاوساط العربية التي لم يرق لها ان تنتهي دون قرار منها، وهي التي كانت تغذيها بشتى الوسائل في السر والعلانية لضمان استمرارها الى ما تشاء، بهدف تدمير امكانيات العراق المادية والبشرية، رغبة منها في ابقاء المنطقة بكاملها تحت هيمنتها المادية على الاقل لتكييف اتجاهاتها وفق توجهاتها السياسية والاقتصادية.
واكثر ما اخذ يقلق الاوساط العربية والصهيونية، هو خروج العراق من هذه الحرب باحترام اكثر الاوساط العربية والدولية، وبارادة صلبة لاعادة البناء، وبقوة عسكرية ذات خبرة قتالية فريدة قادرة على دعم البنية السياسية العربية في مواجهة كافة التحديات التي تواجهها.
وبجانب هذا الامر اخذت اوساط خبراء النفط الغربية تتحدث عن حقيقة اخرى مفادها: ان قرب انحسار ونضوب النفط في العديد من دول العلم بات وشيكاً، ولا سيما في منطقة بحر الشمال وكندا واميركا، وان منطقة الخليج العربي والعراق وايران ستعود للهيمنة على اسواق النفط العالمية في العقود القادمة.
يضاف الى ذلك، تراجع اميركا عن مركز الصدارة في ركب الاقتصاد العالمي وتحولها الى اكبر دولة مدينة في العالم، الامر الذي وضع الادارات الاميركية المتعاقبة على مفترق الطرق، فاما ان تستعيد مركزها من خلال مغامرة ما واسعة النطاق، او ان تصبح مجرد دولة هامشية على مسرح الاحداث الدولية.
وتأسيساً على هذه المعطيات وغيرها…. اخذت الادارة الاميركية تخطط منطلقة من حقيقة ان منطقة المشرق العربي ستكون عصب السبق في المرحلة القادمة، ومن هنا جاء التنبؤ الصادر في بحث اميركي نشر في ايلول عام 1988، عن معهد دراسات الشرق الادنى المؤيد للكيان الصهيوني ليقول بامكانية نشوب حرب جديدة في المنطقة العربية.
ويعتقد القائمون على هذا البحث، بان الحرب ستنشب بين العرب والكيان الصهيوني، لان الوضع اخذ يتدهور بشكل تدريجي في المنطقة، ووصل الى نقطة خطيرة بحيث توسعت اقطار المنطقة التي قد تشارك في هذه الحرب الجديدة، وان وقف الحرب العراقية- الايرانية سيدفع هذه الاقطار الى تنشيط الاهتمام مرة اخرى ضد الكيان الصهيوني.
وفي هذه الفترة باشرت واشنطن ولندن وتل ابيب بحملة شعواء ضد العراق متهمة اياه باستخدام الاسلحة الكيماوية ضد الاكراد اثناء حربه مع ايران وبعد انتهاءها، الامر الذي دفع بمجلس السفراء العرب في العاصمة البريطانية لندن للتنديد بالمواقف العدائية والافتراءات الاعلامية التي تروج لها وسائل الاعلام البريطانية ضد العراق.
وبعد هذا التنديد الديبلوماسي العربي بخمسة ايام تم الاعلان عن جولة خاصة لوزير الدفاع الاميركي فرانك كارلوتشي انذاك في السعودية وسلطنة عمان والبحرين والكويت، ومحادثاته مع مسؤولي هذه الدول تناولت في مجال التسلح والشؤون العسكرية والامنية، والزيارات تمت في 26/ك1/ 1988.
بعد ذلك باربعة اشهر ترأس قائد القوات الاميريكية في منطقة الشرق الاوسط وليام فوغوتي وفداً عسكرياً اميركياً رفيع المستوى في زيارة للبحرين، التقى خلالها مع رئيس حكومتها الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، ولم يكشف النقاب عن المواضيع التي تم بحثها في تلك الزيارة.
في هذه الاثناء، ورغم انتهاء الحرب العراقية- الايرانية والتزام الطرفين بوقف اطلاق النار. الا ان واشنطن لم توافق على سحب قطاعاتها الحربية من مياه الخليج، كما انها اقنعت الكويت بالكف عن المطالبة باعادة رفع العلم الكويتي بدل العلم الاميركي على ناقلاتها النفطية او الاستغناء عن مرافقة القطع الحربية الاميركية لهذه الناقلات اثناء ابحارها في مياه الخليج العربي.
وعلى الصعيد ذاته، مارست واشنطن ضغوطاً على دولة قطر لاعادة صواريخ ستينغر المضادة للطائرات، وهي من صنع اميركي، كانت قطر قد اشترتها من المجاهدين الافغان بدفع من الامريكان، والحجة التي قدمتها واشنطن بهذا الشأن، ان هذه الاسلحة تخل بالتوازن القائم في المنطقة، وتهدد عملية الوصول الى تسوية سياسية لنزاع الشرق الاوسط في اطار الوفاق الدولي القائم.
وفي 11/ ت1/ 1989، صرح قائد القوات الامريكية في الخليج العربي الجنرال نورمان شوارتسكوف: ان الولايات المتحدة ستهب لانقاذ الكويت اذا ما تعرضت لهجوم، وان رد فعلنا سيكون مماثلا لما حدث حين جاءت الكويت وطلبت معونتنا بشأن ناقلات النفط.
السؤال الذي يطرح نفسه عند قراءة هذا التصريح الخطير للجنرال شوارتسكوف الذي قاد فيما بعد قوات العدوان الشامل ضد العراق. هذا السؤال هو: من أي طرف يمكن ان يأتي العدوان ضد الكويت؟
لكن التحركات الاميركية والتصريحات التي رافقتها، توخت تفتيت جبهة دول الخليج العربي التي كانت مؤيدة للعراق بصورة او باخرى ابان الحرب العراقية-الايرانية، وربط هذه الدول بقيود امنية وعسكرية مع اميركا تمهيدا لمنحها دورا كبيرا في المراحل اللاحقة من المؤامرة. والتطورات اللاحقة اثبتت بشكل لا يقبل التأويل، ان الكويت تحولت من حصان طروادة اميركية في المنطقة الى راس حربة للمؤامرات ضد العراق بصورة خاصة.
لقد كشفت الفترة الزمنية الممتدة بين 8/8/ 1988 و 2/8/ 1990، بان ال صباح اقدموا على عدة خطوات خطيرة استهدفت مكانة العراق السياسية والاقتصادية منها: التلاعب باسواق صرف الدينار العراقي، واغراق اسواق النفط بكميات كبيرة من النفط الخام بغية تخفيض اسعاره، وقد مارست دولة الامارات هي الاخرى نفس الاسلوب، الامر الذي زعزع مكانة منظمة الاوبك امام الدول الصناعية المستهلكة للنفط واحداث خللاً في برامج ميزان المدفوعات الخارجية للعراق، وفي خطة تسديد الديون المستحقة عليه.
وقد نبه العراق الى هذه السياسة الخطرة والى تجاوز الكويت على اراضيه وسرقة نفط حقول الرميلة الحدودية، وذلك بارسال مبعوثين، ولكن دون جدوى. وفي قمة بغداد العربية في ايار/ 1990 وبحضور كل القادة العرب، وصف صدام حسين هذا العمل بالحرب ضد العراق قائلاً: (.. ان الحرب تحصل احيانا بالجنود.. واحيانا اخرى بالاقتصاد، وللذين لا يقصدون شن الحرب على العراق… اقول ان هذا نوع من الحرب على العراق).
وخلال استقباله لوزير النفط السعودي هشام الناظر في 9/ تموز/ 1990 حذر صدام حسين ثانية من خطورة التمادي في مؤامرة تدمير الاقتصاد العراقي بقوله: (لن اقبل لنفسي ان يجوع العراقيون وان تتعرى نساء العراق بسبب العوز).
واعاد صدام حسين التحذير في خطابه في 16/تموز/ 1990 مذكراً بخسارة العراق التي بلغت انذاك اكثر من 14 مليار دولار مطلقاً القول المأثور (قطع الاعناق ولا قطع الارزاق).
وثبت العراق بالارقام والوقائع ضلوع الكويت في التآمر عليه في رسالة وزير الخارجية في 15/7/1990 الى جامعة الدول العربية، ومما جاء فيها: (ان اعتداء حكومة الكويت على العراق اعتداء مزدوج بتجاوزها على اراضينا وحقولنا النفطية، وسرقة ثرواتنا النفطية، وان مثل هذا التصريف بمثابة العدوان العسكري). ولم يتراجع الكويتيون عن دورهم في ايذاء العراق وانكار حقوقه العادلة حتى عندما تدخل عدد من الزعماء العرب لتسوية هذا الموضوع، وعقد اجتماع في جدة في 30/ تموز 1990 بين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة عزت الدوري وولي عهد الكويت، مما اثبت انهم مصممون، وبدفع اميركي، على المضي في مؤامرتهم ضد العراق، ولهذا، وجد العراق نفسه مرغما للتصرف بالطريقة التي حدثت في 2/اب/1990 لاسترجاع حقوقه.
من جهة اخرى، فقد تم كشف النقاب عن ان الكويت كانت طيلة فترة الحرب العراقية- الايرانية تستغل سكوت العراق وتنهب حقل الرميلة لحسابها الخاص وكأنها تنفرد في ملكيته، بحيث استفادت من هذه العملية اكثر من (12) مليار دولار من حصة العراق، وعندما طالبها العراق بحصته رفضت حتى النظر بهذا الطلب، ورفضت حتى في اخر المطاف وساطة السعودية التي ابدت استعدادها بدفع عشرة مليارات دولار من خزينتها لانهاء الخلاف القائم بين العراق والكويت.
ولم يقتصر الامر على ذلك بل اخذت الكويت تحتل المركز الريادي في جر دول مجلس التعاون الخليجي لتكثيف التعاون مع العائلة الحاكمة اولا ومن بعدها مع المجموعة الاقتصادية الاوربية والولايات المتحدة، ناهيك عن ان آل سعود في الرياض هم السباقون في هذا الميدان.
والكويت من حيث موقعها الجغرافي المحاذي للحدود الجنوبية للعراق، تتحكم بمنفذ العراق الوحيد على البحر مع ايران، ومن حيث قوتها المالية والنفطية واستثماراتها الخارجية الضخمة تتمتع بثقل وتأثير تظن انها من خلاله تستطيع ان تلعب مثل الدور آنف الذكر، سيما وانها ذات علاقات متقدمة مع الاتحاد السوفياتي السابق مقارنة ببقية الدول الخليجية.
وفي الوقت الذي زادت الكويت من حدة لهجتها تجاه العراق، تضاعفت اساليب الاستفزازات البريطانية والاميركية ضد بغداد، واخذت تطفو على السطح اشاعات مفادها ان العراق يسعى للحصول على اجهزة تفجير الكترونية لاستخدامها لاسلحته النووية. فقد اعلنت وزارة الخارجية البريطانية ان بريطانيا قررت طرد مواطنين عراقيين اثنين متهمين بمخالفة القوانين بتصدير الاسلحة، حيث زعمت عن ضبط اجهزة تفجير بحوزتهما يمكن استخدامها لتفجير شحنات نووية. وفي وقت لاحق اعلنت واشنطن عن ضبط مثل هذه الاجهزة لديها هي الاخرى.
وفي اواسط شهر اذار من عام 1990، نفذ العراق حكم الاعدام بالجاسوس البريطاني -الايراني الاصل- فرزاد بازوفت الذي اعترف بانه كان يعمل لحساب بريطانيا والكيان الصهيوني، وان مهمته تمثلت في التحري عن قدرات العراق النووية. وقد واكبت اعدام هذا الجاسوس حملة واسعة جديدة ضد العراق كان مصدرها واشنطن ولندن وتل ابيب.
وفي اواخر نفس الشهر قامت السلطات البريطانية باجراء استجواب دقيق لرجال اعمال بريطانيين، بحجة تورطهم بمؤامرة مزعومة لنقل التكنولوجيا المتطورة للعراق، ومن بينها اجهزة تفجير نووي، وكذلك معدات بحرية واجهزة تفجير صوتية للالغام.
وقد واكب هذه الحملة المزعومة تهديدات متواصلة من الكيان الصهيوني بانه سيعمل على شن حملة وقائية ضد العراق بهدف حرمانه من استكمال قدراته العسكرية النووية بشكل خاص وسلاح الدمار الشامل بشكل عام، الامر الذي دفع بصدام حسين للرد على هذا التهديد، حيث اطلق تحذيره المعروف بان العراق سيحرق نصف اسرائيل ان هي اقدمت على مثل هذا العدوان.
بناء على كل ما تقدم من تحركات وتصريحات، لا يمكن القول بان الظروف المحيطة بالعراق والتي سبقت دخول الجيش العراقي الكويت، بانها كانت ظروفا عادية او ان منطقة الخليج العربي قد استعادت بالفعل قسطاً من الهدوء والاستقرار بعد سنوات الحرب الثمانية التي كانت فيها مشدودة بكل اعصابها لمجريات الاحداث في ميادين القتال الذي كان دائرا بين العراق وايران.
وفي الاشهر التي سبقت 2/اب لم يترك العراق باباً الا وطرقه لتسوية الخلافات التي كانت قائمة بينه وبين الكويت، وكان واضحا في مواقفه سواء على صعيد الاوبك او على اصعدة اللقاءات العربية، مثل مؤتمر قمة مجلس التعاون العربي الذي انعقد في شباط من عام 1990 او مؤتمر القمة العربية التي انعقد في بغداد في ايار/ 1990. كما وقام بتوسيط عدة دول خليجية وخاصة السعودية التي بذلت جهودا كبيرة لتسوية الخلافات واستضافة وفوداً من الطرفين لهذه الغاية. لكن الكويت كانت تستند للجدار الامريكي الذي كان يدفعها لمزيد من التعنت، ولم تسأل الحكومة الكويتية نفسها عن الاسباب او الغاية التي يمكنها ان تحققها من وراء هذه الممارسات.
وعندما وصلت الامور الى الطريق المسدود الذي رفض فيه شيوخ الكويت حتى ان تدفع السعودية الحصة الكبرى من المبالغ المختلف عليها وتمهيد الطريق لفتح صفحة جديدة من العلاقات بين بغداد والكويت. عندها وجدت القيادة العراقية نفسها مضطرة لاتخاذ قرار دخول الكويت. وهذه الخطوة من جانب العراق افقدت الادارة الامريكية صوابها وجعلتها تنتقل من التحدث باللغة الدبلوماسية المنمقة الى اللغة (السوقية المبتذلة) وتستعمل اقذع الاوصاف والالفاظ ضد صدام حسين. وانجرت وراءها اغلب الدول الغربية بشكل تلقائي وفضلت عدم ردها عن غيها هذا رامية هي الاخرى مبادئ الانسانية والديمقراطية من خلف ظهرها، واخذت تدق معها طبول الحرب وتشحذ المهم تخوفاً من انقطاع النفط عنها.
وهذه قضية حساسة للغاية اخذ الغرب يستغلها منذ يوم 2/اب حيث اعتبرت الاوساط الغربية ان العراق بسيطرته على الاحتياط الهائل من النفط في الكويت، وبالودائع والاستثمارات الكويتية في الخارج، يستطيع تركيع العالم المالي والصناعي الغربي.
فور دخول القوات العراقية الكويت، بدأت تحركات الادارة الاميركية واتباعها.. ففي يوم 4/ اب صدر قرار اميركي بتجميد ارصدة العراق والكويت في البنوك الخارجية بغية منع العراق من الاستفادة من أي مبالغ مالية في الخارج، وقد التزمت جميع الدول الغربية بهذا القرار، ولحق به قرار صادر عن مجلس الامن رقم (660) يقضي بفرض انسحاب عراقي فوري من الكويت، وبعدها تم افشال مؤتمر القمة العربي الاستثنائي الذي انعقد في القاهرة والذي كان يتوخى تسوية الازمة عربيا.
وفي هذه الاثناء كانت السعودية واضحة في موقفها والمتمثلة بمعارضة استقبال قوات اجنبية في اراضيها بهدف اخراج العراق من الكويت بالقوة. لكنه بعد وصول وزير الدفاع الاميركي اليها في السابع من اب/ 90 تغير موقفها بحيث التزمت باستقبال قوات اميركية وقوات حليفة اخرى.
ومنذ ذلك الوقت اخذت واشنطن تحول وبشكل فاضح مجلس الامن الى اداة طيعة في يدها، فتعاقبت القرارات التي اخذت تعزل العراق بشكل كامل وتفرض عليه حصارا محكما برا وبحرا وجوا. ولم تتحرك الادارة الاميركية لاي طرف يقع تحت نفوذها او تستطيع الضغط عليه، لم تترك له أي مجال لاتخاذ موقف حيادي، واخذت تهيء الظروف الاقليمية والدولية للضربة العسكرية الذي اخذت الدول الغربية والشرقية على حد سواء للاسهام بها ارضاء لخاطر الولايات المتحدة التي وزعت الادوار والاعباء. والدول التي حاولت التوسط مثل الصين مارست ضغوطا عليها بكل الوسائل للكف عن مثل هذه المحاولات.
ففي 5/ ت2/ 90، ذكرت انباء صحفية، ان بريطانيا واميركا حذرتا الصين من مغبة طرح مبادرة لحل ازمة الخليج سلميا خلال جولة وزير خارجية الصين (جيان جي تشن) للدول العربية والتي دعا فيها لحل عربي لازمة الخليج. حيث قال اثناء مباحثاته مع بعض الزعماء العرب: ان الموقف الصيني يدعو لانسحاب العراق من الكويت وسحب القوات الاجنبية من منطقة الخليج وتسوية الازمة في اطار العمل العربي.
وقالت صحيفة الاتحاد الظبيانية نقلا عن مصادر حكومية في واشنطن ولندن انهما ربطتا هذه المساعي بمسألة التعاون الاقتصادي بينهما وبين الصين بموقف الصين من هذه القضية، خاصة فيما يتعلق بالجانب السياسي لحل الازمة.
واثناء ما كانت بريطانيا واميركا تدقان طبول الحرب وتحشدان القوات العسكرية في الخليج العربي، كان الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران يزور مصر، حيث التقى الرئيس المصري حسني مبارك في 4/ ت2/ 90، بحث معه ازمة الخليج، وحث الاثنان على ضرورة ايجاد حل سلمي للزمة، وشجعا على السعي لاستبعاد أي حل عسكري. ورأى الطرفان ضرورة تطبيق الحظر المفروض على العراق بهدف تحاشي الحرب.
من ناحية اخرى، كشفت صحيفة الشروق التونسية النقاب عن ان قاعدة (راس بناس) المصرية البحرية قد اعطيت للاميركان على اعتبار انها صارت قاعدة دائمة في خدمتهم، وهذه اول مرة يسمح فيها باعطاء اميركا قاعدة عسكرية دائمة في مصر.
وفي هذا الاطار ايضا، حذر وزير خارجية فرنسا الاسبق ميشيل جوبير من ان الولايات المتحدة تريد من وراء تدخلها العسكري في الخليج اعادة توزيع الخارطة السياسية للمنطقة وتنصيب اسرائيل حارسا يقظاً على التقسيمات الجديدة. واكد ان الاميركان لا يريدون حلا للقضية العربية وانما يريدون بشكل اساسي التواجد العسكري بصورة دائمة في المنطقة العربية، فهل يتطابق هذا مع تطلعات الشعب العربي لا الحكومات العربية.
وفي هذا السياق، علقت جريدة الثورة السورية تقول: ان مسعى الولايات المتحدة المزعوم من اجل السلام يهدف الى اخضاع المنطقة العربية باسرها للسيطرة الاميركية واطماعها في النفط، وان هذا المسعى ظاهره من اجل السلام وباطنه التشجيع على العدوان بغية اخضاع المنطقة العربية باسرها للسيطرة الاميركية واطماعها في النفط، وان دعم اسرائيل هو جزء من خطة عدوانية تستهدف تمكين اسرائيل من تنفيذ اطماعها في تصفية القضية الفلسطينية وبلوغ هدف اسرائيل الكبرى.
والموقف السوفياتي في تلك الفترة التي سبقت العدوان، كان يتمثل في دعوة الملك الحسن الثاني للعمل على عقد قمة عربية استثنائية لبحث ازمة الخليج، وهذا ما نادى به نائب وزير الخارجية السوفياتي بيلونوغوف اثناء جولة له في دول المغرب العربي، وقد حث العراق على الانسحاب من الكويت، واكد مجدداً ان بلاده تعارض ضم العراق للكويت وانها تقف لجانب تحركات مجلس الامن الدولي من قضية الخليج.
اما بريماكوف المبعوث الخاص للمنطقة العربية من الزعيم السوفياتي، فانه دعى الى تاخير اصدار قرار من مجلس الامن يجيز استخدام القوة ضد العراق. وذلك لافساح المجال للتفاوض بشأن انسحاب العراق بشكل سلمي من الكويت، واذا ما فشلت هذه المبادرة فلا يتعين على مجلس الامن الموافقة فقط بل يجب القيام بعمل عسكري شبه فوري ضد العراق، وقال: انا لا اؤيد التهديدات الجوفاء بامور خطيرة.
وفي مقابلة مع التلفاز الاميركي قال بريماكوف: انه يعتقد ان العراق يخفف على ما يبدو من موقفه، وانه مستعد لسحب قواته من الكويت مقابل تعهد باجراء محادثات بشأن مشكلات الشرق الاوسط.
وموقف تركيا لم يكن واضحا بعد زيارة جيمس بيكر وزير الخارجية الاميركية لانقرة في شهر تشرين الثاني من عام 90. فقد اعلن الناطق بلسان وزارة الخارجية التركي: انه لم يعط لبيكر ضمانات تركية للاشتراك في تدخل عسكري محتمل ضد العراق، لكنه كرر ان قرارات الامم المتحدة ومجلس الامن ستكون ملزمة، وانه ليس لتركيا اية مطالب اقليمية لا من جارتها سوريا ولا من العراق. وان تركيا تحترم سلامة العراق الاقليمية كما كانت قبل ازمة الخليج.
اما الادارة الاميركية، فقد كان لها تصوراتها الخاصة. ففي مؤتمر الامن والتعاون الاوربي الذي انعقد في باريس في 20/ ت2/ 90، اكد الرئيس بوش ان نجاح وثبات المبادئ الديمقراطية في اوربا رهن بتطبيقها في شتى انحاء العالم، ويجب الدفاع عن هذه المبادئ في الخليج بالعمل من اجل انسحاب العراق من الكويت.
وقال: ان المبادئ التي قادت نجاحنا في اوربا ليست لها حدود جغرافية، وهذه المبادئ تنتهك بشكل صارخ في الخليج، وانه اذا كانت اوربا والولايات المتحدة متفقان على مبادئ حقوق الانسان ونظام دولة القانون، وتريد المحافظة عليها في قارتينا، فانه يتعين عليها المحافظة عليها في جميع انحاء العالم.
الا ان رئيسة الحكومة البريطانية السابقة مارغريت تاتشر، كانت اكثر منه صراحة، حيث قالت: ان الولايات المتحدة وبريطانيا متفقتان على التقدير بان القوة العسكرية ستستعمل اذا لم ينسحب العراق من الكويت.
وليس في كلام بوش او تاتشر المعلن مربط الفرس في الازمة بل في كلام وصيفهما بريان مولروني رئيس الحكومة الكندية الذي قال: ان التسلح الفائق للعراق يفسر جزئيا ازمة الخليج، وان الوضع الحالي في الخليج يرغمنا على الاقرار بان مراقبة افضل من ذي قبل لصادرات الاسلحة يجب ان تصبح شأن العالم اجمع.
اذن، فالازمة بالنسبة للغرب لا تتمثل في الديمقراطية المهددة في الخليج ولا في المبادئ او في نظام دولة القانون كما ادعى بوش بانها باتت مهددة في الخليج وانما في التسلح الفائق للجيش العراقي، وان الوضع القائم يرغم الغرب على تجاوزه.
وهذا التصريح من رئيس الحكومة الكندية مولروني ليس جديداً، فقد سبقته جريدة واشنطن بوست الاميركية، واعلنت عنه حيث قالت: ان تصريحات الرئيس صدام حسين التي هدد بها اسرائيل، دقت جرس الانذار عند اثنين من مساعدي وزير الخارجية الاميركي جيمس بيكر، وهما مدير التخطيط السياسي دينيس روس، ومساعده لشؤون الشرق الاوسط جون كيلي اللذان قالا لبيكر على الولايات المتحدة ان تبعث برسالة واضحة للعراق، وتفرض عليه عقوبات اقتصادية جديدة، وتحد من الصادرات الاميركية للعراق، وترسل له اشارة فيها انها متشددة في موقفها تجاه الازمة.
وفي هذه الاثناء بدأت الجماعات الصهيونية تتحرك لمنع بيع اميركا للسعودية صفقة سلاح قيمتها (14) مليار دولار، وبذلك انتقلت التنظيمات الصهيونية من المعارضة الصامتة الى العلنية في مواجهة التهديد المحتمل مع العراق، وقال سولتانيك نائب رئيس المنظمة اليهودية العالمية: ان مبيعات الاسلحة للسعوديين لن تردع العراق ولن تضمن سوى ضرورة بقاء الجنود الاميركان هناك.
واستشهد سولتانيك بالكويت كمثال على ضياع اسلحة غربية بمليارات الدولارات بتدمير القوات العراقية لها او استلائها عليها خلال (12) ساعة.
وقال معقباً: نحن نؤيد سياسة بوش في مسألة الخليج لكننا لن ندع اسرائيل تصبح كبش فداء لتلك السياسة.
الا ان الكيان الصهيوني ليس كبش الفداء كما يزعم هذا الصهيوني الاميركي وانما المنطقة العربية وغيرها هي اكباش فداء للاطماع الصهيونية- الاميركية. فقد اكد رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الاوربي وقتئذ كلود شيسون: ان اسرائيل قامت بدفع الولايات المتحدة للاسراع في العدوان على العراق بغرض تدمير قدراته العسكرية. ونبه الى خطورة المعضلات التي تواجه المنطقة العربية ولا تقبل الانتظار طويلاً. وجاء ذلك في حديث مع جريدة الصباح التونسية.
من الطبيعي ان هذا الباع الطويل للغرب والصهاينة في المنطقة لم يكن متوفر دون التغيرات التي طرأت على الاتحاد السوفييتي السابق ودول اوربا الشرقية التي اخذت تتسابق في دفع المهاجرين اليهود للكيان الصهيوني او تقديم نفسها كجسر يعمل ليل نهار لنقل اليهود السوفيت الى الكيان الصهيوني بغية كسب ود واشنطن وتل ابيب.
هذه السياسة من جانب الاتحاد السوفياتي بشكل خاص ضمنت له حضوراً واضحاً في المنطقة العربية، وصار شريكا معترفا به في هذه المنطقة، ولم يعد هذا الحضور يلقي معارضة من السعودية والكيان الصهيوني وبقية حلفاء اميركا وحتى الاخيرة نفسها.
وقد توقع احد مسؤولي وزارة الخارجية الاميريكية في بداية ازمة الخليج حدوث تعاون بين اميركا والاتحاد السوفياتي لحل جميع نزاعات المنطقة العربية، وان هذا التعاون برزت معالمه في قمة هلنسكي التي انعقدت في العاصمة الفلندية بين بوش وغورباتشوف في تشرين اول من عام 1990.
وقال هذا الديبلوماسي الاميركي: ان من المنطقي ان يرحب الرئيس بوش بالاتحاد السوفياتي كشريك ليس فقط في نظام دفاعي اقليمي خاص بالمنطقة العربية، بل وكذلك في ضمان تسوية النزاع العربي- الصهيوني وان اعادة احياء عملية السلام الصهيونية- الفلسطينية تحت رعاية الامم المتحدة والتي تخلى عنها الكيان الصهيوني قبل التأييد الفلسطيني للعراق اصبحت ضرورة كحل بديل للعنف والارهاب.
على اية حال، فان التعاون الاميركي- السوفياتي لادارة دفة تطوير الاحداث في العالم لا سيما في منطقتنا العربية صار السمة الاساسية، وقد تجلى ذلك ابان وبعد ازمة الخليج. ففي 18/ ايلول/ 1990 قالت مصادر حلف شمال الاطلسي في بروكسل، ان الاتحاد السوفياتي وافق على اعارة اميركا سفينة ضخمة لنقل المعدات العسكرية الى الخليج في بادرة ملفتة للنظر للتعاون في فترة ما بعد الحرب الباردة.
وقال مصدر مسؤول في الحلف: ان هذه سابقة لم تحدث من قبل ولم يكن هذا الامر يصدق في يوم من الايام، والان تم تقديم هذا العرض للاميركان الذين قبلوه بدورهم.
وقضية التعاون السوفياتي- الاميركي والوفاق بينهما على حساب المنطقة العربية، قضية معروفة قبل 2/ اب/ 1990، وقد نبه لها الكاتب المصري المعروف لطفي الخولي الذي قال: ان العالم العربي صار موضوعا اساسيا وميدانيا لمعركة بناء الوفاق الدولي الصعبة سيما وان الولايات المتحدة ترى في نهج الاصلاح السوفياتي تحدياً لها، وان العالم الثالث وبشكل خاص العالم العربي هو الميدان الرئيس لوضع سياسة الوفاق الدولي مع الاتحاد السوفياتي موضع الاختبار والتجربة، الامر الذي سيفجر بشكل حتمي قلقا ملحوظا في العالم العربي، سيما وان سياسة الوفاق ستبقى حتى اواسط التسعينات على الاقل تراوح بين المد والجزر حتى تستقر عند منتصف الطريق التاريخي، وبعدها يتم اللقاء وبناء عالم جديد سواء بالرضا او بالاكراه، من جانب الدول المتقدمة والدول النامية على حد سواء.
ويضيف الخولي في تحليله الذي سبق به الاحداث فيقول: ان مرحلة توازن المصالح قد حلت محل توازن التسلح، والمنطقة العربية المتاخمة لحدود الاتحاد السوفياتي وذات القدرة الاختصاصية الهائلة تخلخل توازن المصاالح الذي يسعى كل من الطرفين لبنائه حسب متطلباته.
والرئيس الاميركي بوش وضع تصورا مرحليا للنظام الجديد هذا، ففي خطاب له القاه امام الكونغرس في 11/ ايلول/ 1990، قال: ان نظاما دوليا جديداً سيولد من هذه الازمة المظطربة، لان ازمة الخليج وعلى خطورتها تشكل مناسبة استثنائية للتقدم نحو مرحلة تاريخية للتعاون بين الشعوب.
وتقول مجلة (Le point) الفرنسية في ردها على هذا التصور: اذا ما تجاوزنا الجانب الايديولوجي النظري، فان الخطاب يكشف النقاب عن الاستراتيجية، وان انتهاء الحرب الايديولوجية بين الشرق والغرب، والضعف المتنامي الذي يصاب به منافس الامس (موسكو) يسمحان للولايات المتحدة بان تخرج بمكاسب لم تكن ليألمها سابقا من القضية.
هذا، وقد تنبأت المجلة الفرنسية، بان الضعف يكمن في القوة الاميركية التي حشدتها ابان ازمة الخليج، حيث تقول: وتبدو مخاطر التراجع الاقتصادي حقيقة بالنسبة للولايات المتحدة، فالمؤشرات الاقتصادية ليست حسنة، والتضخم المالي يبدو بئرا دون قعر، في الوقت الذي تنشر فيه حكومتها قواتها العسكرية، كما لم تفعل منذ حرب فيتنام ويصل الاميركان الى واقع يدركون فيه انهم لا يملكون وسائل تنفيذ سياستهم، مما يشكل سببا هاما للقبول بواقع ان عليهم من الان فصاعدا ان يتقاسموا اكثر من ذي قبل مسؤوليات التزاماتهم ومواقفهم الاستراتيجية، كما يتقاسمون مصاريفها مع سواهم.
من هنا، فان بوش يتذمر من الوضع الذي نجم عن الحرب مع العراق، فلا هو استطاع قصم ظهر العراق عسكريا وسياسيا (وقتئذ) وفشل في تليين موقف الكيان الصهيوني، ولم يجعل من الكويت دولة يحكمها القانون والحضارة العصرية والديمقراطية، ولم يرض الاطراف التي تحالفت معه في الحرب، واخذ يعلن على رؤوس الاشهاد، انه صار من المستحيل عليه حشد هذه القوى مرة ثانية اذا ما اخفقت مساعيه في اطفاء الحرائق السياسية المضطربة والمتعددة في المنطقة العربية او غيرها من مناطق العالم الغاصة بالازمات… سيما وانه صار الطرف الوحيد في العالم الذي يصر على ان تسير الامور حسب اهوائه بعد ان اصاب الشلل التام جميع الهيئات الدولية.
* المراجع:
– صحيفة الاتحاد (الظبيانية)، العدد- 28/9/1988.
– صحيفة الرأي (الاردنية )، الاعداد- 14/ 5/ 1989، 22/11/1989، 18/ 3/1990، 1/4/1990، 20/11/1990، 18/10/1990، 19/9/1990، 14/5/1990.
– صحيفة الدستور (الاردنية)، الاعداد- 1/12/1988، 12/10/1989، 12/7/1990، 5/11/1990، 6/11/1990، 3/11/1990، 7/11/1990، 18/11/1990، 30/9/1990.
– صحيفة صوت الشعب (الاردنية)، الاعداد- 26/11/1988، 2/4/1989، 5/11/1990، 12/11/1990، 10/10/1990، 23/9/1990.
– صحيفة الثورة (العراقية)، العدد- 23/1/1992.
[email protected]